الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عاش في الآفاق وانتحر على الرصيف

عاش في الآفاق وانتحر على الرصيف
7 سبتمبر 2011 23:56
سماواتٌ غريبة ووطنٌ حزين في تجربة الشاعر السوداني أبو ذكرى على طريقة المتفردين الكبار من الشعراء في العالم، ومثل نَجْمٍ في السموات البعيدة، لمع نجم الشاعر السوداني الكبير الراحل عبد الرحيم أبو ذكرى وأشعل الدنيا من حوله ـ شعراً جميلاً ـ يناقش قضايا الإنسان وعوالمه، ويعبّر عن نفسٍ شاعرية رقيقة ومرهفة، تهوى الآفاق، مقدماً الجديد على ساحة الخريطة الشعرية في السودان، ومثيراً دهشة جمهور المثقفين بإبحاره العميق في سماء الأدب العالمي والروسي في أوج عظمته، وتقديمه لترجمات كاملة ورائعة لكبار الأدباء والشعراء. وعلى طريقة الكبار، وفي مساء 16 أكتوبر 1989، وبعد أن أكمل نيله لدرجة الدكتوراه في فقه اللغة، أتى أبو ذكرى بآخر مفاجآته لتكون داويةً بالفعل هذه المرة، وبأعلى صوت، حيث قفز من نافذة شقته في الطابق الثالث عشر لمبنى السكن الطلابي في أكاديمية العلوم السوفييتية، ليطيح جسده الهزيل فيفاجئ المارة في الشارع، وينتحر محتضناً الأرض التي أحبها، وكتب لها الشعر غزيراً، وبكى بمرارةٍ لعذابها، معلناً نهايةً حزينة لأحد العباقرة الذين أنجبتهم حواء الشعر والثقافة في السودان ولم تسعد به كثيراً. وربما للمفارقة، أن شاعرنا اختار أو رضي باختيار “أبو ذكرى” اسم شهرة له لتأكده من تملكه ناصية الشعر والأدب، ليفتقده السودانيون سريعاً بعد أن كانوا في انتظاره، وأصدقاؤه الذين كانوا يتنبأون له بمستقبلٍ عريض، ويصبح بموهبته الفذةّ مجرد ذكرى! الشفيع عمر حسنين على الرغم من غيابه الطويل عن بلاده حتى موته، وجد عبدالرحيم أحمد عبدالرحيم ـ وهذا هو اسمه الحقيقي ـ المولود في قرية تنقاسي السوق ـ مركز مروي عام 1943، وجد بعض الحظ في الانتشار، خاصةً بعد قصته الحزينة المدويّة، وهو يمثل أشهر ثلاثي أدبي انتحر في السودان، حيث سبقه أديب مرموق وآخر شاعر في إنهاء حياتيهما بأنفسهما. وتعرف عليه الشباب أكثر بعد إبداع المطرب الراحل مصطفى سيد أحمد في تلحين قصيدته الرائعة “الرحيل في الليل”، وغنّاها وهي عنوان ديوانه الوحيد المنشور والصادر في حقبة السبعينيات، ويتداول كل من سمع الأغنية الحزينة قصته، ويتحسر على موهبته التي ضاعت. يقول أبوذكرى في مقدمة القصيدة: أيها الرَاِحُل في الليل وحيّداً ضِاِئعاً مُنفرِداً أمسُ زارتنِي بَواكّيُر الخريفْ غَسَلتْنِي بالُثلوجْ وبإشراق المروجْ أيها الراحلُ في الليلِ وحيداً انتظرني فأنا أذهبُ في الليل وحيداً ظهر نبوغ أبو ذكرى منذ المرحلة الثانوية، عندما فازت قصيدته “من طقت الكبرى” بكأس الشعر، وتم اختيارها النشيد الرسمي لمدرسة “خورطقت” الثانوية إحدى أشهر المدارس القومية في ذلك الوقت. في العاصمة الروسية موسكو، انفتح أبو ذكرى على الأدب الروسي الذي كان يعيش فترة ذهبية، فقرأ عشرات الكتب ودواوين الشعر، وترجم أروع الأعمال لعدد كبير من أهم المثقفين الروس، منهم: مايكوفسكي والذي ربط بعض الباحثين بينه وبين أبوذكرى، ونوادر دمبارزي، وماريا فيسلوفا، وسيرجي ستنن، وباسترناك، وبوشكين، وتشيخوف. ساهم أبو ذكرى بعد عودته الأولى من روسيا في عام 1973، حيث ذهب إلى روسيا للدراسة بعد أن هجر كلية الآداب بجامعة الخرطوم، ورفض دراسة الفلكلور في رومانيا، في تأسيس جامعة أبادماك الثقافية، كما عمل سكرتيراً لتحرير مجلة “الثقافة السودانية” لمدة عامين (76 ـ 1977)، والتي لعبت دوراً كبيراً في السبعينيات في تواصل الأدباء مع بعضهم بعضاً، ومع الأدب العالمي، وساهمت في نشر وإبراز إنتاج الكثيرين ممن واصلوا بعدها رحلة الإبداع في شتى الحقول. في تلك الفترة، اجتهد أبو ذكرى كثيراً، فإلى جانب المجلة، كان يكتب في ملف صحيفة “الأيام” الثقافي، ومحكمة الأيام الأدبية، ومجلة الخرطوم، ومجلة الشعر المصري، ومجلة الهلال المصرية، بالإضافة إلى عمله أستاذاً غير متفرغ بجامعة الخرطوم. بعد فترةٍ حافلة بالإنتاج والحركة الواسعة، عاد أبو ذكرى مرة أخرى إلى روسيا ليلتحق بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، حيث نال درجة الدكتوراه في فقه اللغة. بعد رحيله، حاول عدد من أصدقائه الكتابة عنه، إلا أن قلة المعلومات عنه، وحرقه أغلب ما كتبه قبل رحيله بيومٍ واحد، حيث كان يعاني حساسية غريبة وتدهوراً في حالته النفسية، حال دون تسليط الضوء الكافي عليه، ولكن أجمل ما كتب عنه، ما سطره قلم صديقه ورفيق دربه الدكتور كمال الجزولي، حيث كتب عنه مقالاً رائعاً في الصحف السودانية بعنوان: “نهاية العالم ليست خلف النافذة”، وهي جملة قالها روسي عجوز لينهي بها مشادة حدثت لأبو ذكرى والجزولي في أحد مسارح موسكو، وللمفارقة أن نهاية أبو ذكرى كانت خلف نافذته. كما كتب عنه كتاباً بعنوان: “تذكارية في جدل التوهج والانتحار”، وكذلك أنجز الكاتب محمد أحمد يحيى كتاباً عنه حوى دراسة عن الانتحار وبعض الوثائق والأشعار. أثارت أشعار أبو ذكرى عند بداية نشرها الكثير من الدهشة لدى الجمهور، حيث لم يتعود الناس على عبارات وكلمات مثل: سماءٌ غريبة، مركبات الشروق التي تتحرك بين السهول الغريبة، السهول الفساح، الدنيا الغريقة، الطيور الكبيرة، الطيور الجسورة، الطيور النازحة، الشمس الباردة البلورية، الرشاش السماوي، البنايات المعوجة القديمة، الرجال ذوو العيون القاتلة، أحاسيس العصور، القراصنة الكبار، الشبابيك الحديدية، الأنفس اليابسة المثقلة والمعطوبة، وغيرها من التعبيرات الجديدة التي تعكس تأثر أبوذكرى بالشعراء الروس الكبار، وتوقه للجديد والغريب من ألفاظ اللغة. خاطب أبو ذكرى في أشعاره الوطن ناثراً حساسيته المفرطة تجاهه، وأمنياته الصداقة وتفكيره الدائم فيه، وفي واقعه الحزين، يقول في قصيدة “سهرة في الشارع”: وحين تصرصر الأبوابُ، حين تضمني الحجرة أفكرُ في الزمانِ المرّ والإنسان وفي وطني الحزين الدامِعُ العينينِ إلا من أزيزْ النارِ تحدث أبو ذكرى عن الموت حديث العارف المتفلسف، فهو يصف الموت بدقة، ويسقط عليه كل حركة الكون والأشياء ليجعله واقعاً معاشاً بين الناس، يقول في قصيدة “في الفاجعة”: لحظتها قلتُ: أموتُ هنا عيناكِ لدي كفنٌ من عينيكِ أشربُ طعم الموت العالقْ وفي أفقِ الأجفان، أمتعن فيك وأنصتُ: أسمعُ شخشخة الأكفانْ تخصص أبوذ كرى في الحديث عن النفس التواقة إلى المجهول، والأعالي، وقدم صوراً رائعة عن الصراع النفسي الذي يعيشه الشخص الباحث عن الأعالي، وغير الراضي عن واقعه، يقول في قصيدته “ليس عن الحب”: ليِ سماءٌ غريبةٌ، أتأملها في الخفاءْ وأهدهدها ساهماً في المساءْ وأغني لها أجمل الأغنياتْ، بصوتي الأجشْ الذي لا يجيدُ الغناءْ كتب أبو ذكرى قصيدة رائعة في رثاء العراقي بدر شاكر السياب بعنوان “موت الغريب على الخليج” يقول فيها: وَحِيداً في الخليج تجولت قدماكْ وكان البحرُ يصخبُ في المدى والريحُ لا تغشاكْ ترددت مفردات الحزن والأسى بمعانيها المتعددة، إذ لا تخلو قصيدةٌ له من ذلك، ومن أوصافٍ دقيقةٍ للإنسان حين تسكنه الوحدة والوحشة والغربة، ويصبح لا رفيق، يقول أبوذكرى في قصيدة “غربة”، والتي تعتبر توصيفاً دقيقاً لما ظل يعانيه: من بلدِ الغربة والوحدة في الزحامْ يريد أن يهربْ، لكن كيفْ يريد أن يبّلهُ كالقمح والأشجار، مطر الخريفْ يريد، ولكن بينه وبينها ينحفرُ الأخدودْ وتشمخُ القاراتُ والبحارُ والحدودْ بقي أن نقول، إن أبو ذكرى عاش حياته في صدقٍ كاملٍ مع نفسه، ومع الآخرين الذين يشهدون له برهافة الحسّ والأدب الجمّ، وفي ذات الوقت أبقى على علاقاته الرمزية مع الكون بأسره، تلهمه كل المخلوقات والكائنات، والموت نفسه، وتدعوه جميعها إلى قول الشعر والرحيل إليها في الأعالي والسماوات البعيدة، بعيداً بعيداً عن نفاق الأرض وأهلها. رحل عبد الرحيم أبو ذكرى صادقاً حتى في موته، كما عاش، وانصاع لنبوءة قصيدته “الحصار” ليبقى على صدقه حتى مع كلماته التي خرجت من حناياه المرهفة الرقيقة، تبث شوقه وخوفه ولوعته، يقول في ختام القصيدة: مثل الخراباتِ القديمة، رحنا نسير مبعدين نتتبع الخالي من الطرقاتِ والظلّ المعارْ وهنا نموتُ على الرصيفْ بلا صديقْ من غير دارْ من غير نارْ غير المساء والبرد والعطش الغزير غير الحِصارْ
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©