الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وطن العسكريتاريا و.. وطن الدواجن!

وطن العسكريتاريا و.. وطن الدواجن!
24 سبتمبر 2014 21:20
التنميط في الأدب والفن كلمة تقابل المثلنة، أو الصورة المثالية عند أفلاطون، أو الفكرة المطلقة عند هيغل. إنها كلمة بسيطة. فعلى كل أديب ألا يترك نفسه على سجيتها، بل أن يقدم نمطاً للحالة التي يعرضها، وبشكل خاص في الفن المسرحي الحديث. هذه الكلمة البسيطة في ظاهرها متعبة جداً للمؤلف أو الفنان في تجسيدها. فليس سهلاً الوصول إلى نمط. الفنان محرج دائماً وفي حالة من القلق المرهق: إذا اتبع الواقع وقدم الشيء كما هو على أرض الواقع فإنه يقدم عملاً مرفوضاً ما دامت عدسة التصوير تغني عنه، وإن رفع الواقع إلى مستوى النمط اتهم بأنه كلاسيكي يسير على الدقة القديمة، وأنه عديم الإبداع. وهكذا يوصله الجدل الهابط إلى الواقع الفج الذي لا يحتاج فهمه إلى نشاط أدبي أو فني، ويوصله الجدل الصاعد إلى النمط التقليدي الذي لا يفهمه إلا أهل الاختصاص. ويتغلب الكاتب على الصعوبة إذا كان موقفه الفني واضحاً. فالكلاسيكي ينحو نحواً في التنميط يختلف عن الرومانسي، والرومانسي يختلف عن التعبيري. . . وهكذا. ولندع هذه المناقشة النظرية التي لا تكاد تنتهي ونتوقف عند الأنماط التي شاعت في مسرح الثلث الأخير من القرن العشرين، وهي الأنماط العبثية التي تتنوع بحسب تنوع كتابها: يوجين يونسكو وأداموف وصموئيل بيكيت وجورج شحاده وألبير كامو. . . وهي من أصعب الأنماط بسبب الرهافة التي لا بد من توافرها في الشخصيات المسرحية. إنها لا تشبه الأنماط الفاقعة في أي وجه من وجوهها. ربما تتحقق الرهافة أثناء بناء المسرحية للمرة الأولى، وربما بعد مرات، وقد يفشل الكاتب في إبراز هذا التنميط. وسوف نتوقف عند كاتب اشتهر كثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين وهو فردريك ديرنمات (1921- 1990) وفي الشهر الذي توفي فيه، وهو الأخير من العام، كانت معظم مسارح أوروبا تقدم مسرحيات له، وبخاصة «رومولوس العظيم» و«زيارة السيدة العجوز». النمط العبثي تقارب المواقف العبثية جعل بعض النقاد يؤكدون تأثير برتولد بريخت على ديرنمات. ويمكن الإقرار بهذا التأثير وبخاصة تأثير المرحلة الأولى لمؤلفات بريخت. فعلى سبيل المثال لا نجد تأثيراً لتنميط «أيام الكومونة» أو «دائرة الطباشير القوقازية». إن تنميط ديرنمات يقترب من تنميط جورج شحاده. وقد يكون التقارب بين الاثنين أوضح من التقارب العام للتنميط العبثي الذي ساد في القرن العشرين، لكن ليس شغلنا في هذا. اتهم التيار العبثي بأنه تيار افتراضي بعيد عن الواقع، فما قدمه لا يعدو كونه «فرضية عقلية» مثل المسرحيات الفكرية التي ابتكرها توفيق الحكيم. وفي هذه التهمة شيء من الصدق، ولكن حصر المسرح العبثي فيها تبخيس لتنميط هذا المسرح. إن الوشائج التي تربط النمط بالواقع كثيرة جداً. وسوف نقف عند تجربة ديرنمات في مسرحيته التي ترجمت إلى كثير من لغات العالم المشهورة وهي «رومولوس العظيم». من رومولوس؟ اسم اختاره المؤلف من تاريخ روما. وهو اسم أحد الشقيقين المؤسسين للمدينة المقدسة، ولكنه في المسرحية إمبراطور أعظم دولة عرفها العالم في العصر القديم. إنها الإمبراطورية الرومانية. رومولوس هنا ليس أول حاكم، بل آخر حاكم. إنه سيد الإمبراطورية في زمن النزع وغصص الموت. إنه عصر التلاشي لمجد دام ثمانية قرون لم تعرف فيها الإمبراطورية هزيمة مذلة. فقد انتصرت على الغال مثلما انتصرت على قرطاجة. قرون وقرون من العظمة زالت وانتهت بفترة وجيزة. وهذا ما حيّر المفكرين والدارسين فإدوارد جيبون في مؤلفه الضخم «انحطاط الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» يتقصى الأسباب فلا يدع سبباً يخطر في بال إلا عرضه لإظهار تفسخ هذا الكيان الضخم. فمن الأديان العاملة على انحطاط هذا الهيكل هناك الأديان الشرقية، ومنها المسيحية. فإذا أضفنا بقية العوامل، صرنا أمام موسوعة «عوامل» سياسية وإدارية وعسكرية وثقافية إلى جانب العوامل الدينية وهذا ما يسمى في المسرح الحديث «الحالة» التي يصعب التقاطها. [الحالة محصورة بالفن ولا علاقة لها بمفهوم روح العصر الهيغلي]. إلى جانب جيبون هناك العديد من المفكرين الذين احتاروا وذهلوا لهذا الجبار كيف ينهار كأنه كان يقف بجسده الضخم القوي على ساقين من طين، فالقرون الثمانية في البناء اختصرت بعقود عملت على الانهيار. أفول العظمة منذ البداية وضع ديرنمات «العظمة» أساساً للمسرحية، ففي حالة سيطرة «فضيلة» العظمة على عقلية الحاكم ما الذي تفعله هذه الحالة؟. وجعل هناك تيارين: الأول يمثله الإمبراطور رومولوس (وليس عبثاً أنه اختار لبطل مسرحيته اسم الباني الحقيقي، أو الأسطوري، لروما العظيمة) الذي يرى أن العظمة لا تنبع من الأفعال والأعمال «الباهرة»، بل البسيطة. إن رومولوس الأول أسس روما من الأفعال البسيطة. أما التيار الثاني فيمثله خطيب ابنته، التي بهرتها الذهنية العسكرية لخطيبها الضابط. إنه يعتقد أن عظمة روما لا تتحقق إلا بالقهر والسيطرة والسيادة على الآخر، سواء في الداخل أو في الخارج. إنه يؤمن بخلود ذاته، هو الذي يمثل الدولة، فكل ما يقف في وجهه يجب أن يمسح، وبذلك تسير الدولة على سكة السلامة والخلود. كل المسرحية تدور حول هذين الطرفين فيشكلان حالة معينة. وعندما تسأله ابنته عن رأيه ينصحها أن تدع هذا الضابط وتخطب فلاحاً يضمن عظمة الإمبراطورية، وليس ضابطاً يرتدي البزة العسكرية ويرى عظمة روما في بزته، رمز القتل والجريمة. إن الوطن الذي تختصره العسكرتاريا هو الوطن الذي سينهار، على عكس الوطن الذي تبنيه الدواجن. . . والإمبراطور نفسه يهتم بالدواجن. ما وراء النمط الواقع يكمن وراء أي تنميط أدبي. والواقع التاريخي هو الذي أوحى بهذا النمط. ولكن قبل ذلك لا بد أن نشير إلى أن النمط الذي تبناه مسرح العبث هو النمط المستخلص من الحياة، كل الحياة، وليس من ناحية معينة، وليس محصوراً في شخصية محددة. قد تحمل الشخصية الميزة الكبرى لهذا النمط، كما حمل رومولوس العظيم السمة الكبرى للنمط، ولكن حتى هذا النمط لا يمكن إدراكه من دون الأخذ بعين الاعتبار التفاعل الجاري في الحياة. نتابع لنقول إن ما دفع ديرنمات إلى هذا النمط هو شخصية الإمبراطور فريدريك الثالث، حفيد فريدريك الثاني، والسائر على خطه وسياسته. بعد ممارسة الحكم مدة لا بأس بها تبيّن لهذا الإمبراطور أنه يسير في الطريق الخاطئ. فروما لم تعد عظيمة ولا يمكن استعادة عظمتها إلا إذا استعدنا أسباب العظمة السابقة. فلو كانت الحياة الجديدة تأتي بالعظمة لما وصلت روما إلى هذا الدرك المتدني. لا بد من العودة إلى أسباب العظمة، وهي الفكر اليوناني. ما روما؟ تلميذة نجيبة للإغريق. وما كانت لتستمر لولا الفكر اليوناني. فدعا إلى الفكر اليوناني، كما دعا إلى ذلك جده. وتخلي روما عن فكرها يعني تخليها عن القيم النبيلة، أي العظمة. ولذا عندما كان يدافع فريدريك عن روما، وشاهد جنده وهم ينهبون ويخربون كل ما يصادفون، صمم الرجوع إلى الأساس لضمان عظمة روما؛ ولما لم يلبه أحد تخلى عن العرش واندفع يعمل لعظمة روما، فكرس حياته لعلم النبات ورصد الفلك. وعلى هذا فإن رومولوس ديرنمات يعود إلى رومولوس المؤسس لنهضة حقيقية. وبالفعل لو راقبنا التطورات الفنية والفكرية والثقافية منذ فريدريك الثالث، بل منذ عهد جده فريدريك الثاني، لوجدنا أنه عهد مصمم على العودة إلى الجذر اليوناني الذي تربى عليه الرومان، والذي كان وراء عظمتهم. ونعتقد أن فريدريك الثاني كان سباقاً لوضع أسس النهضة الأوروبية، قبل سقوط القسطنطينية. اعتمد ديرنمات على التاريخ الأوروبي في صياغة نمطه واستلهم مرحلة فريدريك الثالث، ولو تصفحنا التاريخ العربي لطالعنا وجه فريد من نوعه وفكر مستنير يستنطق الأعماق القصية للمجتمع ويستطلع الموجات القادمة هو الإمام الحسن بن علي. إنه من أبرز الشخصيات؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أن التنميط الذي اعتمده ديرنمات ينطبق على الإمام الحسن أكثر من فريدريك. فقد رأى تخاذل أنصاره في الميدان، واقتحامهم خباءه ومنازعتهم له على البساط الذي يجلس عليه، بل وطعنه في فخذه. . . فأدرك أن هؤلاء لا يصنعون العظمة التي ينشدها فاستعفى بكل بساطة. لعنة العالم العربي تحدرت هذه اللعنة من مفهوم العظمة الخاطئ. كثرت الانقلابات العسكرية المغتصبة للسلطة، والتي ترى العظمة في قمع المواطنين. في كل يوم نداءات وشعارات وطنية جديدة. وهي الشعارات التي يقول رومولوس إنها كلما علت نبرتها أشارت إلى أن الفريسة ستكون ضخمة؛ فكلما همّ أصحاب هذه الأنظمة بافتراس ضحية طرحوا شعاراً قومياً بحسب حجم الضحية. والشعارات الوطنية، تمنحهم مظلة الشرعية، وتظهرهم كأنهم ضحايا ضحاياهم، فهم بتهمة المؤامرة يتآمرون، وبحجة المقاومة يتنازلون. وعلى الرغم من القوة الظاهرية التي بدت بها هذه الأنظمة فإنها لدى أبسط اختبار سوف تنهار. وهذا ما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. إن الانهيار يفضح الأسرار. فعرف العالم أن فرض النظام بالقوة لا يأتي بأي عظمة، وسوف ينهار مهما فعل. . . تماماً مثل إمبراطورية روما. وهي مثله لم تنهر نتيجة الحروب، بل نتيجة تلك الأساليب القائمة على العنف، وذلك السعي وراء عظمة زائفة، والوهم الذي يربط خلود الإمبراطورية بخلود الإمبراطور. النمط بين الشخصية والحالة تنميط هذا النوع من المسرح لا يعتمد على اتخاذ شخصية معينة لتكون نمطاً قائماً بذاته، تصنعها استجابته السلبية أو الإيجابية، بل يعتمد على «الحالة» التي جمعها ديرنمات- على ما نظن- من ظروف الإمبراطورية الرومانية في أيام فريدريك الثالث. بعض رواد مسرح اللامعقول بالغوا في التجريد، حتى أن صموئيل بيكيت يؤسس مسرحيته على شخصية لا تظهر على خشبة المسرح. ففي «انتظار غودو» ينتظر اثنان قدوم غودو، وتنتهي المسرحية ولا يحضر غودو. . . ولا سبب لذلك سوى أن بيكيت يريد تنميط حالة وليس شخصية. اعتمد ديرنمات على شخصية الإمبراطور، ولكنها وحدها لا تمثل الحالة، لا بد من الضابط ولا بد من ابنته، ولا بد من أخبار الحرب وكيف يفعل الجنود بالسكان والمنازل والحقول. . . أشياء كثيرة يستوحي الحالة منها كل كاتب نبيه. وفي تاريخ المسعودي أو الطبري أو غيرهما مشاهد واقعية لو انتبه إليها كاتب مسرحي لاستفاد من الشخصية الفذة للإمام الحسن الذي وعى الحالة وعياً كاملاً، وتصرف بنبل ومسؤولية. فهو من حالة بسيطة أدرك الحالة العامة، بعيداً عن الذاتية. كان في مقدوره الاندفاع مثل الفراشات نحو السراج. ولكنه فكر في غيره قبل التفكير في نفسه. . . وهذا ما يسمى وعي الحالة، ومن هذا الوعي يظهر الحل، إن كان ممكناً الوصول إلى الحل، وإلا فإن المأساة لا تنحصر في فرد، كما جرت العادة في المسرح الكلاسيكي. ومن هنا نعتقد أن «رومولوس العظيم» تقدم لنا مأساة تشمل إمبراطورية ضخمة، ولا تكتفي بدحرجة تاج وتحطيم أسرة حاكمة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©