الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن سيد درويش.. القديم

البحث عن سيد درويش.. القديم
14 سبتمبر 2011 22:09
يصادف اليوم الخامس عشر من شهر سبتمبر الجاري، الذكرى الثامنة والثمانين لرحيل فنان الشعب سيد درويش، واسمه الحقيقي السيد درويش البحر، ابن مدينة الاسكندرية الذي قيل إنه المجدّد في الموسيقى العربية وقتها، كما أرسى القواعد الصحيحة للأغنية الوطنية البسيطة بالشكل والجوهر، وأغاني الناس البسطاء، التي يتمكن المواطن العادي من حفظها وترديدها، ومن تلك الأغاني على سبيل المثال: الصنايعية، الحمّالين، البرابرة، يا بلح زعلول، والنشيد الوطني المصري، وأغنيته الشهيرة “قوم يا مصري” وغيرها كثير.. فقد زادت الألحان التي قدّمها في عمره القصير الذي لم يتجاوز الـ 30 عاما على 80 لحناً، من خلال عدد من الأوبريتات والمسرحيات الغنائية لكل من جورج أبيض ونجيب الريحاني وعلي الكسّار، ومن أهم المسرحيات الغنائية التي قام بوضع الألحان لها مسرحية “فيروز شاه” و”ولو”. أحمد علي البحيري في سيرة سيد درويش البحر أنه ولد في 17 مارس عام 1892م، بحي كوم الدكة قسم العطارين بالإسكندرية، لأسرة متواضعة الحال وكان الولد الوحيد لوالديه وله ثلاث شقيقات هن فريدة، ستونة، وزينب. التحق سيد وهو في الخامسة من عمره بأحد الكتاتيب وذلك ليتلقى العلم ويحفظ القرآن، توفي والده وهو في السابعة من عمره، وقامت والدته بإلحاقه بإحدى المدارس، وبدأ ولعه بالموسيقى والغناء منذ أن كان صغيراً وبدأت تتضح هذه الموهبة من خلال مدرسته وحصة الموسيقى، حيث كان يقوم بحفظ الأناشيد وتفوق في هذا على زملائه. بدأ ينشد مع زملائه ألحان الشيخ سلامة حجازي، والشيخ حسن الأزهري، ثم التحق بالمعهد الدّيني بالاسكندرية عام 1905، ثم بدأ رحلته مع الغناء في المقاهي وعدد من الفرق الموسيقية، حتى عام 1914 حيث تمكن من إتقان العزف على العود وكتابة النوتة الموسيقية، ملحناً أول أدواره بعنوان “يا قلبي ليه بتعشق”، ولما ذاع صيته انتقل إلى القاهرة عام 1917، حتى قامت ثورة عام 1919، فغنّى لها “قوم يا مصري”، مستمراً نجمه في الصعود كفنان شعبي أصيل، أسهم في إدخال الغناء البوليفوني في عدد من الأوبريتات منها “العشرة الطيبة” و”شهرزاد” و”البروكة”. بلغ إنتاجه في حياته القصيرة نحو 40 موشحاً، و100 طقطوقة، و30 رواية مسرحية وأوبريتاً، وعرف عنه أنه ما كان يصدر لحنا جديداً حتى يردده أفراد الشّعب والمسارح الغنائية وموسيقات الجيش بطلاقة تمنح اللحن شعبيته وتواصله في المناسبات وغيرها. وكان لافتا أن يحدث درويش كل هذا التطور في عالم الأغنية والموسيقى واللحن في ظروف تعتبر محدودة الإمكانيات العلمية، فلم تكن وقتذاك معاهد فنية وموسيقية، ثم إن هذا الفنان البسيط لم يستكمل دراسته الموسيقية في أوروبا مثلاً، بل كان فنانا عصاميا نبت في بيئة شعبية، والتصق بها، وعاش في عمقها على المستوى الوطني، لدرجة أنه قبس بضع عبارات من خطب الزعيم مصطفى كامل وصنع منها مطلعاً للنشيد الوطني “بلادي بلادي/ لك حبي وفؤادي”، كما نظم نشيداً وطنياً من كلمات مصطفى صادق الرافعي ومطلعه: “بني مصر مكانكم تهيأ فيا/ مهدوا للملك هيا/ خذوا شمس النهار حليا”. كما اعتاد تقديم ألحان وطنية متدفقة في المناسبات الوطنية، مثل ذلك النشيد العظيم الذي قال فيه: “أنا المصري كريم العنصرين/ بنيت المجد بين الأهرامين/ جدودي أنشأوا العلم العجيب/ ومجرى النيل في الوادي الخصيب/ لهم الدنيا آلاف السنين، ويفنى الكون وهم موجودين”. تغيير المفاهيم في ذكرى رحيل سيد درويش اعتادت الأوساط الثقافية والفنية العربية وبخاصة في مصر والمغرب العربي الاحتفاء بذكراه والإشادة بعبقريته ودوره في تغيير نمط وقالب الأغنية العربية، في إطار أصول الموسيقى العربية. لكن في تقديري أن الأهم من هذا كلّه، هو أن نحتفي بهذا الفنان الكبير “موضوعيا”، بأن ندرس إنتاجه الفني لنرى بالمقاييس العلمية كيف أمكن له أن يطوّر موسيقانا من مرحلة بسيطة تقليدية إلى مرحلة متقدمة جداً، وأن يدرك بموهبته وخياله وذكائه ووطنيته الصافية الطريق الحقيقي لهذا التطور وسبل إدخال الشعب في ثقافته وفنّياته، فيربط الموسيقى بالمسرح وبالناس وبالحياة الاجتماعية وبالموضوعات الفنية، ويضعها في وظيفتها في خدمة الوطن بالأسلوب الموسيقي بما حقق بجدارة ثقافة موسيقية جماهيرية لا نجد لها مثيلا حتى اليوم. إذن كيف نعلل ما أحدثه درويش ببساطته من تطوير في فن الموسيقى؟ وما أحدثه من تغيير أو تصحيح للمفاهيم الموسيقية؟ في اعتقادي أن هذه نقطة خطيرة، لأننا في الواقع لا نهدف من هذه الدراسة إلى الإشادة بدرويش فقط، وإنما إلى جانب ذلك نود إلقاء المزيد من الأنوار الكاشفة على الطريق الذي يجب أن تسكله موسيقانا العربية، بعد أن دخل إليها مصيبة ما يعرف بألحان “الفيديو كليب” ونمط الأغنيات السريعة المبتذلة الرخوة، متزامناً ذلك مع انتشار مئات المؤسسات الثقافية والفنية على امتداد الوطن العربي الكبير، وتوافر مئات المعاهد الموسيقية وفرق الأوركسترا، وتجارب ودراسات علمية متخصصة بوجود العديد من كليات الفنون التي تتوزع في الجامعات والأكاديميات، كما توافرت الحوافز من جوائز تقديرية وغيرها في مجال الإبداع الغنائي والموسيقي وكافة أشكال الآداب والفنون. قصور التوزيع من أجل هذا كلّه فإن التغيير الذي حدث في حياتنا، يواجهنا بمسؤوليات كبيرة نحو خلق المسرح الغنائي الجديد، وبخاصة بعد أن ضمر إنتاج هذا اللون الفريد البديع من الغناء في مصر ولبنان، وبقليل في سورية وتونس، وهو اللون الذي يضع الموسيقى والتمثيل في موضعهما الفني، أي كأداة تسهم مع بقية الأدوات الفنية الأخرى في تفكيرنا الفني وفي بناء حياة فنية جديدة تتوازى مع تطور الظاهرة الاجتماعية والسياسية. ربما يكون مسرح سيد درويش هو الأقرب في دراستنا لهذا الجانب، وفي تنفيذه عمليا، أي في خلق هذا المسرح فعلا، وليس مجرد ترديد للعبارات والتوصيات التي تصدر عن المهرجانات الفنية والموسيقية العربية، ونقول ذلك لأن مسرح درويش البحر استطاع في فترته أن يؤدي دوره الوطني في فترة (يقظة شعبية) بحيث يعتبر من أهم معالمها الفنية بل يعتبر بالذات الصورة الموسيقية لثورة سنة 1919 في مصر. ولهذا فإن كثيراً من الدارسين والنقاد أخطأوا فهم وتقييم مسرح سيد درويش، حينما وضعوا أعماله في موزاين نقدية عريبة أو غير صالحة لوزنها، فنحن نعلم أن المرحلة التي وضع فيها الرجل ألحانه وموسيقاه كانت مرحلة تقليدية كلاسيكية محافظة، وهي المناخ الذي وضع فيه جملة من الطقاطيق والموشحات والأدوار في إطار يتناسب والمزاج الغنائي التطريبي للجمهور، ومع ذلك فقد حاول في (آهاته التقليدية) في الأدوار الخروج من هذا الايقاع واستحداث تركيب غير تقليدي، لزحزحة النغمة عن نسقها التطريبي البحت. أيضا في المرحلة التي انطلق فيها إلى الأغاني الجماعية وأغاني الطوائف والألحان المسرحية، فقد تم قياس هذه الأعمال للأسف في إطار المقاييس النقدية المنقولة نقلا حرفيا عن النهج الأوروبي، أو خليط من تلك الأنواع المستخدمة في قياس التراث الشعبي أو الموسيقى المحلية. ثم إننا نخطئ حينما نحاول تقديم إنتاجه بأساليب حديثة، والمقصود بذلك هو تقريب موسيقاه للمعاصرين الذين لا يعرفونها ولم يسمعوها من قبل، وبطريقتنا هذه نعمل على إبعاد الجيل الجديد عنها من حيث لا ندري. كيف؟ إننا مثلا نستخدم كلمة “التوزيع الموسيقي” في أعماله، وهو عنصر مهم في ثراء اللحن والموسيقى بشكل عام، ولكن بشرط أن يكون الانتاج الموسيقي نفسه صالحاً للتوزيع. إن عملية التوزيع هي أولا عملية فهم لطبيعة ووظيفة الآلات الموسيقية من أجل استخدام هذه الآلات في مجالها التعبيري الصحيح، فمثلا آلة (الكمنجة) قادرة على التعبير الإنسيابي، ولا يجوز استخدامها في مجال التعبير بالإيقاعات والعكس صحيح أيضا، فلا يجوز استخدام آلة إيقاعية في التعبير عن جملة موسيقية إنسيابية. ويلاحظ في مقطوعات سيد درويش التي نسمعها موزعة أن التوزيع فيها محدود جداً أو متشابه الأسلوب، وبهذا يمكن القول إن اكتمال قالب اللحن عند درويش قد أغناه عن مسألة التوزيع الحديث أو المعاصر كما يحلو للكثيرين التفاخر به، وقد أشار أحد نقاد الموسيقى إلى أغنية ولحن سيد درويش “زوروني كل سنة مرة” وأدتها السيدة فيروز في توزيع جديد إلى أن ذلك لم يكن جديدا، ولم يضف شيئا إلى إنجاز درويش في تلحين الأغنية، وعلى نحو ما حدث لعشرات الأغنيات القديمة من العصر الذهبي للموسيقى العربية الشرقية الخالصة شكلا ومضمونا، وبخاصة أغاني محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ، وفريد الاطرش وأم كلثوم، والتي جرى توزيعها وأداؤها من قبل مطربين جدد، مما أدى إلى تخريب واضح في تلك الأغاني، بل وإلى تشويهها أداء ولحناً ووزناً وإيقاعاً. نخلص من ذلك إلى أنه لا يجوز استخدام التوزيع في أي عمل غنائي تطريبي. إن التطريب هو من خصائص موسيقانا وأغانينا، وطبعا ليس معنى ذلك أن نتوقف عند مرحلة “التطريب” ولكن إذا أردنا استخدام الأدوات التعبيرية المستخدمة في موسيقى الغرب، فيجب علينا استخدامها في مجالها، أي نستخدمها في الانتاج التعبيري لا التطريبي، وبالنسبة لسيد درويش، من المفيد في نقل ألحانه استخدام التوزيع والكورال المتعدد الأصوات والاوركسترا، ولا نستخدمها إطلاقا في ميلوداته إلا كتجارب تدريبية فقط وليس في العروض الجماهيرية. وفي تقديري أن استخدام التوزيع الجديد في أغانيه الميلودية البحتة هو نوع من (الاقحام) الذي لا يقدم لساحة الغناء سوى أن الناس حينما تسمع المحاولات الجديدة ستصاب بالدهشة والاستغراب، فالقديم الجميل بتراثه وأجوائه، يظل جميلا ومختلفا حينما نردده كما ولد. القديم له رائحة خاصة وطعم خاص والجديد المتسلق عليه يظل دخيلا هجينا غير مفيد. مشكلة المسرح الغنائي والسؤال الذي يطرح نفسه في سياق آخر، هو لماذا تحطم المسرح الغنائي؟ الحقيقة أننا كثيرا ما نخطئ في تهيئة الأذهان لموسيقى سيد درويش وتقريبها للناس، بل إننا أحيانا نستهدف من ذلك الدعاية لأنفسنا وإقامة ضجّة حولنا، بل إن كثيرين ممن يتصدون للحديث عن الرجل لا يعرفون مزاياه الحقيقية، ولا يعرفون عمق موسيقاه. وإذا تناولنا في هذا السياق مسرحه الغنائي على وجه الخصوص، سنجد أن هذا اللون من الفن الاستعراضي العظيم قد تحطم منذ وفاته وترجله عن ساحة الإبداع، وهذه ظاهرة غريبة وتحتاج إلى دراسة وإعادة نظر. ونتساءل هنا: هل كان هو الملحن الوحيد في عصره؟ بالطبع لا! هل الملحنون الذين عاصروه ماتوا جميعا معه؟ طبعا لا! هل كانوا متجهين إلى الأغاني الفردية؟ أبدا، كان في عصره عمالقة وأقطاب من الملحنين والموسيقيين وكان بينهم من هو أغزر منه علما وثقافة ومعرفة بأصول الموسيقى الشرقية والغربية. بل كان من بينهم دارسون ولهم مؤلفات موسيقية، ومعظم ملحني عصره اتجهوا إلى الألحان المسرحية أيضا.. إذن كيف تحطم المسرح الغنائي كله عقب وفاة رجل واحد؟ في الواقع أن الموضوع شائك، ويحمل إشكالياته، فعند استعراضنا لما قدم من اعمال المسرح الغنائي عربيا، سنجد أن اعمالا قليلة نجحت في تحقيق المناخ الحقيقي لهذا اللون من الفن الشامل، وغالبا، أن التجارب الحديثة لم تستفد كثيرا من التراث العريق للمسرح الغنائي في مسرحنا الأول، ومنذ أمد بعيد لم يعد المشاهد المعاصر يحظى حتى بمشاهدة أوبريتات سيد درويش أو غيره من الرواد العرب في هذا المجال الحيوي، ونتذكر ونحن نقول ذلك أن مسرح درويش الغنائي شكل قفزة فنية مهمة عبرت عن يقظة شعبية حدثت في الزمن العربي الجميل للابداع، والذي ما زلنا نتحسر عليه جميعا حتى اللحظة. لو درسنا مسرح سيد درويش من حيث علاقته بالفن وبالحياة، لأدركنا أن هذا المسرح هو نقطة البداية التي يجب أن نبدأ منها ونحن نحتفل بذكراه، وأن نسقط من حسابنا كل انتاجنا الغنائي منذ أن تحطم ذلك المسرح المجيد، ذلك لأن نهضتنا الشعبية تشير إلى يقظة عربية جديدة، بل صحوة نحو تطوير مفهوم الغناء والأغنية واللحن الوطني في ربيع الثورات العربية. نقول ذلك ونؤكد معه أن ارتباط الموسيقى بحياة الناس شيء بديهي وطبيعي، ولكن هذا الارتباط بين حياتنا ومسرحنا الغنائي في مختلف المراحل وفي مختلف التفاصيل هو الشيء الجدير بالدراسة العميقة والبحث من قبل مؤسساتنا الثقافية، باعتبار أن الفن هو مكون أصيل في الثقافة الجماهيرية الأصيلة. الأصالة والتجريب إن إعادة دراسة سيد درويش من جديد، ستفيدنا كثيرا في ترتيب العديد من الأوراق الفنية ومعرفة جديدة لدور الموسيقى والابداع الحقيقي في الألحان والاغنيات، ومدى ارتباطها بسلوك وفكر الناس وتطلعاتهم وامتزاجهم بالأحداث الوطنية، وبذلك نخرج وظيفة الاغنية من دورها الترفيهي إلى دورها الانساني، وإذا عدنا قليلا إلى الوراء، وقلبنا بعض أوراق الماضي، فسنجد أن الغناء بعد أن كان حكرا على الصالونات الفاخرة والسرادقات الضحمة والقصور، أصبح فنا جماهيريا على يد سيد درويش، الذي بدأ يغني للناس وحدهم، وبدأ الناس يغنون معه، ونتيجة لذلك ظهرت الالحان الشعبية البسيطة، وألالحان المعبرة عن العمال وأرباب الحرف، وكذلك الالحان التي تعبر بامتياز عن المشاعر المتدفقة لدى الشعب، إن الغناء في الواقع قد تحول من ظاهرة الترف والطرب والرخاوة إلى ظاهرة الموضعية النابعة من وجدان الشعب وتطلعاته وأحلامه، وتصوير ما يشعر به الناس من مرارة جينما كانوا يجدون أن مصائرهم يتحكم فيها الاستعمار، وأموالهم يتحكم فيها الإقطاعيون، وبذلك تكون الأغنية التي أرسى قواعدها سيد درويش بموازاة المد القومي المنشود، بل والعمل على إشاعته وجعله شعرا للحياة والوطنية.. نقول ذلك بعد أن تغير مزاج الانسان العربي، فبدلا من تلك الأغنيات المتميعة التي تجتاح الفضائيات العربية، وبدلا من تلك الانغام ذات الأداء الرخيص بإيحاءاته ودلالالته ورموزه الغريبة، وبدلا من ذلك العري والرقص السقيم الذي تقوم عليه أغنية يصفونها بالشبابية، ما أحوجنا ونحن نتذكر سيد درويش إلى العودة إلى أغنية سليمة معافاة فيها الشجن والوطنية ومعاني الصمود وتجليات البحث عن الذات وعن الأمل والحب الجميل، أغنية تعبر عن الضوء الذي يقهر الظلام، ولنسمع ما ردده درويش يوما في الحان حية متدفقة: “الحلوة دي” و”الديك بيدن” و”شادي الالحان” وغيرها من الاعمال الأصيلة التي ما زالت مختزنة في ذاكرة الجمهور العربي من محبي الغناء الشرقي. لقد كانت أصالته تدفعه إلى خوض التجارب الأوبرالية بتفكير جديد مختلف عن تفكيره كملحن أغان، وساعدته في ذلك مشاهداته للاوبرات التي كانت تقدم في عصره من جانب العديد من الفرق الاجنبية، وكان يتابعها ويسمعها بعمق واحساس الفنان المتحرق إلى المعرفة، ولهذا استطاع أن يدرك الفرق الكبير بين الأغنية الميلودية واللحن المسرحي سواء من حيث التركيب أو التكامل، وظهر ذلك في العديد من مسرحياته الغنائية التي سجلت وقتها تطورا في مفهوم اللحن الموسيقي الذي امتاز بمقاطع أكثر دقة في التركيب الفني وسلامة النوت وصحة الجمل، ولكنك ستجد أن درويش ايضا يمتاز بأنه فنان مختلف في تطوير نفسه وموسيقاه حتى أصبحت لها هوية محددة خاصة، هوية كانت هي الأقرب إلى الجماهير العريضة، كما كانت أصدق في تصوير الواقع والتعبير عنه وأكثر تفاعلا مع نمط الحياة والظاهرة الاجتماعية بوجه عام، وتلحظ ذلك حتى في أغانيه الاولى في المقاهي أثناء مرحلة الابتداع والانطلاق الأول على خشبة المسرح، كما تتابع ذلك في الالحان التي صاغها على النسق المألوف، في الاغاني الميلودية وفي الموشحات ومنها “يا فؤادي ليه بتعشق”، “ياللي قوامك بيعجبني”، “أنا هويت”، “في شرع مين” وهي من مقام الزنجران المعروف، كذلك موشح “الحبيب للهجر مايل” من مقام السازكاز وفيه خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها الجوقة وكانت غريبة على السمع المألوف، كما تلاحظ ذلك في كل القوالب القديمة التي استخدمها وحاول فيها مقاومة الألحان التقليدية الرتيبة، قافزاً من منهج فني إلى منهج آخر، فمثلا في المرحلة الميلودية من حياته الفنية خرج من أسلوب استخدام الانغام المتجاورة في المقام الواحد إلى استخدام (التوافق) بين القرار والجواب دون أي نشاز وإلى استخدام المطابقة بين اللحن والمعنى، ثم في المرحلة المسرحية سنجد أنه تخلص من موسيقى التخت واستخدم موسيقى أوركسترالية، رغم الافتقار إلى تعدد الآلآت وإلى الكورال بالمعنى العلمي الذي نعرفه اليوم. الأغنية والوطن لهذا كله نجد أن دراسة مسرح سيد درويش تؤكد أن هذا المسرح هو بيئة الفنان النابع من الأرض، المعبر بإحساسه الوطني الرهيف عن الناس بجميع فئاتهم وشرائحهم، الفنان المرتبط بإيقاع الحياة، باختصار سنجد أن هذا المسرح هو مسرح الشعب الذي صنعه واحد منهم، وبهذا استحق لقب فنان الشعب، وهو لقب منحه إياه الناس قبل النقاد. إن الدراسة العميقة تقدم لنا مسرح سيد درويش كظاهرة فنية مرتبطة بظروف عصره وظروفه وحياته، وليس بالمعنى الضيق وليس بمعنى أنه أسطورة، فإننا لن نستفيد شيئا لو كان الرجل أسطورة مستحيلة التفسير أو مستحيلة التصور واللحاق بها، وليس بمعنى أنه (كل شيء) وغيره (لا شيء) فإن من معاصريه من كانوا عمالقة وأفذاذاً في عالم الموسيقى والغناء والمسرح والكتابة، ولكن لولا وجودهم لما حقق درويش النضج اللازم لتحقيق إبداعه ولولا عشق ومحبة الجماهير له لما أصاب ما يريد من النجاح بما يعني أن المزاج العام للمرحلة يفرض الكثير من وسائل النجاح لأي فنان. لقد استخدم درويش ألحانه وموسيقاه في معاضدة الجهاد الوطني وحركة الاصلاح الاجتماعي، إلى جانب تقديم الطرب الشرقي الاصيل في الغناء والموسيقى على ذات الطريقة التي سار عليها في الحانه للاوبرا، وكانت منهجية صحيحة وكأنه واحد ممن تخرجوا في أرقى المعاهد الموسيقية ولعل ذلك سر عظمته. وأخيرا هل نحتاج إلى وقت طويل لتصدير أغنية وطنية إنسانية تليق بربيع الثورات العربية؟ من الفشل الأول إلى النجاح الدائم أول حفلة أقامها سيد درويش في القاهرة كانت في مقهى الكونكورديا وحضر هذه الحفلة أكثر فناني القاهرة منهم الممثلون والمطربون وكان على رأسهم الياس نشاطي وإبراهيم سهالون الكمانجي وجميل عويس حتى وصل عدد الفنانين المستمعين أكثر من عدد الجمهور المستمع، وفي هذه الحفلة قدم سيد دوره الخالد الذي أعده خصيصا لهذه الحفلة “الحبيب للهجر مايل” من مقام السازكار وفيه خرج عن الطريقة القديمة المألوفة في تلحين الأدوار من ناحية الآهات التي ترددها الجوقة وكانت غريبة على السمع المألوف، ولذا انسحب أكثر الحاضرين لأنهم اعتقدوا أن هذه الموسيقى كافرة وأجنبية وان خطر الفن الجديد أخذ يهدد الفن العربي الأصيل، وبالطبع إن فئة الفنانين المستمعين لم ينسحبوا لأنهم أدركوا عظمة الفن الجديد الذي أعده الشيخ سيد لمستقبل الغناء العربي. اشترك سيد درويش مع الفرق التمثيلية ممثلا ومغنيا فعمل مع فرقة سليم عطا الله وسافر معها إلى سوريا ولبنان وفلسطين وكان لهذه الرحلة أثر كبير في اكتسابه أصول الموسيقى العربية إذ تتلمذ في حلب على الشيخ عثمان الموصلي العراقي ويقول الشيخ محمود مرسي إن الشيخ سيد عاد بعد هذه الرحلة أستاذا كبيرا في ميدان الموسيقى العربية. سافر مرة ثانية مع فرقة جورج أبيض إلى البلاد السورية فأعاد الصلات الفنية بينه وبين موسيقييها واكتسب من أساتذتها ما افتقر إليه من ألوان المعرفة، ولما عاد إلى القاهرة في هذه المرة رسم لنفسه خطة جديدة في ميدانه الغنائي والمسرحي فلحن معظم أدواره وموشحاته الخالدة التي عرفت الناس بمدرسته الإبداعية الجديدة. ظهر للشيخ سيد أول دور بعد هذه الرحلة وكان مقام العجم “يا فؤادي ليه بتعشق” وكان مقتبسا من موشح حلبي قديم مقام العجم أيضا أخذه الشيخ سيد عن الشيخ عثمان الموصلي ولكنه لم يستطع في بادئ الأمر أن ينسبه إلى نفسه وإنما نسبه إلى إبراهيم القباني، ولما اشتهر الشيخ سيد في تلحين الأدوار بين الناس عاد ونسبه إلى نفسه وينسب إلى الشيخ سيد عشرة أدوار و12 موشحا وأوبريت وطقاطيق وأهازيج وأناشيد حاسبة وغيرها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©