الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة ليست خدمة إجباريّة

الكتابة ليست خدمة إجباريّة
6 يناير 2016 21:14
قاسم حداد يستوقفني الحماس منقطع النظير الذي يبديه البعض لفكرة تغيير الواقع بالكتابة الأدبية. وثقة البعض في قدرة الكتابة على التأثير في الحياة بشكل أوتوماتيكي مباشر. بالطبع لا أزعم أنني أعرف مصدر هذه الثقة في تلك الفكرة، بل إن الحيرة تنتابني وأنا أرقب هؤلاء وهم يمعنون في الدفاع عن فكرتهم بحماس يؤدي بهم إلى إلغاء تجارب الذين يخالفونهم في الرأي، وربما يقعون في التشكيك ليس في موهبتهم فحسب، بل ينالون من أشخاصهم ومصداقيتهم الوطنية والإنسانية، إلى حد الغمز من قناتهم باتهامهم بالخيانات والعمالة. مما يتعدى حدود الحوار والثقافة والأدب. 2 الغرابة هنا لا تكمن في الحماس للأفكار والتعصب لها إلى هذا الحد فقط، فهذا أصبح من طبيعة البنية الذهنية العربية المعاصرة، امتداداً للعنف المتفشي في التفكير العربي وثقافته. تنشأ الغرابة عندي من المفارقة المتمثّلة في الفشل الذريع لفكرة التأثير والتغيير التي يؤمن بها ويتعصب لها شخصٌ لم تستطع كتابته أن تغير سلوكه الإنساني هو بالذات تجاه الآخر، وخصوصاً الآخرين من حوله، إنه لم يتغير هو نفسه، لم يتغير أخلاقياً، ولم تتخلق في بنيته الذهنية طبيعة الحب الذي يسعى لنشره في الواقع. فكيف يتوقع من قدرة الكتابة أن تغيّر العالم إذا كانت لا تزال تفشل في تغيير كاتبها؟ 3 وفي ظني أن من بين أهم معالم وأفكار التغيير الإيجابي التي تسعى إليه الكتابة الأدبية، التي يؤمن بها ويتحمس لها الكاتب، هي الحب والاعتراف بالآخر (لكي نشير إلى العدالة والديمقراطية)، ومثل هذه المعالم تستدعي احترام حريات الآخرين وتكريس حرية الاختلاف، ليس لكونه شرطاً سياسياً لحياة المجتمع الإنساني، ولكن، خصوصاً، لكون الجماليات الإبداعية تمنح الاختلاف والتنوع المنتج في حياتنا. فإذن، كيف نزعم سعينا الحماسي نحو فعل التغيير ونحن نصادر حق الآخرين في حرية وحق المشاركة في هذا السعي النبيل بالطرق المختلفة، والتشكيك، ليس في هذا الحق فحسب، بل وفي أهلية من يختلفون في سبل هذه المشاركة، وهي سبل وأشكال تعبيرية بالغة الغنى والتنوع. 4 الحق أنني من الذين لا يَرَوْن الذهاب إلى المستقبل عن طريق واحدة. أكثر من هذا، أشعر بالخطر كلما سمعت القول بالطريقة الواحدة الوحيدة في الكتابة والتعبير، ناهيك عن الزعم بالتغيير بطريقة نضال وحيدة لا شريك لها. ففي هذا إلغاء ظالم لطاقة الإنسان الإبداعية في اكتشاف الحياة وابتكار السعي لجمالها. 5 في عالمنا المتسارع التطور من جهة، علينا أن نقلق على تدهوره من الجهة الأخرى، وأخشى أنه تدهور أكثر عمقاً وفعالية وخطورة. فثمة الأحلام التي تتعرض للهزيمة والإلغاء، وكذلك الأوهام التي يجري تكريسها بوصفها الطريق الوحيدة المتاحة أمام الكائن الإنساني. فالتخلف في الواقع العربي سوف يستعصي، ليس على رغبة التغيير بالكتابة فحسب، ولكن الحركة الطبيعية كضرورة حضارية في قوى التقدم العربي، أو بما تبقى منها. 6 ومشكلتنا الثقافية في حقل المعرفة والتغيير، سوف تتمثل في الفصل (غير الواعي، لكي نحسن الظن) بين الكتابة الأدبية كواقع، والحياة كحلم. وهذا يؤدي، في الغالب، إلى خضوع المشاريع الأدبية إلى الخلط بين الرغبات والطاقة الحقيقية للكتابة، وهي تسعى للتأثير في ما حولها، مما يجعلنا ضحية لمشاريع يكرسها الآخرون ونصير أدوات وآليات لها. 7 الحق أن بعضنا يبالغ في تكليف نصوصه الأدبية للنهوض بأدوار تفيض وتخرج عن طاقتها الحقيقية. خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالواقع الكثيف الذي يقع على كواهلنا، دون أن يكون لدينا القدرة على تفسيره وفهمه وتجاوزه، ناهيك عن التأثير فيه وتغييره. هذه المبالغة من شأنها أن تضع الكاتب في مهب الإحباط والإحساس بالفشل من قصوره الذاتي عن وعي الواقع واكتشاف سبل فهمه والتفاهم معه والتحكم في حركته. ومن شأن هذه المبالغة، أيضاً، قبول الأوهام المتصلة بما يمكن للكتابة، والأدب خصوصاً، وبالتالي الاستسلام لفكرة توظيف الأدب في مشاريع برغماتية، يصير الأدب ضحية مبتذلة، ويفقد طبيعته الحرة والمستقلة والنقدية، التي يفترض أن تتصف بها الكتابة الأدبية، ويفترض في الكاتب أن يكون يقظاً وقادراً على تفادي هذه الشراك التي باتت القوى الأخرى تحسن نصبها أمامنا، وتزيينها للتجارب الأدبية الجديدة، قليلة الخبرة والثقافة. 8 يبقى أن ننتبه، في زحمة وملابسات لحظتنا الثقافية، لكل ما يتعلق بالحفاظ على الدرجة الضرورية من حرية الكتابة الأدبية، وتحصين أرواحنا ضد الأوهام (الإعلامية) التي يجري الترويج لها وتكريسها، من شتى جهات (الحراك) السياسي والاجتماعي، أحياناً بالنوايا الحسنة الصادرة عن توظيف كل شيء في سبيل الهدف السامي: التغيير. والأغلب بالنوايا الشريرة الراغبة في أن (تقود) الإبداع، بزعم الرعاية، فيما تعني (الرعية)، نحو مهاوي (الخدمة الإجبارية) التي تأخذ الكاتب إلى الإحباط والخسارات الفادحة، وفقد الذات الإبداعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©