الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الدَّيْن.. رَهْنُ الرّوح

الدَّيْن.. رَهْنُ الرّوح
27 ديسمبر 2018 02:10

د. العادل خضر

من كان يعرف شخصيّة «شايلوك» أو سمع باسمه يعني بكلّ بساطة أنّه قرأ رائعة شكسبير المسرحيّة «تاجر البندقيّة»، أو تابع بعض عروضها على المسرح، أو شاهدها في السينما بإخراج مايكل رادفوردMichael Radford. وهي مسرحيّة تدور على مفاهيم معقّدة متداخلة كالرّحمة والعفو والمغفرة، تبدو في ظاهر الأمر ذات مضامين أخلاقيّة تحثّ على قضاء الدَّيْن، لأنّه «من الواجب أن نسدّد ما علينا من ديون»، ولكنّها في الحقيقة مشحونة كذلك بمحتوى ماليّ نقديّ. ولا عجب في ذلك. ففي الكثير من الثّقافات كالثّقافة الصّينيّة أو اليابانيّة، أو العالم الهنديّ يقترن الدَّيْن في تَمَثُّلاتهم الذّهنيّة بالخطيئة. ونجد أثر ذلك في تاريخ بعض اللّغات. ففي اللاّتينيّة مثلاً، لا يقتصر معنى الدَّيْن على ما ينبغي دفعه وما يجب تسديده فحسب، وإنّما يرتبط كذلك بالخطأ. فلفظ Schuld الألمانيّ يعني في الآن نفسه «الدَّيْن» dette و«الخطأ» faute، ولفظ Schulding يعني «المُذنب» و«المَدِين» معاً. غير أنّ هذا الاقتران بين «الخطأ» الأخلاقيّ و«الدَّيْن» الماليّ قد يُصبح رهانه في أحايين كثيرة حياة الآخر وموته، أو حرّيته وعبوديّته. فعندما يعجز المرء عن قضاء دَيْنه الماليّ، وتسديد ما اقترضه من مال، وما استعاره من ثروة، فإنّ المَدين يقع في قبضة الدّائن ورحمته، فإمّا أن يعفوَ عنه ويغفرَ، فيُسقطَ الدَّيْنَ، أو يؤجّلَ مدّة خلاصه إلى أجل مسمّى، أو أن يُعاقبَه الدّائنُ بما يسمح به القانون من عقاب متفاوت القسوة.

رهن الروح
ولعلّ اللاّفت في مسرحيّة شكسبير «تاجر البندقيّة» هو أنّ الدَّيْن لم يُقبل أن يسدّد بالمال، بل باللّحم البشريّ الحيّ. فالدَّيْن ها هنا هو دَيْن اللّحم الّذي لا يُقضى إلاّ بالقضاء على النّفس وإزهاق الرّوح. فمن كان دَيْنه هو لحمه فقد رهن روحه، وباعها إلى الشّيطان كما يقال. ولم يكن المطلوب لسداد الدَّيْن في المسرحيّة كلّ اللّحم، بل مقدار موزون منه، كان كافياً عند «شايلوك» لتسديد المبلغ المقترض، وعدم الحنث بقسمه. ويعني ذلك أنّ البعد التّراجيديّ في هذه المسرحيّة (وإن كانت مصنّفة على أنّها كوميديا) لم يكن قائماً على التّصادم بين السّلاليّ والسّياسيّ في صلب العائلة (الملكيّة) كما هو شأن معظم التراجيدايّات الإغريقيّة، وإنّما انتقل إلى دائرة عمل أخرى واسعة تتعلّق بالمسؤوليّة، أو أخلاقيّات التّعامل مع الآخر، كواجب إكرام الغريب وضيافته. وقد تجلّى ذلك في مسرحيّة «تاجر البندقيّة» من خلال التّصادم بين منطقين متعارضين: منطق الرّحمة والمغفرة le pardon، ومنطق الحنث le parjure. وقد صوّر شكسبير عنف هذا التّصادم في المشهد الأوّل من الفصل الرّابع من المسرحيّة، الّذي نقتطف منه هذه الفقرة: «بورشيا: اسمك شايلوك؟/‏‏ شايلوك: شايلوك هو اسمي./‏‏ بورشيا: لقضيّتك طابع غريب، غير أنّ قوانين البندقيّة لا تملك أن تمنعك من السّير في إجراءاتها، وأنت! أأنت الواقع تحت رحمته؟/‏‏ أنطونيو: نعم./‏‏ بورشيا: فلزام على اليهودي أن يكون رحيماً./‏‏ شايلوك: ما الّذي يلزمني بذلك خبّرني؟ [...] بورشيا: أرني الصّكّ لو سمحت./‏‏ شايلوك: ها هو ذا أيّها الموقّر. هاك الصّكّ./‏‏ بورشيا: إنّهم يعرضون عليك ثلاثة أضعاف المبلغ./‏‏ شايلوك: لقد أقسمت، أقسمت، أقسمت بالله، فهل أحنث بيميني فأهلك؟ لا وحقّك وإن وضعوا البندقيّة بأسرها في يميني./‏‏ بورشيا: نعم لقد أخلّ التّاجر بشروط الصّكّ، ولليهودي حقّ قانونيّ في المطالبة برطل من اللّحم يقتطعه من أقرب موضع من قلب التّاجر. كن رحيماً يا شايلوك. خذ ثلاثة أضعاف المبلغ واسمح لي أن أمزّق صكّك»، (ويليام شكسبير، تاجر البندقيّة، ترجمة حسين أحمد أمين، ص.ص104-106).
ولم يكن شايلوك رحيماً، فقد كان في إصراره شيء من الإفراط والشّطط الغريب. فالدَّيْن الّذي يُطلب قضاؤه هو من صنف الدّيون الّتي يستحيل تسديدها، لأنّ للّحم البشريّ قيمةً لا يُـمكن تعويضها بالمال. وقد قاده رفض المبادلة في النّهاية إلى التّفريط في ثروته. فقد طلب منه بورشيا ما يلي: «بورشيا: فلتستعدّ لاقتطاع اللّحم. لا تسفك دماً، ولا تقتطع أقلّ أو أكثر من رطل واحد من اللّحم. فإن أنت أخذت أكثر أو أقلّ بالضّبط، ولو بمقدار جرام واحد، بل ولو بمقدار واحد على عشرين من الجرام، بل ولو بمقدار شعرة واحدة يتحرّك لها الميزان، فيحكم عليك بالموت، وبمصادرة كلّ ما تملك.» (ويليام شكسبير، تاجر البندقيّة، ص109).

خيال نيتشَوي
ويبدو أنّ قضاء الدَّيْن بعضو من أعضاء الجسد لم يكن ثمرة خيال مسرحيّ محض، ذلك أنّنا نجد عند نيتشه شيئاً مماثلاً في معرض حديثه عن الدَّيْن في كتابه «جنيالوجيا الأخلاق». فهو يرى أنّ كلّ نظام قائم على الحساب التّجاري يتكوّن بالضّرورة من دائنين ومَدينين، وفي صلب هذا النّظام نشأت الأخلاق الإنسانيّة. فمن أجل أن يبعث المَدين «الثّقة في وعده بالتّسديد [...] يرهن لدى الدّائن، في الحالة الّتي لن يدفع فيها، شيئاً آخر لا يزال يملكه [...] مثلاً جسده أو امرأته، أو حرّيته، أو حتّى حياته». فلا فرق في منطق الدَّيْن بين المَدين والآثم في القوانين الأولى الضّاربة في القدم. ولذلك لا يجد الدّائن غضاضة في معاقبة المَدين الّذي عجز عن قضاء دَيْنِه بـ«أن يصنع بجسد المَدين ألوان الإهانة والعذاب جميعاً، كأنْ، مثلاً، يقتطع منه شطراً قد يظهر عديلاً لحجم الدَّيْن» (نيتشه، جنيالوجيا الأخلاق، 2.5، ص 90، ترجمة فتحي المسكيني).
ينبغي أن نشير ها هنا إلى أنّ نيتشه لم يقدّم أيّ دليل تاريخيّ على وجود هذا الضّرب من الدَّيْن في مجتمع من المجتمعات. ولن يجد بطبيعة الحال مثالاً واحداً في التّاريخ الواقعيّ يؤكّد ما تصوّره وتوهّمه. فلا وجود لأيّ أثر في العالم القديم يدلّ على وجود مثل هذه الممارسة الّتي يُبتر فيها جزء من جسد المَدِين. وهو ما دفع بعض ناقدي نيتشه من علماء الإناسة إلى اعتبار كلامه هذا عن قضاء الدَّيْن باللّحم البشريّ، إنّما هو مجرّد تمرين من تمارين الخيال متأثّر بكثرة ما قرأ لشكسبير، في تلميح متهكّم لمسرحيّة «تاجر البندقيّة» (دايفيد قرابر، الدَّيْن، تاريخ 5000 سنة، ص578).

المال.. جلاّداً
ويبدو أنّ هذه الطّريقة في إخراج صورة الدّائن، كشايلوك المرابي، على نحو كريه وغير إنسانيّ قريب من صورة الجلاّد ليست بالجديدة، بل هي قديمة متغلغلة في مخيال الشّعوب في الكثير من الحضارات. ففي كتاب «المال والحياة، الاقتصاد والدَّيْن في القرون الوسطى»، ينقل المؤرّخ الكبير جاك لوغوف Jacques Le Goff الحكاية التّالية وقد نقلها عن الكردينال جاك فيتري Jacques Vitry الّذي كتبها سنة 1210. وهي تتعلّق بمُرابٍ ذي نفوذ عظيم، أصرّ أصدقاؤه على دفنه في ساحة الكنيسة، وهو ما لا تُبيحه القوانين الكنسيّة آنذاك. ولمّا كان إصرارهم قد أحرج كثيراً قسّ القرية التجأ إلى الحيلة. فأغمض عينيه وصلّى ثمّ قال: «لنضع جسد الفقيد على ظهر حمار. ولتكن مشيئة الله، فأينما حمل الحمار الجثمان إلى كنيسة، أو مقبرة، أو أيّ مكان آخر، يدفن هناك». وانطلق الحمار لا يلوي على شيء، فلم يلتفت يميناً ولا شمالاً، بل سار في اتّجاه المدينة، خارجَ أسوارها، إلى أن بلغ إلى مكان كان يشنق فيه اللّصوص. فرماه هناك تحت المشنقة، في مزابلها.
بيد أنّ صورة الدَّائن لم تكن ثابتة في التّاريخ، فهي تتغيّر باستمرار، ولكنّها تُمثّل في معظم النّماذج المدروسة هذا الدَّيْن الّذي لا يُرى لأنّه غائب دائماً، «وكلُّ شيء غير حاضر دَيْنٌ» كما جاء في لسان العرب. ولكنّه إذا حضر وأصبح ماثلاً يُرى رَأْي العين كانت الكارثة الّتي تصبح فيها نفس المرء وجسده ملكاً للآخر. هذا التّملّك يجعل من «الأنا» شخصاً مختلفاً قريباً من شخص «الرّهينة» الّذي ارتهن الآخر حياته، ونذرها للموت أو العبوديّة. فهذا المرهون لا يمكن أن يُبادل، لأنّه حُبِس. فهو محبوس بالرَّهْن. فمن رَهَن نفسه لا يمكنه الفكاك من الرَّهْن إلاّ بالتّبادل، أي تعويض الدَّيْن بشيء آخر يُخلّص الرّهينة من الرَّهْن، والمدين من دَيْنه.
لقد رفض شايلوك مبادلة دَيْن اللّحم بالمال، جاعلاً من «تاجر البندقيّة» رهينة دَيْنه. فرِهان كلّ دَيْن هو ارتهان حقّ الحياة والموت. غير أنّنا نجد عكس ذلك تماماً في بعض حكايات «ألف ليلة وليلة». ذلك أنّ مبادلة الرّوح بالقصّة والدّم بالحكاية هو القانون المتحكّم في اقتصاد العبارة في حكايات شهرزاد المتتالية. فالعقد المبرم بين شهرزاد وشهريار هو دَيْن مؤجّل كلّما طال إرجاؤه طال أمد الحياة. «دَبِّر يا وزير وإلاّ رأسك يطير»، تقول بعض الحكايات التّونسيّة. فرأس الوزير أو شهرزاد أو أيّ شخصيّة أخرى لا يمكنها أن تثبت فلا تطير إلاّ بحسن التّدبير وإدارة الحياة، حين تصبح مبادلة الدَّيْن بحكاية أمراً ممكناً. آية ذلك حكاية «التّاجر والعفريت والشّيوخ الثّلاثة». وهي الحكاية الأولى الّتي دشّنت بها شهرزاد اللّيلة الأولى. وفيها قصّت حكاية تاجر «كثير المال والمعاملات»، خرج يطلب ماله في بعض البلاد، فاشتدّ عليه الحرّ، فجلس تحت شجرة يأكل كسرة وتمراً. فرمى بنواة فأصابت جنّيّاً، فقتله دون علم منه وقصد. فلم يلبث أن خرج له عفريت في يده سيف يطلب رأسه ثأراً لابنه القتيل. فاستعطفه التّاجر وطلب منه أن يمهله حتّى يودّع أهله ويعطي كلّ ذي حقّ حقّه. فاستوثق منه الجنّي وتركه يعود إلى أبنائه وزوجته. وفي أوّل السّنة الجديدة عاد التّاجر إلى تلك الشّجرة، وجلس يبكي ينتظر ظهور العفريت. وبينما هو جالس أقبل شيخ وفي يده غزالة. فسأله عن سبب مقامه في أرض الجنّ، فقصّ عليه التّاجر قصّته. وما أن انتهى منها حتّى أقبل شيخ آخر وفي يده كلبتان سلوقيّتان، فسأله كما سأل الشّيخ الأوّل. فأعاد التّاجر عليه حكايته. ولمّا فرغ من روايتها ظهر شيخ ثالث وفي يده بغلة. فسأله عن سرّ جلوسه في وادي الجنّ. فأعاد التّاجر على مسامعه نفس الحكاية. وما أن فرغ منها حتّى ظهر العفريت يطلب قتل التّاجر. فتقدّم الشّيخ الأوّل مستعطفاً، وقال: [...] إذا حكيت لك حكايتي معهذه الغزالة، ورأيتها عجيبة، أتهب لي ثلث دم هذا التّاجر؟ «وافق الجنّيّ. ولمّا انتهى الشّيخ من قصّته وجدها الجنّيّ عجيبة، فوهبه ثلث الدّم. ثمّ تقدّم الشّيخ الثّاني صاحب الكلبتين واستوهب ثلث دم التّاجر مقابل حكايته العجيبة مع الكلبتين. ولمّا فرغ منها، قال الجنّيّ: «إنّها حكاية عجيبة، وقد وهبت لك ثلث دمه على جنايته». ثمّ تقدّم الشّيخ صاحب البغلة وصنع صنيع الشّيخين. «فلمّا فرغ من حديثه اهتزّ الجنّيّ من الطّرب، ووهب له باقي دمه». فهنّأ الشّيوخ التّاجر على سلامته.

الدّيْنُ والقتل
إنّ الطّريف في هذه الحكاية هو أنّ القتل كان مُؤَسِّسا للدَّيْن. وهو ما يؤكّد الأساس الأنثروبولوجيّ لكلّ دَيْن، لأنّه نابع من صميم العلاقات الاجتماعيّة وأخلاقيّات مبادلاتها المختلفة. فأصل الدَّيْن هو تعويض نفس القتيل الميّت بدفع المال. فالفعل الفرنسي «payer» ومنها «to pay» الإنجليزيّ، منحدر من الفعل اللاّتيني «pacare» الّذي يعني طلب السّلم، أو المسالمة بتجنّب الحرب. ويرتبط «pacare» بفعل «pacere» الّذي يعني الاتّفاق مع الطّرف المتضرّر لجبر الضّرر. وهو قريب من معنى «الدّيّة» العربي، وتعني «حقّ القتيل» الّذي إن شاء أهلُه» [...] اقتَصُّوا وإِن شاؤوا أَخَذوا الدِّيَّة».
ولكن يظلّ أطرف ما في هذه الحكاية هو أنّ خلاص التّاجر من الموت قد جرى بالتّبادل، أو بقبول مبدأ التّبادل الّذي نهض على تأجيل القصاص وإرجاء عقوبة الموت بفضل قوّة القصّ، أو العبارة القصصيّة واهبة الحياة. فالتّبادل قام على اتّفاق عجيب: كلّما وجد الجنّي الحكاية عجيبة استعاد التّاجر ثلث دمه. فالكلمة الّتي تستعيد الحياة وتنمّيها هي كلمة ذات سلطة وسلطان. فالدّم الّذي يمكن أن يُبادل بالحكاية حتّى لا يُسفك هو ذاته النَّفْس الّتي يمكن أن تُبادل بالمال لتُستبقى. فغرض الدّم الّذي نجده في «تاجر البندقيّة»، ويتكرّر في هذه الحكاية، إنّما هو كناية عن النَّفْس الّتي ظلّ تصوّرها، في مخيال الكثير من الثّقافات، في هيئة سائلة سيولة الدّم. ففي اللّسان العربيّ «إِنّما سُمِّي الدَّم نَفْسًا لأَنّ النَّفْس تخرج بخروجه». ولأمر مّا ارتبطت النّفس بكلّ غال ونفيس، أي بـ«المال الّذي له قدر وخَطَر» (لسان العرب).
لنستحضر مرّة أخرى تعريف اللّسان العميق للدَّيْن: فـ«كلُّ شيء غير حاضر دَيْنٌ». ويعني ذلك أنّ الدَّيْن ليس شيئاً محسوساً ماثلاً للعيان المباشر، وإنّما ينشأ بين طرفين كلّما اتّفقا على أنّ شيئاً مّا غائباً (كمّيّة من المال) يسدّ مسدّ شيءٍ مّا حاضر (بضاعة، شيء ثمين...). فالدَّيْن هو هذا العنصر الثّالث الغائب الّذي نشأ من حضور اثنين. فهو ثالث اثنين. وهو مُرْجأ الحضور، دائم الغياب كلّما كان الدّائن كائناً غير مرئيّ. والشّيّق في هذه الحكاية أنّ صاحب الدَّيْن جنّيّ، أي كائن من الكائنات الّتي لا تُرى. ولكنّه حينما أصبح ماثلاً حاضراً منتصباً شاخصاً للعيان آذن ذلك بحضور الكارثة. فحضور الدّائن كارثيّ يؤذن بسقوط قريب لفرد أو أمّة. فعندما يتجاوز الدَّيْن حجم الفرد ويشمل أمّة أو بلداً بأسره، أو دولة من الدّول، دلّ ذلك على أنّ شعباً بأسره قد ارتهن وأصبح فيالقَ من الأسرى والعبيد، قد نذروا لعمل طويل لا ينتهي إلاّ بسداد الدَّيْن.

الدَّيْن.. سُخرة
إنّ لفظ péonage أو«التّسخير» و«السُّخْرَة» يعني في المعجم الاقتصادي وضعيّة المستدين المحروم من حرّيته، والمُكره على العمل لفائدة دائنه إلى أن يقضي دَيْنه بالعمل. فهو يعمل بلا أجر. فالمُسخَّر هو في الأصل مزارع لا يملك أرضاً، بل لا يملك شيئاً سوى قوّة ساعديه ليعيش. وفي القرن التّاسع عشر احتيج في أميركا اللاّتينيّة إلى اليد العاملة الفلاحيّة بسبب تسارع نسق تصدير البضائع الفلاحيّة والموادّ الأولى، فظهر نظام السّخرة. وهو يتمثّل في شراء المزارع الّذي يشتغل في أرض يرغمه مالكها على البقاء فيها بإغراقه في دَيْنٍ يتضخّم يوماً بعد يوم. غير أنّ هذا النّظام لم يشمل الفلاّحين فقط، وإنّما شمل في بعض الأحيان دولاً بأسرها. وأبرز مثال على ذلك جمهوريّة «هايتي»، أوّل بلد فقير خضع لنظام سخرة مستمرّ بسبب الدَّيْن. فالمطّلع على تاريخ «هايتي» لابدّ أن يقف على حقيقة غريبة، تتمثّل في أنّ هذه الجمهوريّة قد تأسّست بفضل العبيد القدامى من الّذين كانوا يشتغلون في المزارع. فقد تجاسروا، بفضل الإعلان العالمي للحقوق والحرّيات، على أن يثوروا على أسيادهم، ثورة حملتهم على محاربة بونابرت والانتصار على جيوشه الّتي أتت لتعيد نظام الرّقّ إلى نصابه. غير أنّ فرنسا قد سارعت بمطالبة الجمهوريّة النّاشئة بتسديد مئة وخمسين مليوناً من الفرنكات تعويضاً للأضرار الّتي لحقتها بسبب خسارتها لمزارعها بـ«هايتي»، وتمويلها للحملات العسكريّة. وقد تحالفت كلّ دول القارّة الأميركيّة بمن في ذلك الولايات المتّحدة علىفرض حصار على هايتي حتّى تسدّد ما عليها من ديون. ولمّا كان معلوم الدَّيْن مرتفعاً جدّاً (ما يناهز اليوم ثمانية عشر ملياراً من الدّولارات) يستحيل تسديده على بلد محاصر اقترن اسم «هايتي» منذ ذلك الوقت بالدَّيْن والفقر المدقع والبؤس الإنسانيّ. وقد ظلّت «هايتي» ترزح تحت وطأة الدَّيْن طويلًا، حتّى دفعت من 1925 إلى 1946 ما يكافئ واحداً وعشرين ملياراً من الدّولارات، وهي الفترة الّتي قضّت معظمها تحت الاحتلال الأميركيّ.
إنّ مثال جمهوريّة «هايتي» هو واحد من بين أمثلة كثيرة لبلدان أخرى ما زالت ترزح تحت وطأة ديون كان المتسبّب فيها الأوّل هو جشع البنوك اللاّمتناهي. ففي نهاية سنة 1970 وافقت بعض البنوك على تقديم قروض ماليّة ضخمة لحكّام ديكتاتوريّين من بوليفيا والغابون. وهي قروض غير مسؤولة، لأنّ تلك البنوك تعلم حقّ العلم أنّ رجال السّياسة في تلك البلدان وكبار موظّفيها سيعملون بكلّ الطّرق على تسديد تلك الدّيون الهائلة مهما يكن عدد الأرواح البشريّة الّتي ستدمّرها بالفقر والبؤس والقتل جسيماً. غير أنّ هذه الدّيون المبالغ في شططها قد بلغت، بعد تجميعها، حدّاً خياليّاً تجاوز الدّخل الخامّ لجميع بلدان العالم قاطبة. وهو ما أفضى إلى تدهور الاقتصاد العالم والتّهديد بدماره. ففي الولايات المتّحدة أُودع الكثيرُ من المواطنين البسطاء في السّجون لعجزهم عن تسديد ديونهم. فقد بلغت الإيقافات في ولاية ميناسوتا Minnessota سنة 2009 ثمانمائة وخمسة وأربعين حالة. وفي إيلينوا Illinois، جنوب شرق إنديانا Indiana كان بعض القضاة يسجن كلّ من لم يُسدّد الدّيون الّتي نظّمت المحكمة مواعيد خلاصها.
ولعلّ مثل هذه الوضعيّات التّراجيديّة هي الّتي حملت بعض الحركات المضادّة للدَّيْن على إعادة التّقييم الأخلاقيّ لمفاهيم كالدَّيْن والعمل والعملة والنّموّ... ففي يوم 17 سبتمبر 2011، انطلقت في نيويورك، حركة احتجاجيّة سلميّة تسمّى «لنحتلّ وول ستريت»، Occupy Wall Street (OWS)، كانت تندّد بتجاوزات الرّأسماليّة الماليّة. وقد تظاهر حوالي ألف شخص في «وول ستريت»، مقرّ البورصة بنيويورك، حيث نصبت خيام في «بارك زيكوتي» parc Zuccotti. واحتلّ المئات من المتظاهرين المكانَ وأقاموا فيه طيلة أسابيع. وابتداء من 9 أكتوبر 2011، انتشرت هذه الحركة في معظم الولايات المتّحدة، ثمّ امتدّت بعد ذلك في حوالي 1500 مدينة، في 82 بلداً في العالم. ولم تتوقّف هذه الحركة إلاّ ليلة 15 نوفمبر لمّا هاجمت شرطة نيويورك كلّ المتظاهرين وطردتهم من «بارك زيكوتي».
في الأثناء تكوّنت حركة تدعى «إضراب عن الدَّيْن»، Strike Debt، شعارها: «الدَّيْن ليس شخصيّاً، وإنّما هو سياسيّ»، أمّا مهمّتها فهي «تسييس» مسألة الدَّيْن ببيان أنّها قضيّة اجتماعيّة وليست عجزاً فرديّاً أو خطأ أخلاقيّاً. وقد تمثّل عملها في شراء، بالجملة، وبثمن بخس، كلّ الدّيون الّتي تدهورت قيمتها في السّوق الماليّة. وقد أمكن بفضل 570 ألف دولار تمّ جمعها إلى حدّ ذلك الوقت شراء 11 مليون دولار من الدّيون الخاصّة وإلغاؤها.
في هذا السّياق المقاوم، تأسّست «جمعيّة رولينغ اليوبيليّة»، Association Rolling Jubilee، كان هدفها إلغاء الدّيون على نحو شامل. ويحيل لفظ Jubilee على «السّنة اليوبيليّة» في التّقليد اليهودي المسيحيّ. وهي سنة مقدّسة، يُحتفل بها كلّ خمسين سنة بردّ الأراضي المرهونة إلى أصحابها، وإلغاء الدّيون، وتحرير العبيد، «وَتُقَدِّسُونَ السَّنَةَ الْخَمْسِينَ، وَتُنَادُونَ بِالْعِتْقِ فِي الأَرْضِ لِجَمِيعِ سُكَّانِهَا. تَكُونُ لَكُمْ يُوبِيلاً، وَتَرْجِعُونَ كُلٌّ إِلَى مُلْكِهِ، وَتَعُودُونَ كُلٌّ إِلَى عَشِيرَتِهِ.» (سفر اللاّويّين، الإصحاح 25، 10). فهذا النّصّ الجميل مازال يهمس لنا بأنّ الرّحمة هي جوهر الأخلاق لا سداد الدّيون، وأنّ العالم يحتاج اليوم إلى أكثر من «يوبيل» حتّى ترتّب فيه الحياة على نحو مختلف يقي الأجيال القادمة من عودة العبوديّة بأقنعة جديدة أشدّ شراسةً ودماراً.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©