الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عالمنا الصغير

عالمنا الصغير
3 ديسمبر 2010 20:41
يتعود الإنسان حدود عالمه الضيق المحيط به، فيعتبر هذا هو الكون نفسه. عندما كنت في المدرسة كان المعلمون يلعبون في حياتنا بالضبط ما يلعبه رئيس الولايات المتحدة ورئيس فرنسا على الصعيد الدولي.. نفس الأهمية والخطورة. وكنا نتشاجر حول تعريف (الفولتامتر العياري) أو (قاعدة أورستد)، كأننا نناقش أسرار الكون ذاتها، بينما الأمر لا يتجاوز حدوده: مجرد مدرسة ثانوية صغيرة في مدينة صغيرة. يوبخني أبي أو تمرض أمي فيكون هذا هو (يوم التوبيخ العالمي) أو (الذكرى السنوية للمرض). كل شيء بالغ الأهمية ويؤثر في حركة أجرام السماء نفسها. أعمل في مستشفى كبير يستقبل مئات الحالات يومياً. كنت أمشي في طرقاته متجهاً إلى القسم الذي أعمل به عندما استوقفني ذلك الفتى.. فتى يبدو أنه ريفي من القرى المحيطة بالمدينة. اتجه نحوي في ثقة وبخطورة سألني: ـ«كيف حال العمدة اليوم»؟ العمدة؟.. إن المستشفى يستقبل ثلاثين عمدة على الأقل كل يوم. لابد أن هناك في هذه اللحظة عشرين عمدة في قسم الجراحة والعناية المركزة. لكن الفتى من قرية، وبالطبع أهم شخص في قريتهم هو العمدة.. بالتأكيد يحسب أن سيارات الإسعاف راحت تعوي وأضواء حمراء راحت تضيء في كل مكان من المستشفى، بينما صوت مذعور من مكبر صوت يردد: ـ«عمدة قرية (كفر الغلابة) هنا في المستشفى!.. يتم إلغاء الإجازات واستدعاء الأطباء»! ولابد أننا رحنا نركض مذعورين، بينما وقف مدير المستشفى يجفف عرقه ويصرخ فينا: ـ«عمدة قرية (كفر الغلابة).. أنتم تعرفون ما يجب عمله!.. لا أريد أخطاء!» وهكذا يعمل المستشفى كله على قدم وساق من أجل المريض المهم. وفي كل لحظة يأتي تقرير بالحالة: ـ«عمدة قرية (كفر الغلابة) قد ارتفعت حرارته.. عمدة قرية (كفر الغلابة) يشكو من صداع.. عمدة قرية (كفر الغلابة) يشكو من أن الوسادة غير مريحة».. فنهرع كي ننقذ الرجل.. لم أستطع أن أخبر الفتى أنني لا أعرف عمدة قريتهم.. لذا قلت له في تحفظ: ـ»بخير. لكن حالته ما زالت خطرة».. قال بصيغة آمرة مع لهجة تهديد لا شك فيها: ـ«أرجو أن تهتموا به أكثر».. ثم انصرف ماشياً بثقة كأنه صاحب المستشفى.. يكفيه أنه من ذات القرية التي صار العمدة عمدة لها.. عندما كنت طالباً، كنت الوحيد الذي يدرس الطب في أسرتي، لهذا اكتسبت أهمية مبالغاً فيها. كان أحد أقاربي المسنين يريد خدمة ما من المستشفى لذا طلب أن يذهب معي. بدأت المشاكل على الباب عندما قال للعامل الذي يحرس البوابة: ـ«هذا هو الدكتور (عادل)».. قالها وهو مندهش لأن العامل لم يجث على ركبتيه ويظهر لي آيات الاحترام. لقد صار العمال وقحين على ما يبدو. كانت هناك مجموعة من الممرضات فاتجهت نحوهن أسألهن عن طبيب معين، فردت علي إحداهن في غير اكتراث ثم ابتعدت مسرعة. قال قريبي في غضب: ـ«ما هذه الوقاحة؟..كان يجب أن يقفن في إجلال بانتظار أن تأمر واحدة منهن».. طبعًا كنت أحاول في صبر أن أفهمه أنني مجرد طالب طب.. لست مدير المستشفى، ولا وزير الصحة ولا مدير منظمة الصحة العالمية، ولا أحد يعرفني على الإطلاق هنا .. لكنه كان سجين عالمنا الضيق، حيث أنا أهم شخص في العالم. لن أحكي لك عن خيبة أمله المتكررة.. حتى اقتنع في النهاية بأن العاملين في المستشفى وقحون جداً ، وأنا ضعيف الشخصية عديم التأثير. مع الوقت تدرك أنك موظف صغير في بلدة صغيرة.. وهذه البلدة توجد في بلد من العالم الثالث.. وهذا العالم الثالث يوجد في كوكب صغير اسمه الأرض.. الأرض كوكب في مجموعة شمسية صغيرة.. والمجموعة الشمسية ضمن مجرة صغيرة في الكون الفسيح... قل لي بربك: كيف أعرف أخبار عمدة (كفر الغلابة) بعد هذا؟ د. أحمد خالد توفيق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©