السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوروبا... صراع من أجل الوحدة الاقتصادية

أوروبا... صراع من أجل الوحدة الاقتصادية
8 سبتمبر 2011 00:38
وسط أزمة الديون المتفاقمة التي تواجه أوروبا وتهدد اليورو، تجد القارة العجوز نفسها أمام مشروع طموح لم تنجح في استكماله حتى الآن، إذ بعد مرور عقد من الزمن على بناء العملة الموحدة، أخفقت أوروبا في إقامة اقتصاد مندمج وموحد قادر على مواكبة العملة الموحدة، وكسب الرهانات المطروحة. لكن المشروع عاد إلى السطح بعد أزمة الديون الخانقة التي تطوق روما ومدريد وأثينا مع احتدام النقاش في الآونة الأخيرة حول إصدار الاتحاد الأوروبي لسندات موحدة على شاكلة سندات الخزينة الأميركية يمولها دافع الضرائب الأوروبي. غير أن هذه الخطوة رغم ما تنطوي عليه من جهد وجدوى ملحوظين، علماً أن العديد من الدول الأوروبية عارضتها معارضة شديدة، لا تعكس سوى جزء يسير من المشاكل الأوروبية، فالأهم من السندات الموحدة هو فشل أوروبا في خلق اقتصاد فعال يمتد من مياه المتوسط الدافئة قبالة السواحل القبرصية في الجنوب إلى بحر البلطيق المتجمد في فلندا بالشمال بسبب عدم اتفاق الأوربيين إلى حد الآن على توحيد نظام الرعاية الاجتماعية وإنشاء قوانين عمل واحدة، فضلاً عن التباين الكبير في الأنظمة الضريبية بين الدول، والأكثر من ذلك اختلاف طبيعة الاقتصادات الأوروبية ومحركات النمو في كل دولة على حدة. والخلاصة أنه لكي يضمن اليورو استمراره يتعين على الاقتصادات الكبرى ضمن الاتحاد مثل فرنسا اتخاذ منحى أقرب إلى الأسلوب الألماني الذي عمل قبل سنوات على خفض الامتيازات الاجتماعية وأعاد هيكلة الاقتصاد مع بداية الألفية الثالثة في اتجاه التصدير باعتباره المحرك الأساسي للنمو. وللتدليل على الانقسامات الاقتصادية التي تمزق النسيج الأوروبي ما علينا سوى النظر إلى محافظة اللورين الفرنسية المتاخمة للحدود الألمانية، حيث تقف البلدات الفرنسية المتضررة من تراجع القطاع الصناعي بالقرب من خط "ماجينو"، الذي أقامه الفرنسيون كتحصين ضد الألمان في الحرب العالمية الثانية، شاهدة على المصاعب الكبرى التي تواجهها أوروبا لرسم مستقبل مشترك. فقبل عقد من الزمن كانت التجارة بين البلدين التي تتدفق عبر الحدود من خلال الطرق السريعة وقطارات الشحن تميل قليلاً لصالح ألمانيا، لكن اليوم، وكما تبين الموديلات الأخيرة لسيارات المرسيدس و"بي. إم. دبليو" الرابضة أمام البيوت الفرنسية بدأت العلاقات التجارية بين البلدين الجارين تشبه إلى حد كبير تلك القائمة حالياً بين الولايات المتحدة والصين مع الإقبال الواسع للفرنسيين على كل ما يصنعه الألمان الأكثر ادخاراً من جيرانهم. وبالمقارنة مع ألمانيا ما زالت نسبة البطالة مرتفعة في فرنسا بسبب سنوات النمو الاقتصادي المتباطئ لتصل إلى 10 في المئة متجاوزة نظيرتها في ألمانيا بحوالي ثلاث نقاط. ورغم المحاولات الجبارة التي تبذل على صعيد التبادل الثقافي بين البلدين لتكريس مزيد من التقارب تشهد المدارس الثانوية في محافظة اللورين الحدودية تراجعاً كبيراً في نسبة الطلبة الراغبين في تعلم اللغة الألمانية، كما أنه في هذه المحافظة التي اشتهرت في السابق بصناعة الفولاذ وبأطباقها المحلية اللذيذة تقلص عدد العمال الذين يعبرون الحدود إلى ألمانيا للعمل بحوالي 37 في المئة على مدى العقد الأخير. ويفسر هذا الأمر "لويك براستنوهوفر"، الميكانيكي البالغ من العمر 27 عاماً الذي التقيناه بأحد المقاهي في المحافظة، حيث قال إنه بعد تسريحه عام 2009 من مصنع ألماني للفولاذ على الجانب الفرنسي من الحدود، رفض وظيفة جديدة عرضت عليه في ألمانيا. والحقيقة لا أحد يستطيع لومه، ففي محاولتها الناجحة للتحول إلى آلة تصديرية كبرى عانى العمال لسنوات في ألمانيا من أجور ضعيفة وفقدان الامتيازات مع بداية الألفية الثالثة، وهي الصعوبات التي ظل العمال الأقل منافسة في فرنسا بمنأى عنها. فالعمال الفرنسيون لا تزيد ساعات العمل عندهم عن 35 ساعة متجاوزين نظراءهم الألمان بأربع ساعات، كما أن الحد الأدنى للأجور في فرنسا والبالغ حوالي 2000 دولار في الشهر يعتبر الأعلى في أوروبا فيما ألمانيا لا تتوفر على قانون يحدد حداً أدنى للأجور. وخلافاً للعمال في أميركا الذين يحتفظون بالرعاية الاجتماعية إذا انتقلوا من ولاية لأخرى لا ينطبق الأمر نفسه على العمال الراغبين في الانتقال إلى أحد البلدين، وهو ما يعني أن "براستنوهوفر"، الذي رفض العمل في ألمانيا، سيترك وراء ظهره حزمة سخية من الامتيازات الاجتماعية في فرنسا إن هو قرر الانتقال إلى ألمانيا، كما سيكون عليه العمل لسنوات أطول ما دام سن التقاعد في ألمانيا يصل إلى 67 عاماً فيما لا يتعدى 62 في فرنسا، مضيفاً أنه "في فرنسا يحصل العمال على زيادات في الأجور حتى في ظل الأزمات الاقتصادية بفضل الاتحادات العمالية. ومع أن الألمان أقوى من الناحية الاقتصادية، إلا أنهم ليسوا كذلك من الناحية الاجتماعية، ولو كان لي الاختيار لعدت إلى الفرنك الفرنسي"، لكن أخاه، نيلز، الذي كان بالقرب منه في المقهى الفرنسي عارض موقفة، مطالباً منه وقف "هذا الهراء" قائلاً "لو اختفى اليورو ستكون نهاية العالم"، ويتابع "نيلز" الذي يعمل في مصنع ألماني للسيارات على الجانب الفرنسي من الحدود "ستعلن اليونان إفلاسها وستدخل مرحلة من الفقر، وستقفز الصين لشراء نصف القارة، فنحن جميعاً أصغر من أن نجد لنا مكاناً تحت سماء العولمة، لكن معاً تظل أوروبا قوية". ويرى المراقبون أنه لكي تتخطى أوروبا مفترق الطرق الذي أمامها يتعين على قادتها بذل جهود مشتركة، وإلا سينهار اليورو، وهو ما يعني بالنسبة للبلدان 17 داخل منطقة اليورو تقديم تضحيات أكبر. وفي هذا السياق يحتدم نقاش في العواصم الأوروبية حول إقامة اتحاد مالي يبعث الطمأنينة في الأسواق المالية، ويبدد قلقها بشأن أزمة الديون المستفحلة، بحيث سيقف دافع الضرائب الألماني بكل قوته وراء الديون المتراكمة على جيرانه، لكن الأزمة الأوروبية ليست مقصورة على الديون، فعلى سبيل المثال يتحمل الاقتصادان الألماني والفرنسي نفس الحصة من الديون تقريباً، ومع ذلك مس ارتباك للمستثمرين في الشهر الماضي باريس دون أن يطال برلين وسط مخاوف من احتمال تخفيض التصنيف الائتماني الفرنسي، وهو ما يرجعه المراقبون إلى الاختلافات الجوهرية بين الاقتصادات الأوروبية، فعندما تبنت فرنسا وألمانيا العملة الموحدة ورفعا الحدود بينهما في التسعينيات اعتقدت النخبة الأوروبية أن البلدين يمثلان قاطرة النمو الأوروبي التي بها ستتحول أوروبا إلى أكبر اقتصاد عالمي، وكان الأمل وقتها في تكامل اقتصاد البلدين ليرفعا معهما باقي الاقتصادات بعد توحيد العملة وإزالة الحواجز التجارية، لكن الأمور لم تسر وفق ما كان مخططاً له، وهو ما يوضحه الخبير الاقتصادي الفرنسي "جون بيساني-فيري" قائلاً "لو نظرت إلى حجم مبيعات الشركات الألمانية إلى فرنسا وحجم المبيعات الفرنسية إلى ألمانيا لأدركت أن البلدين يشكلان عالمين مختلفين". ولعل ما يوضح هذا الاختلاف بين البلدين قصة "كلود كالي" الفرنسي البالغ من العمر 63 عاماً، فحتى حدود التسعينيات كان "كالي" يملك مصنعاً لإنتاج قطع الغيار للسيارات الألمانية بمدينة "ميتز"، كبرى مدى محافظة اللورين الفرنسية، لكنه اضطر عام 2009 إلى إشهار إفلاسه بسبب عجزه عن مواكبة الطلب الألماني من جهة ودخول المنتوجات الصينية الأقل كلفة من جهة أخرى. وفيما يعتمد النسيج الاقتصادي الألماني على الشركات متوسطة وصغيرة الحجم التي تصدر إلى الخارج، تهيمن الشركات الكبرى على الاقتصاد الفرنسي التي تعمل بالأساس من خلال إبرام عقود مع الحكومة وبالتالي لا تضطر إلى التصدير ليبقى الاستهلاك محصوراً داخل الحدود. أنتوني فيولا محافظة اللورين الفرنسية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©