الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبوظبي.. سُنْدُسةُ الشرق

أبوظبي.. سُنْدُسةُ الشرق
6 يناير 2016 21:14
لينا أبوبكر السماء في سندسة الشرق زرقاء زرقاء زرقاء والبحر مرآة صافية تخض دم اللؤلؤ.. فأهلاً بي..أنا في أبوظبي «إنها مملكة النخيل، أنى وليت وجهك ترى جنات من النخيل على مد النظر... وترى أن الناس هنا ليسوا غرباء، فهم يشبهوننا أو أننا نشبههم»..! وبعد عام ونيف: «أحس بالأمان هنا أكثر...فاللصوص لا يعيشون في هذا الوطن»... ثم وبعد عامين: «الناس هنا يسامحون بسهولة، أما في الغرب فهم حادون جدا، ليس من السهل أن يغفروا لك حتى أخطاءك الصغيرة التي لا تحس أنت بها»... في المرة الأولى كان ولدي في السابعة من عمره، وكنا حديثي العهد بالمكان، نبدو كسائحين أكثر منا عائدين، أما في المرة الثانية، فقد كنا مقيمين جددا، وعمر ابني لم يتجاوز الثامنة والنصف، لكن عبارته الأخيرة التي أدهشتني قالها قبل ساعات فقط من كتابة هذه المقالة، قالها ونحن نعد العدة للعودة إلى المنفى، يا للمفارقة، كأننا كنا هنا - في بلادنا - مهاجرين! ترى لو لم يكن هذا الطفل عربيا، هل كان سيفهم المكان ويكتشفه بهذه الفطرة؟ بعد غربة، تعود لترى مكانك بعينيّْ أطفالك، الذين ينفعلون معه وجدانيا لأنه يحتفظ لهم بخصائصهم المشتركة معه، وهويتهم الأصلية، إنه بالنسبة إليهم مكان أمومي، يتوقف إدراكهم المعرفي له على إدراكه العاطفي لهم، مما يحشد ذواتهم فيه كأنهم يستحضرونها بذاكرة ذويهم في مكان تآلفي يتجانسون معه انتمائيا، أما مخزونهم البصري له فيعتمد بالدرجة الأولى على مخيلتهم التي تولت مهمة تصور المكان عبر ذاكرة موروثة! مدينة الأحلام.. حقيقة كونية نحن إذن عائدون إلى الشرق، وتحديدا «أبوظبي»، من مطار «هيثرو» في لندن...فما الذي ينتظرنا هناك؟ في لحظة انشغال الذهن بما يحاول العقل الباطن استكناهه، تنفصل الغريبة عن اللحظة، وتبدأ المحاور العصبية بنقل التوترات إلى الجهاز العصبي، دون أن تعرف كيف يقف المجهول على الحياد؟ فهل نحن عائدون أم أننا نرحل؟ تتشظى الذات، تخرج من الوعي الباطن لتنفصل عن الجسد، تنظر إليه الآن من زاوية التقاط خارجية، شيء أشبه بتبدد الشخصية الانفصالي، إثر صدمة ربما تكون استدراكية، لأن ارتباطي بمنفاي في لحظة عودتي إلى الجذور تدفعني إلى تبني قناعات خاطئة عن ذاتي، لا أتصالح معها بقدر ما أتصارع فيها، سأكره قراراتي كلها، قراري بالعودة، وقراري بالغربة قبل عمر مضى، فإن كان يصعب تعديل الخطأ الزمني، فلماذا لا أعدل عن قراري الآن وقبل صعود الطائرة؟ ألم أجئ متأخرة؟ وإن كانت هذه محاولة أخيرة لتصويب خطأ تعودت عليه وعاشرته حتى نسيت أني اقترفته، فهل يُعد تصويبه أكثر جرما من الاحتفاظ به وعدم التنازل عنه؟ الأمر لم يعد متعلقا بالخطأ بعد هذا الشوط الزمني الطويل، ولا أظنه يتعلق أيضا بالبحث عن مخرج أو تعديل في البوصلة، لما قد ينجم عن محاولة التصحيح من تشوهات نفسية لا تحتملها الغريبة! فهل أعود إلى منفاي أم أهاجر إلى بلادي؟! * متجهون إلى الإمارات العربية المتحدة؟ - نعم.. * للزيارة أم العمل؟ - يبدو أننا سنقيم هناك! * كم أنتم محظوظون بهذه الفرصة.. بودي لو أعيش في مدينة الأحلام تلك! المرأة إنجليزية، عيناها زرقاوان، شعرها ذهبي، تعمل في مكتب الجوازات في مطار هيثرو اللندني، بهذه العجالة بترت لحظة انقطاعي عن واقعي، وأعادتني إلى دهشتها، إنها تتمنى أن تحظى بفرصة الغربة، لأن الحلم بالنسبة إليها هو الحقيقة الكونية الأهم، كأنه المكان الأجمل، هكذا حاولت فهم الأمر، وقد ذهلت لأنني ولأول مرة أرى المشهد مقلوبا، فلطالما كان الغرب الجنة المنشودة للضعفاء والفقراء والمشردين في الأرض والأحرار ورجال الأعمال وأصحاب الكفاءات والخبرات العلمية والثقافية، فما الذي تغير؟ يا أيتها الأحلام أين هي أراضيك الآن؟ لن أبرِّر التيه، وأنا على حافة السماء، كل ما أحتاجه قبل الإقلاع، هو خوفي، كي أتحلى بالشجاعة، وأجرب حظ الشقراء في خيمتي السمراء، ولتكن صفقة خطأ مشروع مع المجهول، فلماذا لا أغامر وأرحل من جديد؟ الشمس كاملة كيف لهذه الشمس أن تشرق بكامل طاقتها على هذه البلاد؟ أريد نوافذ مطلة، شرفات تلامس خاصرة السماء، ستائر رقيقة تراوغ كل هذه الغوايات فتشف ولا تصف، أريد أن أسكن عاليا عاليا إلى الحد الذي يمكنني من ارتشاف قهوة الملائكة من دلة القمر... أريد أن أشرب قهوتي مع السماء! يا إلهي...أعطني شرفة ولو بلا بيت، وخذ ما تريد، خذ عمري الذي ضيعته وراء نافذة المطر، خذ بريدي الذي لم أستلمه لأن بيتي صندوق رسائل مقفل... خذ كل شيء واترك لي أحلام الغرباء في بلادي! تشم رائحة المكان، قبل أن تدركه بصريا، يبدو إحساسك محايدا في اللحظات الأولى للوصول، حتى يأتيك سؤال المواطن الإماراتي الذي تفحص جوازك البريطاني، وهو يسترق النظر إلى عينيك ودمك: * عربية؟ - بلسان عربي مبين.. * أهلا بكم في «أبوظبي».. في هذه اللحظات أحمد الله، أنه خلقني بقلب من حجر، وجنون من فصيلة الجحيم..فالوقوع بالحب عندي مسألة حياة أو موت، لا يحتمل دمي مجرد ألعاب نارية اعتيادية، إن أردت فعلا أن أحب، إما أن أموت أو أميت أو أنه الدمار، لا أقبل بأنصاف قلوب ولو حتى للمشاركة! حسنا إذن، الإرادة قوية بحجم الهلاك، فلا تخف أيها الحب، لن أقترب منك، لا يليق بك أن تفتح لي بوابة السندس، فأدخلك في دوامة الإستبرق..أراك لاحقا! ويا إلهي! كيف لهذه الشمس، أن تسطع وتفيض بلا تلكؤ ولا بخل؟ السماء في سندسة الشرق هنا زرقاء، زرقاء، زرقاء..... والبحر ليس رماديا على طريقة السماءات الشاحبة في بلاد الغيم والضباب، إنه مرآة صافية تخض دم اللؤلؤ، وتريق رضاب المحار في شباك البحّار.... فأهلا بي..أنا في أبوظبي! جزر، وواحات وبروج، وشرفات..شرفات...ما عليك سوى أن ترفع عينيك لترى المدينة تحت سقف خيمتها الزرقاء، انظر هناك، المدينة تنمو وتمتد باتجاه الأعلى، ارفع رأسك أعلى كي تتمكن من رؤية الجنة، فأنت تمشي فوقها وهي تعلو فوقك... حتى السماء تبدو مرآة لبساطها الحريري الرقراق، فزرقتها مطعمة بنضارة السندس الأخضر، وهذا الاندغام اللوني بين قماشة الأفق وقماشة الأرض، يؤكد فلسفة المكان عند ابن رشد في تجلياته التأملية لهذه الحقيقة الكونية، فكل ما هو خارجه ينتقل إليه، يسكن فيه، يصبح ضمنه ولا يعزله، لأنه الكم المتصل، ولهذا تحديدا تحس بأن غاية انتقالك المادي إليه هي تحديدا نقطة اكتماله الحركي التي تحقق لك عنصرك التفاعلي مع قيم ثقافية ومشاعر وجدانية وصفات وأعراف مشتركة تتقاسمها مع المكان...ولو عدت إلى علم النفس القومي، لوجدت أن عنصريتك ليست جنحة أو شذوذا عرقيا تعاقب عليه قوانين العولمة، إنما هو تماه مع الذات بما لا يضر الانفصام عنها..فأهلا بك أيتها الذات..أنا وأنت الآن في أبوظبي! جزيرة السعادة خصوصية المكان أنه نقطة تقاطع زمنين، والتقاء تاريخين، وهذه ركيزة جمالية يتراوح فيها بين كونه حقيقة كونية وبين اعتباره وحدة إبداعية تضم في تركيبتها العضوية كل عناصر المكان، مما يجدد ثقتك بوجودك فيه، ليس كظاهرة هندسية بحتة، كما يمكن للسائح أن يتعاطى معها، بل من خلال تناص الذات مع المكان، واحتشادها فيه، لأنه عالمها اللامتناهي، ومثواها الطلق، فضاؤها التراثي وليس حيزها الافتراضي أو المصطنع، حتى ليأخذ صفة البيت بما يوفره من إحساس بالألفة والاحتواء والحماية، وتصبح البطولة الإبداعية لهذا التناغم من نصيب المكان وحده ولا أحد سواه! مكانئذ، حين كنا غرباء، بعيدا هناك، كان ينقصنا المكان، فالانحصار داخل فقاعة هلامية لم يكن كافيا للهروب، المكان المعادي بكل غرائبياته برع بتزويدي بآليات استدعاء المكان الذاكراتي، وفي هذا عذاب ما بعده عذاب، لأن العودة لا تشبه الذاكرة، فأنت في كل مرة تعود عليك أن تحصل على ذاكرة جديدة، تصبح فيها القديمة انزياحية نحو المخيلة، كل ما يتبقى منها تقنيات الاستنطاق التي تعينك عليها صفاتك الثقافية مع المكان، ولكنك بعد حين تكتشف إخفاقك في مجاراة بلاغته، حتى وإن بلغت حالتك الروحية وحواسك التعيينية ذروتها ! السعادة هنا رؤية شمولية للمشهد من بؤرته العمياء، يتقاطع فيها الواقعي بالأسطوري، وكلما أمعنت أكثر بالتفاصيل الإيحائية، كلما أحسست بها أكثر، لأنها تخص سمات المكان التي تنعكس على من فيه، إنها عدوى إيجابية تستلهم من التعابير القرآنية نسختها الأصلية فكأنها حدائق ذات بهجة يوحدها بساطها السندسي وسقفها الشيفوني. سورة البلد هذه البلاد التي تروي وتستشرف، بمزاجها الحكائي وطقسها الإطلالي، تتخلى عن طبائع الأمكنة الخرافية، دون أن تستثني الخرافة من فنونها السحرية، كل ما احتاجته لهذه المواءمة - بين العقلية العلمية في النمو والتغير وبين الذهنية الشعبية التي تستمتع باختلاق الخرافات لإضفاء هالة مقدسة وغموض غوائي على المكان – هو القسم! الذكاء الإلهي بالتعامل مع هذه القدسية يثبت أن الانتماء للمكان هو ميثاق سماوي مقدس، شرط أن يستوعب هذا الانتماء كل ما يتعلق بالمكان دون استثناء أي خصال مكانية أو إنسانية موروثة أو مكتسبة، لأنها في مجملها ميزته وسمته.. البلاغة أصبحت عرفا أو سنَّة وطنية، عند كل الأمم والشعوب مسلمة أو ليست مسلمة، لأنها آمنت بالقسم حتى لو لم تؤمن بالكتاب الذي أنزله، كأن الحاجة إلى المكان أكثر إلحاحا، أو أن المكان يأتي أولاً! ولكن يظل السؤال قائما: حين يتعارض الدين مع الوطن من تختار؟ حين يصبح الدين انتماء حزبيا، ويصبح نجاح الحزب أهم من بقاء الوطن، هل ستتردد حينها بالقسم بوطنك عملا بالنهج الإلهي في سورة البلد؟! إياك أن تفعل! دم التفاح أصبح كل شيء جاهزا الآن، الحقائب، الذكريات، الدموع، المكان...سنعود إلى لندن! لماذا تسافرين؟ أكرهك! لقد أحب ابني المكان، تعلق بطبيعته وبشره وبحره، ويا للمفارقة، فبريطانيا جزيرة لا نرى فيها البحر، فماذا سنقول للبحر هنا ونحن نودع فيه سفننا الورقية؟ تنعطف الطريق ببطء شديد نحو منصة الإقلاع، بساط من السندس الناعم يحيط بك كزنار من الحرير، شال أخضر ملقى فوق جسد الصحراء، يداعبه نسيم ماكر وشفيف، حبات مطر متقطعة، هادئة، كرقرقة ناعسة، متثائبة أول ساعات الشقشقة، كأنها تمارس الحب لأول مرة، يا لهذا المطر الحيي، يا لهذه الصباحات المغناجة، يا لقدري العجيب الذي يتنقل بي من جزيرة الغيم في الإمبراطورية التي تغيب عنها الشمس كثيرا، إلى جزيرة السندس في أبوظبي، مملكة الشمس المعتقة بالنور كنبيذ أبيض! إنه موقف وجودي وإبداعي أن تنأسر بكل هذه الفتنة، أن تحن إلى رائحة القهوة العربية تنبعث من أنفاس العابرين والمارة، أن تذوب لما تسمع أغنية صباحية لفيروز كنت تتناولها مع فنجان قهوتك قبل توجهك إلى مشاغلك، تنخطف من لحظتك الراهنة وتندفع بقوة عكسية وخفية إلى ذاكرتك، وأنت تترك فمك على منديل حريري في مقهى ليلي، قرب شاطئ القمر...بانتظار بدوي يعرف تماما أين تخبئ اللغة قبلاتها وفي أي جنة ستريق دم التفاح، لأن الخروج من الجنة مرهون دائما بخطيئة القطاف...ولن أعتذر للسلالة عن أي مكر مقصود في الدلالة! حسنا إذن، الغريبة لن تأتمن المكان على ذاكرتها أبداً، لأنها رحلت منه وما تركت فيه سواها... فهل أكتفي أم أزيد! تحت خيمة زرقاء جزر، وواحات وبروج، وشرفات.. ما عليك سوى أن ترفع عينيك لترى المدينة تحت سقف خيمتها الزرقاء. انظر هناك، المدينة تنمو وتمتد باتجاه الأعلى. ارفع رأسك أعلى كي تتمكن من رؤية الجنة، فأنت تمشي فوقها وهي تعلو فوقك... حتى السماء تبدو مرآة لبساطها الحريري الرقراق، فزرقتها مطعمة بنضارة السندس الأخضر، وهذا الاندغام اللوني بين قماشة الأفق وقماشة الأرض، يؤكد فلسفة المكان عند ابن رشد في تجلياته التأملية لهذه الحقيقة الكونية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©