الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مرض بلا دواء

مرض بلا دواء
16 سبتمبر 2011 01:31
في طفولتي كانوا يطلقون عليَّ لقب القطة بسبب عيوني الملونة وبشرتي الشقراء وشعري الأصفر الذي لا يحتاج إلى تصفيف ورقتي في الحديث وخفة دمي وبراءتي. ولم تكن عندي شراسة القطة إذا تعرض لها أحد بالمضايقة إنما كنت أنسحب من الموقف وأهرب من المواجهة حياء، وأختي هي الأخرى بنفس الصفات رغم أنها تصغرني بحوالي أربع سنوات إلا أن من يرانا ولا يعرفنا يعتقد أننا توأم ودائماًِ ما كنا نسمع وصف الأختين الحلوتين، وبالطبع كان الوصف يسعدنا لكنه في نفس الوقت يجعلنا في حالة حياء تحمر لها بشرتانا بوضوح قد يثير الشفقة ونحن نحاول أن ننزوي بعيداً عن الموقف والمكان، وكان لهذا الجمال الذي أتمتع به وتلك المواصفات الأثر الأكبر في تهافت الخطاب على بيت أبي طالبين يدي منذ أن كنت طالبة في الثانوية العامة غير أن أبي كان يرفض لأنني ما زلت صغيرة ولم أكمل دراستي ويرى أنني يجب أن أكمل تعليمي وأن الشهادة العالية ستكون هي سندي في الحياة أتسلح بها ليس فقط من أجل المال والعمل، وإنما أيضاً من أجل الوضع الاجتماعي ونضج شخصيتي المدعومة بالعلم ووضعي الاجتماعي حتى لو تزوجت من شاب ثري. بالطبع كانت المفاجأة ثقيلة بالنسبة لي عندما تقدم معلم اللغة الإنجليزية الذي كان أستاذي في المدرسة يطلب يدي دون سابق إنذار وإن كانت نظراته لي عادية في الفصل ولم يظهر لي أي تلميحات من قبل لكن أدركت فيما بعد انه كان حريصاً على ألا يلاحظ أحد إعجابه بي فيمس ذلك سمعتي وسمعته ولنفس السبب الذي كان أبي يرفض الخطاب لم يقبل مطلبه بالإضافة إلى فارق السن بيني وبينه والذي يصل إلى عشر سنوات اعتبرها البعض عادية ولا تمثل مشكلة ومن هؤلاء أمي التي كانت تبدي الموافقة على كل عريس يتقدم ولا ترى فيه إلا المميزات، ربما لأنها تريد أن تزوجني مبكراً من قبيل حبها لي ورغبتها في أن تراني في بيت الزوجية مع أن أقاربي جميعاً وفي مقدمتهم أخوتي الفتية الثلاثة وأبي يرون أنني يجب أن تكون زيجتي غير عادية لأنني سأحصل على مؤهل عالٍ، بالإضافة إلى جمالي الذي كان السبب الأول في تهافت الشباب على بيت أبي وبجانب هذا فإنني من أسرة ميسورة الحال وأن لم ترق إلى مصاف الثراء أو الغنى الفاحش وإنما نعيش في ستر ونجد كل احتياجاتنا بلا معاناة. موقفي تأثر بعد رفض المعلم لأنني كنت محور الاهتمام بين زملائي وزميلاتي في المدرسة وهذا قد يكون لفت إليّ الأنظار أكثر وإن لم أكن أجمل واحدة في المدرسة، وشعر المعلم أنه أصيب بجرح في مشاعره وأنه مهزوم بالقاضية من أول جولة وأن زملاءه المعلمين وحتى الطلاب بدأوا ينظرون إليه بهذه النظرة فقرر الانتقال إلى مدرسة أخرى لكي يضع نهاية لهذا الأمر، لكن الموقف لفت نظري إليه وشعرت أنه إنسان طيب ومحترم بتصرفاته النبيلة كلها وربما بحكم فترة المراهقة التي كنت أعيشها تحركت أحاسيسي نحوه، ولكن في صمت وبعد فوات الأوان كأنني اكتشفته فجأة وإن لم تصل إلى مرحلة الحب الحقيقي، لكن تكرار تقدم الخطاب جعلني أترقب للاختيار وأفاضل بيني وبين نفسي بينهم وأعقد المقارنات وأحياناً أتمنى لو أن أبي وافق على أحدهم لأن حلمي مثل كل فتاة أن أتزوج وأستقر في بيت الزوجية، بينما أعود وأتراجع وأفكر ملياً وأجد أن من الحكمة أن أتزوج من يختاره قلبي ليكون بيننا توافق وعشرة حسنة. انتقلت إلى مجتمع الجامعة الأرحب والأوسع المختلف عن أجواء المدارس وفي السنة الثالثة وجدت من بين زملائي من يلمح لي بمشاعره نحوي ويحوم حول معرفة مشاعري نحوه وهو يهديني بعض الروايات الرومانسية أو الدواوين الشعرية وفطنت بالطبع لذلك، ولكن تجاهلته وحاولت أن أضع حداً لذلك وإن كنت لا أرفضه إلا أنني لم أصل بعد إلى مرحلة أن أحبه وعندما فكرت في هذه العلاقة بالعقل وجدتها لا تصح لأن ظروفه مثل آلاف الشباب من أمثاله ما زال أمامه مشوار طويل كي يكوّن نفسه ويحصل على فرصة عمل ثم مسكن مناسب خاصة أنني أعرف أنه من متوسطي الدخل وأن أبي لن يقبله فقررت أن أضع النهاية بنفسي قبل أن أجبر عليها وان كانت النتيجة قاسية عليه اآن إلا أنها أقل تأثيراً لو أننا عشنا في الأحلام وابتعدنا عن الواقع. فور تخرجي وحصولي على الشادة تلقيت التهاني المزدوجة فقد وافق أبي على أول خاطب جديد شاب يكبرني بسبع سنوات يمت لنا بصلة قرابة من بعيد أخبرني فيما بعد أنه كان يحبني منذ سنوات ويتعذب كل ليلة خشية أنه يسبقه أحد إليَّ، بل أقسم لي أنه كان على استعداد ألا يتزوج أبداً إذا لم يوافق أبي به وأنه كان يجد ويجتهد ويكافح من أجل أن يكون مستعداً لهذه اللحظة لأنه يعرف شروط أبي المسبقة وأنه لم يتسرع في التقدم لي حتى لا يتم رفضه ولا يستطيع أن يتقدم لي مرة ثانية ويرى أنه تصرف بحكمة، لكن الصبر والمعاناة كانت أكثر مرارة. وقال لي إنني هدية السماء التي أهداها الله إليه وأفضل شيء يحصل عليه في حياته وهذا وحده يكفيه حتى لو لم يكن معه أي شيء آخر. بالطبع كانت هذه أول مرة أسمع فيها هذا الكلام الصريح الذي جعلني أشعر بنفسي وحرك مشاعري نحوه وهو يفيض عليّ بتعبيراته الرقيقة فكان أول من أحببت بصدق واسترحت له وكم كانت سعادته وقد اكتملت بعدما ألمحت له بذلك عندما ألح عليّ لمعرفة مشاعري نحوه وكانت أشهر الخطبة أسعد أيام حياتي كلها على الإطلاق ولأول مرة تراودني أفكار التعجل لإتمام الزواج وان لم أقلها صراحة. انتقلت إلى بيته وأنا أدعو الله أن يتم فرحتي وسعادتي ووجدتني مع زوج عاشق ولهان أكثر من كل من عرفتهم في التاريخ وقرأت عنهم حتى أنني أطلقت عليه لقب قيس غير أن قيساً لم يتزوج ليلى، بينما هو فاز بي وتزوجني، وكانت أمنياتي وأحلامي عنده أوامر حتى أنني شعرت بضعفه الشديد أمامي بسبب حبه لي يسابق نفسه ليحقق لي كل ما أريد وان لم أطلبه ويحاول أن يضعني في عينيه لو استطاع ثم يغمض جفنيه حتى كدت أحسد نفسي على كل هذا العطاء والرومانسية المفقودة في هذا الزمن. ويبدو وكأنه من المحال أن تكتمل السعادة أو تدوم فبعد أشهر قليلة بدأت المشاكل تتسلل إلى عشنا الهادئ ولم أجد لها تفسيراً إلا أنها من أثار الحسد لأن زوجي مريض بداء لا علاج له ولا دواء أنه داء الغيرة القاتلة، فقد رفض أولاً أن أعود إلى عملي بعد أن انتهاء شهر العسل بحجة أنه لم يشبع مني بعد، ثم طلب مني أن أحصل على إجازة بدون مرتب ووافقت تلبية لرغبته ونزولاً على أمره فأنا في النهاية لا يهمني سوى راحته، لكن ظهرت عليه الأعراض بشكل متسارع واشتدت بما لا يحتمل، فقد قام بتمزيق صوري القديمة مع أولاد آخرين ونحن أطفال ويؤنبني لأني أقف في الشرفة أشتم الهواء ويلومني لو أن أحداً نظر إليّ نظرة عابرة إلى في الشارع وهو معي أتأبط ذراعه ويوجه إليَّ الاتهامات بأنني كنت على علاقة بكل من تقدموا لخطبتي من قبل، وأصدر أوامره بعدم فتح النوافذ أو النظر إلى الشارع حتى في وجوده، بل زاد على ذلك بأنه كان يقوم بجمع الملابس المغسولة بدلاً مني حتى لا ينظر إليَّ أحد من الجيران أو المارة وأصبح عصبياً بلا داع فاستشعرت ذلك كله فيه وليس بيدي ما أفعله إلا أن أستجيب لمطالبه وأوامره، وإن كنت غير قادرة على مجاراته إلى النهاية وتطورت حالته إلى أبعد من ذلك فأصبح يغار لو أنني أبديت إعجابي بممثل أو حتى بممثلة فضقت به وبتصرفاته وتبددت السعادة وغادرت بيتنا وحل محلها القلق والتوتر وانقلبت حياتنا رأساً على عقب. قدوم طفلنا الأول لم يغير من الأمر شيئاً، ولم يستطع أن يحكم عقله ويتعامل معي بواقعية، فأنا في غاية الالتزام والحشمة في ملبسي وغاية الانضباط في تصرفاتي ولا يصدر مني ما يخالف أوامره أو ما يخالف الأخلاق مع أي شخص، لكنه وصل إلى مرحلة أن يغار من محارمي إذا صافحت أحدهم أو تحدثت معه في وجوده ووصل إلى مرحلة الخطر عندما تحولت غيرته إلى الشك وهذا ما لم أستطع تحمله أو تقبله ولا حتى مناقشته لأنه يطعن كرامتي، فقد فََقَد عقله وحاول أن يلمح لي بأن هذا المولود قد لا يكون ابنه وإن لم ينطق بها صراحة، لكنه طعنني في مقتل حتى أنني عدت غاضبة لأول مرة إلى بيت أبي ولم أستطع أن أذكر سبب الخلاف وجاء بسرعة ليعيدني فعدت معه حتى لا يصل الأمر إلى مسامع الآخرين ويتحوَّل إلى حديث نميمة عني وقد حذرته بلهجة شديدة لا تهاون فيها فبكى، وقال إن ذلك خارج عن إرادته ووعدني ألا يعود إلى ذلك أبداً. زوجي المريض كان يتعذب على الجمر بين نارين نار حبه ومرضه بالشك وأنا لا أملك له دواء فلم يستطع أن يفي بوعوده واستحكم به المرض حتى هان عليه أن يضحي بي ليستريح من ظنونه وتلقيت طعنة غادرة منه وطلقني واصطحبت صغيري وعدت إلى بيت أبي أحمل اللقب اللعين بلا ذنب، وهذا لم يكن المشكلة الوحيدة التي تواجهني الآن وإنما الضغوط التي أواجهها من أسرتي لقبول أحد المتقدمين لي وهم أيضاً كثر، لكن لا أستطيع أن أضحي بولدي فلذة كبدي لأنه سيعود إلى أبيه وأحرم منه إلى الأبد. ومن جانبي لا يهمني شبابي ولا حياتي مقابل أن يبقى ابني في أحضاني ولست حائرة في اتخاذ القرار وإنما غير قادرة على الصمود أمام ضغوط أسرتي خاصة وأنهم يرون أن هذا الولد ابن الرجل الذي غدر بي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©