الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مسيو فيردو».. فيلم عن ميلاد البرابرة الجدد

«مسيو فيردو».. فيلم عن ميلاد البرابرة الجدد
2 يناير 2013 20:38
انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار خاص للشعوب وانهزام لها في آن واحد. أما الانتصار فكان في مطلع شهر مايو من عام 1945، يوم انهيار ألمانيا الهتلرية ورفع علم الحرية على أنقاض قلعة النازية في برلين. أما الانهزام فكان في السادس والتاسع من شهر أغسطس من نفس العام عندما قررت العسكرية الأميركية في أن تتخذ من رغبة الشعوب في السلام ذريعة لإلقاء القنبلة الذرية غدراً على مدينتي هيروشيما ونجازاكي في اليابان. منذ هذين الحدثين المؤثرين على مجرى التاريخ والإنسانية يتنازعها الأمل واليأس. الأمل في غد يتحرر فيه الإنسان من العبودية وسطوة الاستعمار والتسلط وهيمنة الأقوى. واليأس من مستقبل الإنسان، فلأول مرة تواجه الإنسانية باحتمال انهيار العالم الذي تعيش فيه. في هذا الدغل من الضياع بين الأمل واليأس، بين اليقين والشَك، وفي مواجهة أخطبوط الصناعة والتجارة والمكتبية وعالم المال الذي يتحكم في أقدار الناس، فقدت (الأنا) الإنسانية الثقة بالنفس. صفوة القول إن المجتمع قد أصيب بعقم أصبح معه لا قدرة له إلا على إفراز نموذجين كريهين من البشر: المكيفين والمتكيفين.. البرابرة الايجابيين، والبرابرة السلبيين. وهؤلاء البرابرة الجدد هم النتاج الطبيعي للثورات الصناعية والسياسية التي لعبت فيها البرجوازية دوراً رئيسياً وحاسماً في مجتمع البرابرة في ذروته، بل في حضيض أزمته؛ تشوهت شخصية الإنسان وضاعت معالمها في الأشياء التي ملكتها، فتملكتها إلى الحد الذي أدى بالفنان التشكيلي آندي وارهول إلى أن يعبر عن جزعه بصيحته الفريدة: “أريد أن أكون آلة” وتعالت الأصوات بعد ذلك من خلال السينما والمسرح وظهور العديد من الأفلام والمسرحيات التي تدين وتحذر من التكنولوجيا التي بناها الإنسان كي تدمره. اغتراب على الطريقة الأميركية في هذا السياق، غني عن البيان أن السينما باعتبارها لغة العصر التي يفكر بها الإنسان المعاصر، كان لا بد وأن تتصدى كفن جماهيري خطير لمعالجة ما يعانيه الفرد من خلال الإبداع الفني. وليس من شك أن السينما الأميركية هي خير من عبر عن مأساة الاغتراب، أي استلاب الأشياء (للإنسان) داخل الإنسان، ولا غرابة في هذا لأن الفرد الأميركي بحكم سيطرة الاحتكارات وبالتالي سيادة القيم والأخلاقيات التجارية على المجتمع أكثر قابلية للاغتراب من أي فرد آخر. من الأفلام السينمائية التي تعرضت لمعالجة ظاهرة الاغتراب فيلم “مسيو فيردو” لتشارلي شابلن، وقد أخرجه إبان النصف الأخير من الأربعينيات في أعقاب ارتكاب جريمة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما ونجازاكي. أما الفيلم الثاني فهو بعنوان “هذا من الممكن أن يحدث لك” وقد أخرجه جورج كوكور في فترة الخمسينيات. أما الفيلم الثالث فهو بعنوان “بوني وكلايد” الذي أخرجه آرثر بين خلال عام 1967. وبالنظر إلى أهمية فيلم “مسيو فيردو” من الناحيتين السياسية والفنية، وذلك باعتبار أنه الفيلم الذي فتح الباب على مصراعيه لجميع الأفلام الأميركية المعادية للعسكرية والحرب، وأنه الفيلم الذي أشاد به جميع النقاد الجادين، وفي مقدمتهم الناقد الأميركي جيمس آجي الذي عبر عن إعجابه بالفيلم بقوله: “الفيلم أحبه وأبجله، وأعتقد أنه أحد أعمال القرن العشرين الشامخة.. لقد كان تمثيل تشارلي شابلن في الفيلم أحسن تمثيل وأروع ما شاهدته في حياتي”. أما الناقد الفرنسي أندريه بازين فقد اعتبر أن نجاح الفيلم بمثابة عهد جديد في حياة ومسيرة شابلن السينمائية، كما أنه عهد جديد في طريقة إدانة الحرب والعسكرية. وبالنظر إلى اجتماع كل أمراض العصر في “مسيو فيردو” فهو مصاب بالاغتراب، لأن الأشياء في نظره هي السبيل نحو توفير السعادة لكل من يحب، وهو يعاني من الوحدة لعجزه عن الإفصاح بسره لأحد من الناس، وهو بعد أن ماتت زوجته وابنه وتحول كل ما بناه إلى هشيم تذروه الرياح، يمل الحياة ولا يراها إلا عبثا في قمة للعدمية حينما تصبح شعارا للحياة. عرض فيلم شارلي شابلن خلال عام 1947 في عدد محدد من الولايات الأميركية بسبب اعتراض الرقابة على مضمونه. ويسجل عام 1947 عاما صعباً بالنسبة لفناني هوليوود، بعد أن أقر الكونجرس الأميركي بأغلبية ساحقة مطاردة هوليوود للممثلين العشرة الذين رفضوا المثول أمام لجنة النشاط غير الأميركي إيمانا منهم بحرية التعبير وبحقهم رفض ذلك. وهو أيضا العام الذي بدأ فيه دعاة الحرب في الولايات المتحدة إعداد الرأي العام لتقبل فكرة الزَج بالعالم في أتون حرب عالمية ذرية ضد الاتحاد السوفييتي. وقد كان تشارلي شابلن هدفهم الكبير لرفضه في خطابه التاريخي بميدان ماديسون بنيويورك في 21 يوليو 1942 الحرب على روسيا. كان موقفه مدوياً بحيث صار عدوا لدعاة الحرب وعلى رأسهم هاري ترومان. في هذا الجو الرمادي المشحون، خرج شابلن على الناس بفيلمه السابع والسبعين “مسيو فيردو” مستلهما فكرته من قضية (لاندرو) سفاح النساء، تلك القضية التي هزَت المجتمع الفرنسي في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وكان الفنان اورسون ويلز صاحب “المواطن كين” هو الذي أوحى إليه بعمل فيلم مستمد من هذه القضية المثيرة. هجاء الحضارة المعاصرة ثارت ثائرة الصحافة الأميركية على فيلم “مسيو فيردو” واتهمت صاحبه بالدفاع عن الجريمة والتحقير من شأن الجيش الأميركي، بما يضعف الروح المعنوية للشعوب الحرة. رغم أنه لم يستهدف بأول فيلم أبدعه خياله الخلاق بعد انتهاء الحرب ضد النازية إلا أن يكشف القناع عن الجريمة الكبيرة التي تدبر ضد النساء والأطفال والأبرياء.. جريمة إشعال حرب ذرية، وأن يفضح مجتمع أصحاب الأعمال الذي لا بد وأن يؤدي بما فيه من عبادة للأشياء إلى ارتكاب الجرائم الصغيرة التي تتصاعد حتى تصل إلى جريمة الحرب الذرية. ومما يؤكد ذلك ما جاء على لسان شارلي شابلن في احد أحاديثه الصحافية ـ وهو في مجال التعريف بفكرة الفيلم ـ حين قال: “الحرب بالنسبة للجنرال الألماني “كلوازفيتز” ما هي إلا استمرار للسياسة، ولكن بوسائل أخرى، والجريمة بالنسبة لـ “فيردو” إن هي إلا استمرار للأعمال ولكن بطريقة أخرى”. باستظهار أحداث الفيلم يتبين أن شارلي شابلن قد اتخذ من شخصية (فيردو) مثالا لأخلاقيات الرجل المسؤول في المجتمع المعاصر، ومثالا لدراسة العلاقة بين الغاية والوسيلة عند بطل الفيلم وردود الفعل لديه في مواجهة الضغوط المحيطة به وفقا لمنطق أخلاق العصر. وقد حصر شابلن الأدوار الرئيسية في (فيردو) وزوجته وابنه، فالثلاثة محور الفيلم، وهم في الحقيقة يمثلون وجوها مختلفة لشخصية واحدة تفككت أو هي في سبيلها إلى التفكك أمام ضغط البطالة والاضطرار إلى اختيار الجريمة وسيلة للخلاص. وغني عن القول إن الوجه الذي يمثله (فيردو) هو وجه الرجل المسؤول، السيد في أسرته، الحاد الذكاء، وأن هذا الوجه قد أصبح في غربة مع روحه ومستقبله حين افترض ـ شأنه في ذلك شأن معظم الناس في أيامنا هذه ـ ذلك الافتراض الخاطئ الذي تقوم عليه أخلاقيات الحضارة الحديثة، وهو أنه لزام على الشخصية إذا ما كانت تريد الحفاظ على ما فيها من نبل وطيبة أن تستقطب كل ما فيها من (شرَ) وتستغله بلا هوادة أو رحمة مع مراعاة استحالة ممارسة الشر بنجاح إذا ما ضعفت الشخصية فآثرت التعامل بشرف مع الطيبة. أما الزوجة والابن ـ وهما الوجهان الآخران لشخصية (فيردو) ـ فيعيشان في عالم من الطيبة انقطعت صلته بالواقع وبالحقيقة، عالم أقرب إلى السجن منه إلى عش إنساني ترفرف عليه السعادة، عالم صامت لا تسمع فيه خفقات قلوب تحب. لقد اختار (فيردو) طريق الجريمة في سبيل تحقيق رغبته، وهو لا يستطيع أن يحيد عنها ولا يستطيع أن يعترف بذلك لزوجته أو غيرها، واختياره لطريق الجريمة ليس وليد أي حب لأسرته أو أية شفقة عليها كما يحاول أن يوهم نفسه، وإنما هو وليد الرغبة الجامحة في الانتقام والعشق المرضي للذات وكلاهما يتخفى تارة وراء قناع الشفقة، وتارة أخرى وراء قناع الحب. وقد كان في حاجة دائما لحب خادع، في حاجة لان يلقي مسئولية خطيئته على الأبرياء. وهذه الوقاحة الكريهة في التهرب من المسؤولية عادة ما تدمر الحب. وفيردو وزوجته كلاهما على طرفي نقيض، هي لطيبتها تؤثر الحياة القاسية، وهو يؤثر الحياة اللذيذة لأنه يحمل الاحترام للقيم السائدة في العالم، قيم السادة أصحاب رؤوس الأموال.. تلك القيم التي كان يظن انه لا يحمل لها إلا الاحتقار.. ولا غرابة في أن يفتن فيردو بقيم السادة أصحاب المال والأعمال، وهو الذي قضى زهرة العمر عاملا في مصرف لا يتنفس فيه إلا عطر النقود ورزم الأموال في محراب الحضارة الحديثة. وتشارلي شابلن يرمز بـ”مسيو فيردو” إلى هذه الحضارة المزيفة التي تعطل كل الطاقات الخلاقة في الإنسان، إنها لا تستغلها إلا لتحقيق مصلحتين: الربح والهدم. فمسيو فيردو دائب النشاط، دائم الحركة، مشبع بالخداع حتى النخاع، مستغرق بالأعمال على وجه لا يتيح له أي تفكير في المصير، مكرس كل ما فيه من ذكاء ومهارة وحيوية لنجاح المشروع، ويستوي عنده أن يتحقق الربح من خلال الجريمة أو من خلال القانون. فالشرعية لا تهم، لا شيء يهم سوى الربح والمال والقوة. هذه هي حياة فيردو، وهي حياة الإنسان المعاصر إذا ما عاش لنفسه وفرديته وحيداً في عالم تسوده الأشياء المادية ويتهدده شبح الحرب الذرية بالفناء والزوال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©