الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نيكانور بارا.. أسطورة الشعر الحيّة

نيكانور بارا.. أسطورة الشعر الحيّة
27 ديسمبر 2018 02:10

ترجمة أحمد شافعي

«سيموت في أي لحظة» كذلك قال لي زميل دراسة سنة 1994. كان الشاعر التشيلي نيكانور بارا قد بلغ الثمانين للتو، وكنا نحن في الثامنة عشرة. سألت زميلي إن كان الشاعر مريضاً أو به أذى، فقال «من يبلغ الثمانين من الناس يكون معرضاً للموت في أي دقيقة». كنا في جامعة سنتياغو. قال شخص إن في قاعة ساين آرت ألاميدا فعالية للاحتفاء ببارا، فذهبنا نحن الأربعة أو الخمسة المعتادين، بلا دعوات طبعاً، ولكننا نجحنا في التسلل. لا أكاد أتذكر شيئاً من الفعالية، عدا ازدحام المكان، حتى لتغار أي فرقة غنائية من جماهيرية بارا.
بعد قرابة عقد، في 2003، ذهبت إلى بيت نيكانور في لاسكروسز للمرة الأولى. وفي تلك المرة أيضاً لم أكن مدعواً، لكن نيكانور كان يعلم أن أصحابه سيصطحبون معهم أكاديمياً شاعراً ناشئاً لا يزال في العشرينيات ويتوق إلى مقابلته. ومن يبلغ الثمانين من الناس يكون معرضاً للموت في أي دقيقة، لكن نيكانور كان لا يزال قوياً.

بارا والصحافة
دائماً ما كانت الحوارات معه مغامرة، تبدأ رسمية، ثم تأتي عبارات مفككة استكشافية يتبين أنها في واقع الأمر أحدث قصائده وأفكاره على مدار الأسبوع. وعلى الغداء، يتكلم عن مسرات الشراب والطعام واللحم المحلي الذي لا نظير له، ولون الطماطم المثير. وأجمل الحوارات يكون بعد الطعام، عندما ينعطف السيناريو انعطافات مفاجئة ولا يبدو أنه يرمي إلى تعليم أي شيء ومع ذلك يتعلم المرء منه الكثير.
كانت الصحافة والجامعة تبدي اهتماماً دائماً، ولحوحاً في بعض الأحيان، بالتنقيب في حياته، لكن الحقيقة أننا باستثناء أبنائه وعلاقاته الرومانسية، لا نعرف الكثير عنه. فقد كانت علاقته معقدة بالحوارات، قال في حميمية غريبة إن «كل سؤال اجتراء، وعدوان». أحياناً كان يرفض الحوارات رفضاً قاطعاً، وفي أحيان أخرى كان يسهب ويدبج كلاماً لا يفضي إلى شيء. ولكن المراقب الجيد لم يكن يترك بيت نيكانور إلا ومعه مادة كافية لمقالة جيدة. والحق أن محاورة بارا باتت أشبه بطقس مهم من طقوس ولوج الصحافة الثقافية في تشيلي.
وكنت شاهدا رغم أنفي على بعض حواراته. وأتذكر بصفة خاصة حربه مع الصحفي ماتياس ديل ريو. كان نيكانور قد وافق على الحديث إليه بشرط عدم توجيه أسئلة أو استعمال مسجل، ولكن ديل ريو لم يحتمل إلا دقيقتين قبل أن يخرق القواعد. قال نيكانور بغتة «أنت يا سيدي كاهن، والكهنة مكانهم روما» وترك الغرفة بدون كلمة أخرى. لم يدر ديل ريو هل يرحل أم يبقى، لكن نيكانور رجع بعد دقيقة واعتذر ودعاه للبقاء إلى الغداء. وعلى الغداء أجاب أسئلة الصحفي. وفي لحظة ما، نظر إليَّ وغمز مشيرا بسبابته اليمنى إلى كم الصحفي: كان يعرف تماما أن محاوره يخفي جهاز تسجيل.

بارا والملك
بفضل سلسلة مصادفات، وبسبب المحرر ماتياس ريفاس، ولم يكن قد مضى وقت طويل على لقائي بنيكانور، صرت مسؤولا عن تحرير ترجمته لـ«لملك لير» التي صدرت بعنوان «الملك لير والشحاذ». كان نيكانور قد ترجم المسرحية سنة 1990 وقدمت الترجمة في عرض مسرحي ناجح في «تياترو يونيفرسيداد كاتوليكا»، ولكنه عزف عن نشرها لتقديره أنها لم تكتمل، وبقيت عنده شبه مهجورة.

كتب بارا:
وأنت تترجم شكسبير
أو تأكل سمكة
لا تعول كثيراً
على إجادتك الإنجليزية
كان يريد ترجمته للملك لير أن تكون نسخة مطابقة. لقد كتب العمل في الأصل لآلة واحدة هي اللغة الإنجليزية، وكان لابد من نسخها للغة الإسبانية، وفي تنويعتها التشيلية بحث بارا عن كلمات موازية، واختبر تركيبات تفعيلية مدهشة، وكسر الوزن. كان يريد أن يصالح مثل شكسبير بين الرفيع والوضيع، والجليل والمبتذل. كان على الشعر الإليزابيثي المرسل أن يلتقي بتفعيلات شعره الخاص، فتكون لكليهما قوة في الآخر. كان على شكسبير أن يبدو مثل نفسه ومثل بارا كذلك، وعلى بارا أن يكون مثل شكسبير، وأيضاً، وفي المقام الأول، مثل بارا نفسه.
كانت الترجمة في جوهرها مكتملة. فمنها نسخة بخط اليد مليئة بالتغييرات، ونسخة مطبوعة بالآلة الكاتبة وهي الأخرى عامرة بألغاز من التصحيحات. خرجت من كلتيهما بمخطوط واحد طبعت منه نسختين. تناول نيكانور نسخته وحاولت في نسختي أن أدوِّن قراراته التي كان يتخذها بعد مشقة. ويا لها من رفاهية مفاجئة إذ رأيت شخصاً كنت أكن له كل هذا الإعجاب وهو يقضي زهاء نصف ساعة مجادلاً في صفة، أو ممتحناً سلاسة بيت من خلال الإلقاء. كانت مهمتي هي انتزاع الكتاب من يديه، واستخلاصه منه، وجعله يرى أنه ببساطة مكتمل. وصعب عليّ أن أستعجله. صرنا نضحك، ونخرج عن الموضوع، وكان دائم الكرم معي. وكنا نتقدم، ثم لا يحل الليل إلا ويغلب الشك نيكانور. فكر ألا ينشر الكتاب، وبدا مهموماً بحق، وكأنما مصيره الأدبي كله معلق على ترجمة «الملك لير».
وفي عصر يوم، فشل منهجي، إذ أدخل نيكانور تغييرات كثيرة للغاية حتى أعيتني ملاحقته. كان علي أن ألحق بآخر حافلة فسألته أن أصطحب نسخته معي لأدخل تعديلاته بمجرد وصولي إلى البيت. فنظر إليَّ بجدية مخيفة ورفض رفضا قاطعا.
في اليوم التالي رجعت لأدون التغييرات، ولكنه أراد أن نستمر في التقدم. وبعد الغداء أصرَّ أن يقلني إلى قرطاجنة في سيارته الخنفساء الرمادية القديمة لننسخ صورة من المخطوط. لم أشعر بالتوتر من قيادة نيكانور، فقد كنت عملت مساعد سائق له بضع مرات حينما كنا نذهب لتناول السمك المشوي. وفي محل تصوير الورق، أنهوا مهمتنا بسرعة. ولكننا في طريق العودة علقنا وراء شاحنة حمراء كانت تتحرك ببطء بالغ بلا سبب واضح. حاول نيكانور أن يتجاوزها، ولكن في ثنايا خروجه، أسرع سائق الشاحنة، فصرنا فجأة في مواجهة حافلة هائلة. استسلم نيكانور، وكبح هو وسائق الحافلة سيارتيهما. وما كاد يسترد أنفاسه، حتى رفع حاجبه، كأن لم يحدث شيء وقال «كنا على وشك أن نموت»، ونظر إليّ كمن يقول: مبالغة، ها؟

بارا والموت
بعد شهرين، أعطى نيكانور الضوء الأخضر لترجمته الفذة. وصرت في السنين التالية، دونما تذرع بالعمل، أذهب لزيارته كثيرا. ومرة زارني هو. كان ذلك سنة 2010، وكنت قد بدأت للتو برنامجا تدريسيا في جامعة دييجو بورتاليس يتناول مفهوما ما في أعمال بارا حينما جاء الشاعر نفسه، في ارتباك طالب تأخر عن موعد المحاضرة، طارقا الباب. كنت قد أخبرته عبر الهاتف أننا ندرس كتابا له، فبحث حتى عرف بنفسه اليوم والساعة ورتب كل شيء للمجيء من سنتياغو لمفاجأتي.
تخوف طلبتي في البداية من أسطورة الشعر الحية البالغة من العمر تسعين سنة، لكنهم غامروا تدريجيا وطرحوا أسئلة، تكرم نيكانور فأسهب في إجابتها. ثم قال لي أحد طلبتي في المقصف بعد ذلك إنه جفل لما رأى بارا، فقد كان يظنه ميتا. قلت «هو ميت، وكذلك أنا» ولم يفهم الطالب قصدي. كان عليّ أن أوضح له أنني أمزح. بعد بضعة شهور، في كلمة للاحتفال باليوم العالمي للكتاب، وقع الرئيس سيباستيان بينيرا في الغلطة نفسها، فعد بارا ضمن الكتاب التشيليين الذين «رحلوا عنا». لا أعرف كيف رأى الشاعر تلك الزلة. الأرجح أنه انفجر بالضحك.
قبل أيام قليلة، عندما اكتشف بينيرا بعد ثمانية أعوام أن بارا مات بالفعل، حاول تصحيح الأمور بجملته شديدة السخف: «لم يبق له لكي يحقق الخلود إلا أن يرحل عن دنيا الأرض هذه».

بارا والصورة
لو كنت في كاتدرائية سنتياغو اليوم، سهران على جثمان بارا وسط أصدقائي، بدلا من مكوثي للكتابة في بيتي بمكسيكو سيتي، لكنا نتكلم هامسين عن آخر مرة رأينا فيها الفقيد. ففي مثل ذلك يتكلم الناس في تلك الظروف.
كنت لأحكي لهم عن الخامس من ديسمبر سنة 2014. كنت في التاسعة والثلاثين، وكان في المائة. ذهبت لمقابلته بصحبة صديقة برازيلية اسمها جوانا باروسي كانت تترجم قصائده على سبيل المتعة وتحلم بمقابلته. حينما قدمتها له لم يحيها تقريبا. وطوال الدقائق العشرة أو العشرين الأولى ظل يوجه كلامه لي دونها.
ثم وضع مقطوعة للبيانو في الستيريو، وبعدما تكلمنا عنها قليلا، قام ورقص رقصة بسيطة. وساعتها فقط تكلم مع جوانا، وبجلال فتنها. طلب منها أن تقرأ لنا إحدى ترجماتها فوافقت. أظنها بدأت بقراءة النسخة البرتغالية من قصيدته الشهيرة «تحذير للقارئ». فنظر إليها نيكانور كأنها فتاة القصيدة نفسها.
تناولنا الغداء، ثم رأيت أننا يجب أن نذهب، إذ حان وقت قيلولته. على منضدة القهوة كانت نسخة من كتاب Parra a la Vista [بارا في الصورة] وفيه جملة من صور بارا عثر عليها حفيده كرستوبال أوجارتي في حقيبة. بدأ الشاعر يشرحالصور بالتفصيل، واحدة واحدة. خرجت لأدخن ولما رجعت كان لا يزال يحكي لجوانا عن صوره، ذهبت مع ابنته كولومبينا لنشتري آيس كريم ولما رجعنا كان لا يزال يحكي، خرجت إلى الفناء وقضيت ساعتين أو ثلاثا أتكلم مع كولومبينا وخادمته روزيتا ثم صار علينا أن نغادر، لكن نيكانور كان لا يزال لديه من الكلام ما يكفي إلى الأبد ويوم.
كانت قد أظلمت حينما خرجنا. وفيما كنا نودعه، قدمت له جوانا نسخة من أعماله الكاملة طالبة توقيعه. تردد نيكانور لثانية قبل أن يقول «لا، الأحسن يا جوانا أن نفعلها في المرة التالية». محبطة، وسعيدة مع ذلك، طبعت قبلة على يده اليمنى. قالت لي بعدها في السيارة «هذا أهم يوم في حياتي». نظرت إليها كمن أقول، مبالغة، ها؟
من يتجاوز المئة من الناس يكون معرضاً تماما للموت في أي لحظة، ولكننا، كما قال أصدقاء عديدون، اعتدنا خلود نيكانور. لقد عاش ثلاث سنوات مكتملة إضافية. كان يمكن أن أزوره مرات كثيرة، ولم أفعل. وليس بوسعي الآن إلا أن أقول له إلى اللقاء، أكتبها، هكذا، وأهمس بها، فلا يسمعني أحد.
.................................................
* نشرت في فبراير 2018 بمجلة نيويورك الأميركية بترجمة ميجان مكدويل إلى الإنجليزية

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©