الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رادها وكريشنا.. أسطورة العشق الإلهي

رادها وكريشنا.. أسطورة العشق الإلهي
2 سبتمبر 2015 21:55
كريشنا الهنديّ يأتينا من عالم كبير في جغرافيّته وفي عمق حكايته وفي ملاحمه وتراجيديّاته وفي مخياله الضارب في القدم. إنّه العالم الهنديّ الذي تسيّجه غرباً باكستان وشرقاً بنجلادش وجنوباً سيرلانكا وشمالًا نيبال وبوتان. وهو العالم الغريب الذي تعبّر لغته المتأرجحة بين الأبجديّة ولغة المقاطع اللفظيّة، كلّ هذي البلاد التي تعجّ بكينوناتها الثريّة والفاتنة، هي عبارة عن سور سحريّ لرقعة الهند نفسه.وهي رقعة تستأثر بقلب الجغرافيا وأوجها، رغم كلّ ما يهدّد التاريخ من حروب منذ تيمور لنك الذي أحرق دلهي وطفق يصنع الأهرامات من جماجم الهنود أنفسهم ذات تاريخ فظيع، إلى الاستعمار الإنجليزيّ الذي قسّم الشعب الهندي وقضى على وحدته وفاق في عهده عدد الضحايا المليونين من البشر. كريشنا كريشنا في عبارته التي تلتحف - في صياغتها الأورديّة - حروفنا العربيّة دون أن تذعن إليها تماماً، يعني في اللغة السنسكرتيّة التي هي لغة الهند الأصليّة «الإله ذو اللون الداكن»، فهو الأسمر المائل إلى الزرقة ممّا يليق بجمال أسطوري لإله نسج بلونه وبحكمته وبعشقه وبتعاليم اليوغا الخاصة به مخيال شعب برمّته. هو الطفل الثامن في عائلة أميريّة عريقة النسب من عائلة يختلط فيها الملوك بالكهّان بالمحاربين الأشاوس في زمن بعيد لم يكن يفصل بين عالم البشر وعالم الآلهة، وبين الأسطورة والواقع وبين الحلم والملحمة. وُلد كريشنا على ضفاف وادي يامونا الخصب في حضن قبائل يادافا، حيث الأشجار الظليلة والزرع الوفير وقطعان البقر ورعاته وفتيات يرقصن على إيقاع زمن مازلنا نسمع صدى أغانيه في السينما الهندية الحاليّة الواسعة الانتشار. وأنت تورّق صفحات قصّة كريشنا ستعثر دوماً على قصص مماثلة إلى حدّ زعزعة الكثير من عاداتك الفكريّة والجماليّة والعقائديّة والفلسفيّة: ستعثر على قصّة السيّد المسيح الذي وُلد من عذراء، وعلى محنة النبيّ موسى الذي ألقي به في اليمّ وعلى قصص أخرى لعقائد خلناها دوماً مختلفة وأصيلة. وكلّما تقدّم بك الخطو مرحاً في ثنايا حضارة أخرى إلاّ وتغير وجه الغريب الذي كنت تخافه وتنغلق دونه بل وتكرهه أحياناً. وربّما نحتاج إلى كمّية من حريّة الروح العميقة فينا التي لم تشوّهها معارك الهويّة والأصل وأيديولوجيا القوميّات الكسولة من أجل إعادة ترتيب علاقتنا بالإنسانيّة الكبرى التي ننتمي إليها. وسيدفعك مخيال الهند وآلهته وأساطيره إلى إعادة تنضيد وثائقك الباطنة وتغيير خطّتك الجماليّة والعقائديّة حيث الفصل بينهما سيبدو انطلاقاً من إحداثيّة أسطورة كريشنا ورادها فصلًا باهتا ورتيباً. وقد يصير كلّ أثاثك الفكريّ والفنّي والعقائديّ مثيراً لضحكة يكتبها المفكّر الفرنسيّ ميشال فوكو في مقدّمة كتابه العمدة «الكلمات والأشياء» على موسوعة صينيّة لتصنيف الحيوانات أحال عليها بورخيس قائلًا أنّها «ضحكة تهزّ.. كلّ عادات الفكر- فكرنا: الفكر الذي له عُمُرُنا وجغرافيّتنا-، مزعزعة كلّ السطوح المنظّمة والخطط التي تعقّل لنا التدفّق الغزير للكائنات، وتجعل ممارستنا القديمة – للذات وللآخر، ترتعش وتقلق لمدّة طويلة». ورغم كون الكلام هنا موجّهاً للعالم الصيني فإنّ العالم الهنديّ يملك هو أيضاً نموذج معقوليّة يزعزع هو الآخر سلوكنا النظريّ الذي تربّينا عليه، سواء في عاداتنا الفكريّة الهوويّة أو في المكتبة الغربيّة نفسها. هكذا أنت كلّما حدّقت بمخيال ثقافة أخرى إلاّ وتعلّمت النظر بعيداً عن المنغلقين والمتعصّبين والذين لا يرون غير أوهامهم فيخالونها الحقيقة الوحيدة، ويخالون العالم ينتهي عند حدود ثقافتهم. رادها رادها هي في المخيال الهنديّ شخصيّة أسطوريّة محاطة بهالة من الغموض. ولقد أصبح اسمها مألوفاً منذ القرن الثاني فصارت تُذكرُ شعراً في أغلب القصائد الإيروسيّة كي تصير في القرن العاشر ميلاديّة منبعاً لجميع الأغاني. يُقال إنّها شاعرة هي الأخرى وراقصة كي يصير الرقص من بين يديها سمة أنثروبولوجيّة رمزيّة في مخيال الهنود. وهي صديقة كريشنا وحبيبته ولذلك مُنحت مكاناً في هيكل الآلهة أيضاً. وفي الأسطورة الهندية تجمعهما أغنية ورقصات وصوت مزمار كريشنا والكثير من القصص الأخرى. ويبدو أنّ رادها هي صاحبة كلمات أغنية خالدة في مخيال الشعب الهنديّ: «يا كان يا كان لقد جئت إليك في الغابة حيث كنت نائماً مقيّداً إلى الهاون، والأشجار التي أسقطتها حولك وقد ابتسمت لي وجئت لتستقرّ في عيوني وأصبحت أنا عبدة لك طول حياتك أزحت الغبار عن وجهك فلمست شعري سقيتك الماء فأمسكت بيدي فشعرت بفرح لم أشعر به من قبل حينما ابتسمت وجئت لتستقرّ في عيوني......» من هذه القصيدة بدأت كلّ الحكاية. هي جاءت إليه في نومه فأيقظته فحرّرته من الانتماء إلى مجرّد البشر. ابتسم لها فاستقرّ لتوّه في عينيها. هي التي أزاحت الغبار عن وجهه كي يرى العالم بعين إلاه هي التي تسقيه ماء فتأسره بجمالها كي يمسك بيديها..لكنّه هو الذي جعل الفرح الأبديّ يغمرها كي تصير عبدة له إلى الأبد. وما عبيد الفرح والحبّ بعبيد. كريشنا متعدّد الأسماء ككلّ الآلهة في مخيال البشر وله أكثر من قصّة لذلك يُعدُّ أسطورة. فمن يملك قصصاً عديدة يرتقي إلى شرف الأسطورة. أمّا ما يتبقّى فحكايا قصيرة لبشر لا يعرفون من الخلود غير ما قتل. إنّه يُرسم عادة على شكل راعي بقر يعزف الناي.. ويُرسم تارة أخرى بوصفه حكيماً وأحياناً يُرسم طفلًا رائع الجمال بألوان زاهية وثريّة. كذلك رادها متعدّدة الأسماء فتسمّى راضيكا وراضيكاراني وناييناي، وقد تغنّت بها قصائد الحبّ المكتوبة باللغة السنسكرتيّة بما هي مثال الجمال في المخيال الهندوسيّ. وجعلها الشاعر الهنديّ جاياديفا شاعر بلاط الملك لاكشبانا سينا (1179-1203) بطلة عمله «جيتا جوفندا» التي صارت عملاً مقدّساً للهنود فيما بعدُ. أرجوحة العشق رادها وكريشنا: لقد استحمّا في نفس النهر مرّتين: مرّة في زمن الآلهة البعيد ومرّة أخرى في ذاكرة البشر الفانين. ولقد تأرجحا على أرجوحة القدر والعشق ورقصا معا على نحو إلهيّ خالد. ذلك أنّ حكمة كريشنا لا ترضى بغير الخلود، وليس أقلّ من الخلود، قدراً وحيداً لكلّ روح، هي، بحسب حكمة شرينكا، «بمنأى عن قبضة اللذّة والألم، لا تهزّها الحوادث ولا تقلقها الأحداث، ولهذا هي تستحقّ حياة الخلود». ومن يستطيع إلى ذلك السبيل؟ غير، على حدّ حكمة كريشنا نفسه، «الأقوياء الأشدّاء الذين لا يتطرّق الضعف إلى نفوسهم ولا تخور عزائمهم، لأنّ التخاذل لا يمنحهم نصراً على الأرض ولا يوصلهم إلى السماء». هذه اللوحة التي رسمها فنّان لم يحفظ التاريخ اسمه في القرن الثامن عشر لا تكتفي برسم عاشق وعاشقة بالمعنى البشريّ الخالص كما حدّثت عن ذلك كل قصائد الحبّ والغزل في كل اللغات.إنّما تخلّد روحين تقابلا في لوحة تاريخيّة واحدة وجمعهما قدر أسطوري عميق المدى. ذلك أنّ تعاليم كريشنا وحكمته تقتضي خلود الروح في انتصار أسطوري على أفظع ما يخيف البشر أي الموت. ليس ثمّة موت بالمعنى الغربي الجافّ للكلمة حيث تنتهي قصّة الأرواح عند تعب الأجساد وتناهيها. يقول كريشنا:«إنّ الروح التي تقطن كل الكائنات هي خالدة بها جميعاً، فلا تحزن لموت ما لا يموت». وإنّ هذه الحكمة المثيرة لتُزعزع تقاليد الفكر الغربي الحديث المنهك بتناهي الإنسان وتوقّفه عند حدود جسد طاولة التشريح. ثمّة ثراء روحيّ عميق نحتاجه اليوم لاستعادة نشاط الدافع الحيويّ الذي أتعبته حضارة السلع والعولمة وغرائز الفرد الليبرالي الضيّقة ونموذج الإنسان الشره المسعور بالعلب الإستهلاكيّة. هذه اللوحة التي تحضن رادها وكريشنا، راسمة الحبّ في صمته العميق، فيما أبعد من كلمات قصائد الغزل والعشق، إنّما هي بمثابة لوحة الحبّ الكوني الذي يسمو فوق عواطف البشر وآلامهم من أجل إدراك مقام روحي خالص. وهو ما تحدّث عنه حكمة كريشنا قائلا: «وإذ يغمرهم الحبّ الكوني تتساوى نظرتهم لكل الناس والمخلوقات دون استثناء». ها هنا في مكان قصيّ من الروح العميقة تمثُل رادها وكريشنا يغمرهما الحبّ الكوني حين يتحوّل حبّ البشر إلى عشق إلهي لا يستطيعه غير «من لا تستطيع الأحزان أن تهزّ عقله أو تشوّش فكره». إنّ العشق الإلهي هاهنا إنّما هو مقام رفيع لنفس رفيعة أدركت درجة من الطمأنينة والغبطة بحيث يستوي لديها كل العالم. نحن بإزاء حالة عشق أسطوريّة لنوع آخر من النفوس السامية التي لا تشبه حالات العشق لدى عشّاق اليوم الذين يجعلون من الحبّ لحظة عابرة شبيهة بدخان سيجارة أو بالتهام شريحة لحم. لذلك نرى كريشنا إذ يطلب عشق الروح يحدّق بوجه رادها في ضرب من اليوغا الهادئة فيعلّمها من حكمته علماً كثيراً. ولعلّه كتب تعاليمه بين يديها بعد أن «استقرّت في عينيه». وإنّ هذه اللوحة إذ ترسم عشقاً بين إلهين قديمين لا تنتظر شيئاً من أدوات تحليلنا الحاليّة للأثر الفني لأنّها توجد فيما أبعد من التجربة الفنية الحديثة التي تربط الجمال بذات تتذوّق الجميل مستقلّة في ذلك عن الدين والأخلاق والعقل العملي معاً. ذلك أنّ الفصل بين الفنّ والمقدّس وبين العشق والعبادة نفسه يبدو في حالة الثقافة الهندية لا معنى له. وهو ما يقوله الفيلسوف الألماني المعاصر غادامار حول الفصل بين الدين والفنّ:«إنّ السؤال الذي يكون مطروحاً في هذه الصيغة: لغة شعريّة أم دينيّة؟ لهو سؤال سيكون دون حدود اللياقة عندما نكون في مواجهة تقاليد الفكر الهندي أو الصيني...فمن الواضح أنّ الجدال هو سمة مميّزة للتطور العقلي والروحيّ في الغرب». إنّ هذه اللوحة تضعنا إذن إزاء ثنائيّ شرقيّ يستقرّ فيما أبعد من مقولات الجمال الغربيّ، إذ هو ينتمي إلى باحة الرائع أي ما لا يمكن تمثيله ولا تخييله بواسطة مقولات العقل الحديث نفسه. كانط الفيلسوف الألماني قال ذات مرّة: «بأنّ المرأة الغربية جميلة لكنّ المرأة الشرقيّة رائعة». إذ الرائع ههنا إنّما يسمو تحديداً عن الجميل في جماله. وبذلك تغدو رادها بجمالها الشرقي وبأنفها الطويل الحادّ وعينيها الوسيعتين، وبحليّها الذهبيّ وغُنجها وشعرها الأسود المسافر بعيدا إنّما تجسّد مخيال الشرق القديم: حياء في عينيه فتراها لا تحدّق رأسا بعينيه والإله العاشق قبالتها في وضع أيروسي مؤجّل: يد على كتف الحبيبة والأخرى تخاطب روحها وتستحثّها نحو السموّ إلى مقام فوق ملذّات البشر وقيودهم.عن هؤلاء تكتب حكمة كريشنا ما يلي: «هم غير مقيّدين بقيود العالم بل يتلذّذون بفرح عظيم.وإذ تتوحّد نفوسهم مع الحقّ يبلغون ذروة السعادة الباطنيّة التي تعصى عن الوصف». في هذه اللوحة، كلّ شيء يولد في رحم الأسطورة. وكلّ شيء يولد في عيون آلهة الفرح. وما أحوجنا إلى الفرح. وما أحوجنا إلى الأسطورة مرّة أخرى تنشيطاً لذاكرة الشعوب الجميلة ضدّ ذاكرتها العاجّة بالضغينة والقيم البائسة التي لا تنتج غير البربريّة والخراب وبؤس البشر.رٌبّ أساطير بمستطاعها أن تتحوّل إلى حيلة لدفع الأحزان عن البشر الحاليّين المثقلين بالكآبة في عصر الاكتئاب والخوف من مستقبل قد لا يقبل إلاّ مُتعباً. هكذا تعلّمنا حكمة كريشنا: أنّه فيما أبعد من الفصل العقيم بين الفلسفة والدين والعلم والأسطورة وبين الحبّ والعقل، علينا بطلب الحكمة ذلك أنّه «من يؤمن بالحكمة ويجلّها يعش بانسجام باطنيّ، ومن يعثر على الحكمة يعثر أيضاً على السلام الأعظم». هيدجر الفيلسوف الألماني المعاصر يقول «إنّ العلم لا يُفكّر»، وربّما كان بوسعه أن يقول بالأحرى «أنّ عالم العولمة اليوم لا يحلم أيضا». وإنّ هذا لأمر جلل..فهو عالم قد قام بعدُ - كما يفيد تعريف ماكس فيبر لمفهوم الحداثة نفسها- على نزع القداسة والسحر عن العالم.وهو بذلك قد وقّع موت الحلم واليوتوبيا. نعم، إنّا لنحتاج اليوم إلى يوتوبيات مغايرة تبدأ من مكان آخر. نعم، تنقصنا اليوم قدرة على تنشيط بعض الأساطير الجميلة التي تعيد للروح الكونيّ صحّته وعافيته بعد أن أصيب بالقحط والجفاف في عالم صار ينحدر نحو تصحّر الروح وازدهار صناعة القتل في كلّ مكان. «ها هنا الوردة وها هنا نرقص» فلتكن هذه العبارات لهيغل شعاراً أجمل لإنسانيّة تتقن تحرير الورود من قبضة النفوس الحالكة، ولنتعلّم الرقص من الهند الراقصة رغم آلامنا اليوميّة وسمائنا المغيّمة بغيوم لا تمطر أحياناً غير أخبار عن عدد القتلى كل يوم... يهمُّ بعناقها لكنّه لا يفعل. فيُفضّل أن يُحادثها بكلام لا أحد يتقن الإنصات إليه غير عاشق على طريقة الآلهة. هي رادها أيقونة العشق الأسطوري تتربّع على قلوب الهنود منذ مئات السنين. هي كما أرادها الرسّام المجهول الهويّة، ههنا في شكل امرأة رائعة الجمال تختلج حياء شرقيّاً من شدّة جمالها وأناقة روحها ورفعة معدنها. وهو كريشنا أكثر آلهة الهند شهرة وعبادة وعشقاً. إنّهما إلهان دوماً، حبيبان دوما، راقصان دوما، لا شيء يجمعهما غير الأسطورة ولا شيء يفرّقهما غير جهلنا بأنّ ثمّة دوماً ضفّة أخرى تدعونا للعبور إليها، نحن سكّان أضعف ما تبقى من روح أمّة حوّلها عشّاق الخراب إلى دمار موعود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©