الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأيديولوجيا.. بريئة من فساد الإبداع

الأيديولوجيا.. بريئة من فساد الإبداع
24 سبتمبر 2014 21:20
-------- عندما تطرح العلاقة بين الأيديولوجيا والإبداع، خاصة في العالم العربي، يحدث ما يحدث لكل فكرة مهمة في العادة: تقدم الفكرة إما مشوّهة أو يجري حرفها عن معانيها ودلالاتها والخلط بينها وبين غيرها من المفاهيم، أو تبتسر وتطرح بتبسيط مخلّ يجعل من يتحدثون فيها يتجنّون عليها. . النماذج كثيرة، لكن الثيمة التي يطرحها هذا التحقيق هي (الأيديولوجيا المفترى عليها)، التي غالباً ما طرحت في معنى ضيق، وألبست لبوساً حزبياً أو فئوياً أو . . . لكنها في كل مرّة كانت تُخرَج عن مدلولها الحقيقي، وتطرح على أنها الشعاراتية والصخب والمنبرية والفجاجة وغير ذلك. ----- في هذا التحقيق يسلط الكتاب والمبدعون الضوء على فهمهم لمصطلح الأيديولوجيا ثم يعرضون مواقفهم منها، وهي مواقف تختلف بحسب الطريقة التي ينظر بها كل منهم إلى هذه القضية، فمنهم من يرى أن الأيديولوجيا لا تنفصل عن الإبداع ولا حتى الممارسة الثقافية والحياتية ولا معزل للنص عن ايديولوجية صاحبه. فيما بعضهم الآخر يرى العكس. . سألناهم: هل يمكن الفصل بين الأيديولوجي والإبداعي في الكتابة؟ وكانت هذه الإجابات: يقول الروائي المصري محمد العشري: لا تضر الأدلجة كثيراً في النص إن كانت تشتمل على مقومات تجعلها تنتصر لروح الإنسان وتبعده عن التعصب والعودة إلى الوراء، فيما يخص اعتناق المذاهب المتطرفة، التي تسعى إلى السيطرة والهيمنة بالقوة من دون أن تقدم ما ينفع العقل. ضروة للنص ولكن. . ترى الروائية الأردنية سميحة خريس أن "معظم الذين يتناولون هذا الموضوع يقصدون معنى ضيقاً للأدلجة، إذ يحصرونها في الفكر السياسي، أو الديني في أحيان أخرى، بهذا المعنى تبدو الأدلجة عقيمة، خطابية مباشرة، مفضوحة، ولكن الأدلجة من حيث هي اتخاد موقف من الحياة، أمر مختلف، وأنا أظن أن كل نص يجب أن يحمل أدلجته الخاصة به، حتى لو كتب الشاعر قصيدة حب، فإنه يسجل موقفاً ويعالج فكراً، وهذه هي الأدلجة التي يجب ألا يخلو منها أي نص، فليست هناك قضية مهما صغرت أو كبرت، أو بدت سطحية وعابرة إلا كانت تعبر عن موقف من الحياة، وعلى الروائي أن تكون له وقفته النقدية تجاهها، بهذا المعنى فالأدلجة ضرورة، بل هي ما ترفع النص على أن تعالج بفنية عالية، من دون توجيه وخطابية بائسة". وتعتقد الشاعرة الفلسطينية منى ظاهر بأن "الأيديولوجيا عمومًا هي نظريّات شكّلها ويشكّلها العقل في نسيج الوعي الاجتماعيّ السّياسيّ للمجتمعات المختلفة برؤاها النّقديّة لهذا العالم والوجود ومواقفها منه. وهي تتذوّت فينا وتخرج في اللاوعي منّا عبر ما نكتب/ نرسم/ نخلق. لأنّ الإبداع الحقيقيّ عمومًا لا يأتمر لأيّ تابو مهما كان، وهو متأتّ من المنطقة السّاحرة بين الوعي واللاوعي. . هو كائن بحدّ ذاته متحرّك ويتحرّك. . لكنّ صلصاله يحمل مكنونات عدّة كما هي كينونتنا كبشر. الإبداع بمختلف صوره وأشكاله هو المتنفّس الآخر للحرّيّة غير القابلة للمساومة، هو المتأتّي من حقيقيّة الرّوح. . من الحفر العميق في جوّانيّتنا/ دواخلنا الإنسانيّة بكلّ ما فيها من تناقضات وعتمات وأضواء وتشكّلات لبنيويّة هذا المبدع وهذه المبدعة غير المنقاد/ المنقادة إلاّ للتّحليق في الأسفل العميق من دون القصديّة المبتذلة لاقتناص نظريّة جاهزة. كينونة المبدع مهمّ أن تكون فردانيّة لأنّها مقاوِمة ومتحدّية، بمعنى أنّ كلّ مبدع له خاصيّته المنفردة من مجموع أفكار ومعتقدات وشخصيّات منغمسة فيه وعادات وجنون وأحلام وطموحات ومزاجات وانكسارات ووعي جماليّ ذاتيّ و. . . وكلّها تنعكس في نصّه المنسكب من عجينته غير المنفصلة أيضًا عن عجينة واقعه الوجوديّ الكونيّ ورؤيته المتمرّدة عن السّائد والجاري والمهيمن". وبصوت حاسم وواضح ترفض الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق الأدلجة، حيث تقول: أنا ضد أدلجة الإبداع، صحيح أن الإبداع ابن المرحلة ومن الصعب الفصل بين الواقع والكاتب فهما يتعايشان على أرض ما، لكن المبدع عليه أن يبحث عن الإنسان وما يصب عليه الواقع من إفرازاته الجيدة أو السيئة. الكاتب ابن العامل والفلاح والتلميذ والمعلم والمرأة العاملة والطفل وربة البيت وابن الأصل ألا وهي الأرض. عني شخصياً أنا بنت هؤلاء. . كل ما ذكرت هم حزبي وانتمائي الأيديولوجي. عليّ أن اكتب بهم ومنهم لأرسم الواقع الذي تفرضه علينا الأيديولوجية السياسية، ومن ينبع انتماؤه من قلوب الناس يبقى حياً لأن السياسات والأحزاب تتغيّر والأيديولوجيات تتوالى بتوالي حكامها والباقي هو الشعب والأرض. هذه هي الأيديولوجية التي لا تتغير أبداً". إنكار الأيديولوجيا. . موقف أيديولوجي وينظر الكاتب الأردني هشام البستاني إلى الكتابة الكتابية ويمارسها، على حدّ قوله، "بصفتها التكثيف الكامل لعقل الكاتب وبنيته المعرفيّة والفكريّة، وكل كتابة (أدبيّة كانت أم غيرها) هي، وبالقوّة، محملة ومستبطنة بالعناصر الفكريّة لمُنتِجِها ومفاهيمه. الكاتب هو مجموعة من الأفكار، والحواس التي تقرأ الواقع وتعيد إنتاجه من خلال هذه الأفكار، وبهذا المعنى فأنت لا تستطيع عزل الكاتب عن نصوصه. قد لا تُقدَّم أفكار الكاتب مباشرة في العمل الأدبي، ولكنها حاضرة بالفعل في شكل الكتابة، في بنية النص، في التساؤلات والمسارات التي قد تفتحها القطعة الأدبية وتعمل عليها. الكتابة ليست شيئاً ذاتياً خالصاً. ليس هناك شيء ذاتي خالص أساساً. كل التجارب الانسانية (ومنها تجارب الكُتّاب والأدباء) هي تجارب في العالم، داخل العالم، وتنشأ عن تفاعلهم المادي مع هذا المحيط الخصب من الأشياء والكائنات والظواهر والبشر. لا يوجد كاتب ولا أدب معزول عن الواقع، أو عن الحراك الاجتماعي والواقع السياسي/ الاقتصادي. كل كاتب، مهما بالغ في عزلته، ومهما بالغ في الابتعاد عن أي توظيف لكتابته، هو بالضرورة نتاج المجتمع والبيئة والعالم والكون، حتى بالمعنى السلبي: المنسحب من العالم يتفاعل بانسحابه ذاك مع العالم، والكاتب الذي يريد تعمّد فصل الأيديولوجي عن الأدبي يفعل ذلك بناء على موقف أيديولوجي أيضاً!. هذا لا يعني أن الكتابة/ القراءة هي عملية "انعكاسية"، أي أن الكاتب يريد أن يعكس أفكاره في عقل القارئ، أو أن فعل القراءة هو فعل مشاهدة لانعكاسات الكاتب، على الإطلاق لا، على الأقل في الكتابة الجيّدة". ويضيف: "مرحلة الكتابة الأدبية الوعظيّة انتهت، إضافة إلى سقوطها فنيّاً في عالم ينفتح فيه الناس على أشكال مختلفة من الفن والتعبيرات الذهنية/ الفنيّة المتقدّمة. بالنسبة لي الآن، على الكتابة أن تكون أقرب إلى تجريدية الموسيقى من خلال دفعها القارئ لأن يشكل صوره، وأن تعطي هذه الكتابة للقارئ الحرية في إنتاج خيالاته بعيداً عن ايعازات الكاتب المحددة، بل والاشتباك مع نص الكاتب، وفي حالات أخرى: إكماله". وتتساءل الروائية والمترجمة المصرية سهير المصادفة: "إذا كانت رؤاي عن هذا الكون الشاسع تمثل أرقاً ما لشخوصي، وإذا كان السؤال الإبداعي الأهم في نصوصي هو مأزق الإنسان الوجودي في مواجهة كل هذا الغموض الكوني. . كل هذا العماء الشرير وكل هذا الانسحاق، فكيف لا أتلمس حضور الأيديولوجيا فى كتابتي؟ أحياناً أمقت أعمالاً تعتمد على رؤى أيديولوجية أولية ومباشرة حد التعب وهي على أي حالٍ ليست ناضجة حتى على المستوى الأيديولوجي ومن ثم فهي ليست جيدة، وأحياناً أجد أعمالاً خالدة منطلقة من قناعة أيديولوجية تصل إلى حد الاعتقاد وهي على الرغم من ذلك فادحة الجمال مثل أعمال الكاتب البرتغالى "خوسيه ساراماجو" كلها، ومن دون استثناء". وتختصر الروائية السورية ماري رشو بالقول: "هنالك من يذهب إلى حد الفصل، فالأيديولوجي نقيض الإبداعي، ولكل منهما طريقه الخاص به، ومتى ارتبطا فقد يواجه الإبداع علامة استفهام". حبلّ بين الوعي واللاوعي أما الفنان التشكيلي المصري أحمد الجنايني "فلا يشغل باله مطلقاً بالأيديولوجي في العمل الفني"، حسب قوله، مضيفاً: "أنا أمارس الفعل التشكيلي أو الإبداعي باعتباره فعلا حتميا للتوحد مع ذاتي في لحظة بعينها، وباعتباره فعلا حتميا للاستمرار في الحياة. الأيديولوجي يفسد الإبداع تماما كما يفسده التنظير من قبل المبدع قبل الانتهاء من إبداعه أو في أثنائه. الإبداع نوع من المغامرة أو المقامرة لا تعتمد على الإطلاق على القوانين الذهنية أو التفسيرات المنطقية، المبدع يسير حتما أثناء إبداعه على حبل مشدود بين منطقتي الوعي واللاوعي دونما حسابات مسبقة". وتلمح القاصة الليبية نادرة العويتي إلى أننا "لا نستطيع أن نبني حاجزاً يحول من دون تسرب أفكارنا الضمنية إلى نصوصنا الأدبية لحظة الكتابة لسبب يتعلق بتاريخ تربيتنا. هذه الأيديولوجية الراسخة في أعماقنا والتي لُمناها سراً وجهراً لن نتمكن الهروب من سيطرتها سواء في حالة الوعي أو في حالة الحلم. جميع الأفكار التي تقودنا وتسيطر علينا نحن لم ننتقها تبعاً لاختياراتنا بل رضعناها وورثناها ولمسناها ونحن في المحاضن، وفهمنا أنها لاصقة بنا كجلودنا. . لذا ليس غريباً أن نكون أسرى لها لكن هدا الأسر لا يعفينا من المسؤولية أمام نصوصنا ككتاب؛ فالمبدع الحقيقي هو الذي يصنع نصه في فضاء خالٍ من تأثيرات أية أفكار مسبقة وإلا تحول إنتاجه إلى ما يشبه أقوال المدرسين والوعاظ والمرشدين. وهناك فرق كبير بين أن أدافع عن فكرتي التي أحترمها وبين أن أجعلها مادة لقصتي". ويبدو الباحث والأكاديمي الجزائري جمال بلعربي متيقناً تجاه المسألة، ففي رأيه أن "المثقف أو المبدع الذي يحتاج إلى دفء أيديولوجيا الآخرين مشكوك في ثقافته وإبداعه. يفترض في المبدع أن يتفاعل مع محيطه (بما فيه من فكر وأيديولوجيا كفكر نسقي وما فيه من أشياء. . ) وينتج أفكارا وانفعالات وقيم زمانه. ولا أعتقد أن الصراع بالمعنى المطروح في الاستطلاع يمكن أن يقوم بين الأيديولوجيا والإبداع بل إذا قام، فبين الأيديولوجيا الباردة، السطحية، المصطنعة والإبداع المبتذل. فأصحاب هذا وتلك تتضارب مصالحهم. أما الفكر الحر والعقل المتشبع بالقيم الكونية فيفترض أنه يتعايش ويتحاور ولا يتصارع". وفي السياق نفسه، يأتي رأي الناشطة الاجتماعية اللبنانية فايدة الفقيه التي ترى أن "الإبداع في أجواء الأيديولوجيا، له فضاءاتهُ المؤطّرة. انمّا الكتابة والابداع، كما الممارسة في الشؤون الثقافية عامةً، لا حدود لها ولا سدود. فالجميع على مُختلف أفكاره ومشاربه لهُ الحرّية المُطلقة لفتح أبواب جديدة على عوالم غير مسبوقة من الرؤى، والنظريّات، والأفكار المُتعددة التي تُساهم في توسيع المدى الثقافي، الفكري، والانساني في المجتمعات التي هي بأمسّ الحاجة الى توالد الجديد، والمفيد الذي يتماشى مع تطوير وتجديد بيئة كبيئتنا الثقافية. فالابداع مطلوب لكسر الجمود الفكري، والتخلّص من بعض الموروثات التي عفا عليها الزمن، ولبثّ روح مُتجددة ترتقي بالأجيال القادمة الى شواطئ امان مدروسة، ومُحكمة التوازن". سلطة تشوّه العمل وتلفت الروائية السورية سوسن جميل حسن إلى ما تملكه الأيديولوجيا من سلطة، تقول: "الأيديولوجية هي نظام فكري له سلطة على الإدراك، وهي تتميز بالتأثير العقلي والعاطفي، لكن تحميلها للرواية بشكلها التنظيري يضعف العمل، مهما كان نوع الأيديولوجيا المطروحة من خلاله، الرواية كما يعرفها يوسا هي كذبة لكنها مقنعة، وبقدر ما تبدو محبوكة بروابطها المنطقية تكون مقنعة، لذلك أرى أن الأيديولوجية بدخولها الفج إلى العمل الروائي تشوه العمل وتفصله عن القارئ". وبالنسبة إلى الكاتب والصحفي ياسر فاروق "يمكن للمثقف أن يفصل بين الأيديولوجي والإبداعي في القضايا المتعلقه بالأمن القومي، وهذه تجدها في إبداعات اليساريين والقوميين وفي رواياتهم وقصصهم وحكاويهم لكن في جانب العدالة الاجتماعية سينحاز المثقف إلى أيديولوجيته اليسارية لأنه يريد للدولة أن تكون متواجدة وفاعلة في كل قطاع وكل منشأة وكل مُنتج، وأن تسنّ قوانين ضد المحتكرين. أما الليبرالي فسوف يؤكد وينادي بالحريات وأهمها حرية السوق وأن الرأسمالية هي السبيل الوحيد لتحقيق الرفاهية، وأن العرض والطلب كفيل بإنهاء الاحتكار. أما الإسلامي فسينادي بالتوسع في التجارة، وتحريم الربا، وإغلاق المصارف واستبدالها بأموال الزكاة والصدقات إلى آخر المفاهيم والقناعات التي تتوفر عليها أيديولوجيته. . وهكذا، في قضايا العدالة الاجتماعية ينحاز المثقف إلى فكرته التي نشأ عليها واقتنع بها، أما في القضايا الوطنية فلن يختلف مثقف عن آخر، وتستطيع أن تلمس هذا في كتابات الليبراليين وإبداعاتهم واضحة جلية. -------------- الأيديولوجي والإبداعي لا ينفصلان لا في الكتابة ولا في الممارسة صبري حافظ -------- ليس هناك فاصل بين الأيديولوجي والإبداعي لا في الكتابة ولا في الممارسة. خاصة في هذا الزمن الذي شاع فيه الحديث عن موت الأيديولوجيات، وساد فيه الترويج للغة مقلوبة تخفي عكس ما تصرح به، وتسمي مقاومة المحتل إرهابا، والتصدي للنظم الاستبدادية تخريبا، واستعمار الشعوب تحريرا، والتفريط في الحقوق المشروعة اعتدالا، والتمسك بالثوابت الوطنية تشددا. إن هذه اللغة المقلوبة تتناقض مع كثير من أسس التواصل اللغوي ذاتها، في محاولتها للتعمية على أبشع تجليات الأيديولوجية القديمة الجديدة أيديولوجية الاستعمار ونهب ثروات الشعوب في تجلياته الجديدة وتسمياته المغايرة بالعولمة تارة، وتحرير الشعوب من حكامها المستبدين أخرى. وكي تتضح المسألة فلابد من معرفة ما هو المقصود بهذين المصطلحين: فالأيديولوجيا هي صياغة فكرية أو تجريدية لتصور ما للعالم أو وعي ما به. وقد يكون هذا الوعي وعيا زائفا يطلسم على تناقضات العالم ويخفيها، وقد يكون وعيا نافذا مستبصرا يعي تلك التناقضات ويكشفها ويتعامل معها. وقد كشف ماركس عن أن لكل وعي بالعالم، أو لكل أيديولوجيا محتواها الطبقي ومصالحها الاقتصادية، ومحاولتها لصياغة مصالح طبقة ما باعتبارها هي الحقيقة أو التصور الطبيعي للعالم. ومن هنا بدأ مفهوم الوعي الزائف يفت في عضد مفهوم الأيديولوجيا منذ ميلاد هذا المفهوم الجديد. وقد مكننا مفهوم الوعي الزائف ذاك من الوعي بتناقضات الأيديولوجيا وباستراتيجياتها المراوغة، وأكثرها انتشارا ومراوغة في هذه الأيام هي إنكار الأيديولوجيا، والقول بعصر موتها ونهاية التاريخ، فكل تنصل من الأيديولوجيات وكل تنكر لها ينطوي على أيديولوجيته المضمرة، ويخفي في طواياها تناقضات الوعي الزائف بالعالم أو الوعي الذي يريد أن يطلسم حقائقه ويخفي وراء معسول الكلام أغراضها البشعة ولا يسميها بمسمياتها، فالمسميات الحقيقية هي شارة وعي، ولا يسود الوعي الزائف إلا في ظل غياب الوعي الحقيقي وغيبوبة العقل. وما الانتشار الواسع الجديد للأيديولوجيات الدينية من الصهيونية وحتى التأسلم السياسي مرورا بالمسيحيين الجدد في أمريكا إلا تجليا من تجليات غيبوبة العقل الجديدة تحت عباءة موت الأيديولوجيا ونهاية التاريخ. أما الإبداع، والذي يبدو في السؤال وكأنه نقيض الأيديولوجيا، فإنه في حقيقة الأمر رديفها. لأن كل أيديولوجيا تنطوي على إبداع ما لصياغات وتصورات جديدة للعالم، أليست الطلسمة على حقائق العولمة البشعة والتي مكنت رأس المال الغربي من نزح ثروات شعوب العالم الثالث بمعدلات أعلى كثيرا من تلك التي كانت تتم بها نفس العملية إبان أكثر فترات الاستعمار القديم بشاعة هي نوع عبقري من الإبداع؟! وإن كان إبداعا مقلوبا. كما أن كل إبداع ينطلق من تصوره الخاص والمضمر للعالم، أي من أيديولوجية ما. صحيح أن الإبداع مصطلح يطلق عادة على الإنشاء الأدبي والفني، ويتسم بالتجسيد بينما تقوم الأيديولوجيا على التجريد، فإن تجسيده دائما ما يخفي في طواياه مجرداته الفكرية التي تشكل الهيكل العظمي الذي لا تقوم للتجسيد قائمة بدونه. وقد لا يستطيع كل من يرى إنسانا أن يعرف شكل هيكله العظمي، لأنه ينشغل أساسا بملامحه المجسدة لحما ودما، وينشغل بحركاته وسكناته عن حقيقة هيكله، ولكن عالم الفسيولوجيا يعرف أن هذه الملامح التي تتجسد أمامنا ما كان لها أن تقوم وتتبلور من دون الهيكل العظمي الذي تنهض عليه. لذلك فإن الناقد بالنسبة للعمل الإبداعي كعالم الفسيولوجيا بالنسبة للجسد الإنساني، ما أن يتعرف على عمل إبداعي حتى يستطيع استشفاف البنية المجردة المضمرة في كل تجسداتها والتي تتجلى وراء كل تفاصيلها. أي ما يسمى في مصطلح النقد الحديث بأيديولوجيا النص. وكلما كانت تلك البنية المجردة أصيلة وعميقة وشاملة كلما بدا العمل الإبداعي متماسكا ومتكاملا وقادرا على إرهاف قدرة المتلقي على فهم العالم والاستمتاع به معا. إذن ليس ثمة فاصل في رأيي بين الأيديولوجيا والإبداع، ولا توجد كتابة أو ممارسة ثقافية وخاصة في عالمنا العربي في هذا الزمن الرديء لا تنطوي على موقف أيديولوجي من العالم ومن مؤسساته الثقافية والسياسية على وجه الخصوص. فليس موقف الكاتب الذي يسخر قلمه لتبرير وضع ما أو لإضفاء نوع من المصداقية على حاكم لا شرعية له ولا مصداقية لممارساته، كموقف الكاتب المستقل عن المؤسسة الذي يكشف عن تناقضاتها وعن عريها من المشروعية. فالأول يصدر عن موقف كلب الحراسة المكلف بحراسة النظام والأيديولوجيا السائدة، ونشر الوعي الزائف ومد مظلات الغيبوبة العقلية على كل شيء كي يسود الظلام، بينما يجعل الثاني حراسة الكلمة ورفع راية قيمها العقلية والنقدية النبيلة همه الأساسي فيكشف ما تنطوي عليه أيديولوجيا الأول من وعي زائف وتناقضات مشينة. الأول؛ شخص عار من الإبداع أما الثاني؛ فهو الذي يعزز قيمة الإبداع، لأن كل إبداع حقيقي هو ابن وعي نقدي للعالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©