الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نماذج من نور .. من أقضيـة الرسول

نماذج من نور .. من أقضيـة الرسول
11 فبراير 2010 20:37
القضاء من أفضل القربات إلى الله عز وجل، (فهو فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله سبحانه وتعالى) (الإقناع 4/78)، وهو أمر جليل، لذلك نرى في السيرة العطرة أنَّ بعض الصحابة والتابعين قد رفضوا تولِّي هذا المنصب الحساس والدقيق، فقد جاء في الحديث الشريف: (من ولي القضاء فقد ذُبح بغير سكين) (أخرجه الترمذي)، لعلمهم بعاقبة ذلك، ولكنَّ الأمة تحتاج إلى وجود قضاة يعرفون أحكام دينهم ويخشون ربهم، حتى يقوموا بهذه المهمة في إظهار الحق وفضِّ الخصومات، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، حيث كان-عليه السلام-يتولى هذا الأمر الجليل. إذاً الإنسان لا يفرح ويفتخر إذا تقاضى الناس عنده، فيسيطر عليه الزهو والاختيال، بل عليه أن يسأل الله أن يعينه على هذه المهمّة العظيمة، وأن يرشده إلى الحق والصواب. وهناك دور يجب أن يقوم به القاضي قد يفوت كثيراً من القضاة، وهو دور الوعظ والنصح، أن ينجِّي الظالم من ظلمه، والظلم ظلمات، أن يحذر المتخاصمين من الكذب: (وإياكم والكذب، فإنَّ الكذب يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النّار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً) (أخرجه البخاري). إذاً لا بدَّ للقاضي أن يقوم بدور الوعظ والترغيب والترهيب، وهو الدور الذي قام به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونسوق إليك أخي القارئ مثالين من أقضية الرسول -عليه الصلاة و السلام- وكيفية قيامه بدور الوعظ قبل قضائه: 1- ورد في الحديث الشريف (أن رجلين اختصما في مواريث لهما، ولم تكن لهما بيّنة إلا دعواهما) ( أخرجه أبو داود)، لم تكن هناك بيّنة لمن يدعيها، أو لمن يقول إنها حقي، فكان هناك دور للموعظة لعلّها تنفذ إلى قلوب المتخاصمين، وتردع الظالم، فقال عليه السلام: (إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئاً، فإنَّما أقطع له قطعة من النار) (أخرجه أبو داود). فقد بيَّن لهم الرسول الكريم أنه لا يعلم الغيب، وإنّما يقضي بما يسمع، لكن الإنسان نفسه يعرف هل الحقّ له أم لا، فإن لم يكن له فلا يأخذه، وإن صدر الحكم له، فكأنَّه يأخذ قطعة من نار جهنم، ومن منَّا يصبر على نار جهنم؟! إنَّها موعظة جليلة مؤثرة في النفوس، فلننظر إلى أثر الموعظة: (فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما للآخر: حقي لك، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم- : (أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحقَّ ثم استهما ثم تحالا) (أخرجه أبو داود). ما هذا التأثير؟! يبكي الرجلان، ويتنازل كل منهما عن حقَّه، وبعد هذا التأثير يكون الرضى من كل طرف عن صاحبه، وتكون النفوس صافية وسليمة. هذا ليس مجرد قضاء، إنه الوعظ المثمر، وغرس الإيمان وتجديده في النفوس. 2- ورد في الحديث الشريف: (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله، إنَّ هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، ليس له فيها حقُّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: [ألك بيِّنة؟] قال: لا، قال: [فلك يمينه]، قال: يا رسول الله،إنَّ الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك)، قال: فانطلق الرجل ليحلف له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: [لئن حلف على مالك ليأكله ظلماً، ليلقينَّ الله وهو عنه معرض] ( أخرجه أبو داود). تأمل هذه الواقعة العظيمة تجد رجلين متخاصمين الأول وهو الحضرميّ يدّعي ملكيّة الأرض، والثاني وهو الكنديّ ينفي ملكية الحضرميّ للأرض، فيسأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحضرميّ عن بيِّنة تظهر ملكيته للأرض (شهود-وثائق...إلخ) فلم يملك الحضرميّ شيئاً من ذلك، عندئذ ذهب الرسول إلى الطرف الآخر آخذاً بالحديث الشريف: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر)(أخرجه الترمذي)، فبيَّن أنّه ليس للحضرميّ إلا أن يحلف له الرجل الكنديّ، وكما أراد الكندي أن يحلف كان هناك دور عظيم للرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو الدور الإيجابيّ، ذكّر الرجلين بقضية الحلف بالله على كذب، بأنَّ عواقب ذلك وخيمة في الدنيا والآخرة، وبيَّن لهم أن اليمين الغموس (وهو اليمين الكاذب) يذر الديار بلاقع (أي يهلك المال والولد). وفي رواية لأبي داود من حادثة أخرى أنه تلا عليهم الآية الكريمة: (إنَّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكِّيهم ولهم عذاب أليم) (سورة آل عمران، الآية77). ذكرهم النبي بهذه الآية، وأبان لهم العاقبة العظيمة لذلك حتى يغرس الإيمان في النفوس، وحتى يقضي على نوازع الشر، وهذه رواية أخرى تظهر أثر هذه الموعظة، وكان التأثير عظيماً فارتعدت فرائض الكنديّ، وقال ما لي إن تركتها يا رسول الله، فقال -صلى الله عليه وسلم-: الجنّة. هذا الذي تركه إما أن يكون حقّه فتركه فله الجنّة، ونزل على أمر الله ورسوله، وقد يكون قد تسامى أن يظل مدعياً لما ليس له فله الجنّة في الحالتين، حتى تكون القيم الإسلامية هي السائدة عند الأفراد والجماعات. إنَّ القاضي هو كل من يترافع الناس إليه في قضية ما، قد يكون أباً، مدرساً، مسئولاً، أي من يتوسم الناس فيه العدالة، فلا بدَّ لهذا القاضي من دور مؤثر على من يترافعون عنده، أن يغرس تقوى الله في نفوسهم، أن يرغِّبهم في عفو الله ورحمته، وأن يحذِّرهم من عذاب الله وسخطه. كما يجب على القاضي أن يتّقي الله ربَّ العالمين، وأن يعلم أنّه سيقف بين يدي أحكم الحاكمين، الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، كما يجب عليه ألا يميل قلبه إلى أحد المتخاصمين عند التقاضي خشية أن يؤدي به ميله هذا إلى الانحراف في الحكم وهو لا يشعر. وينبغي للقاضي أن يسوى بين الخصمين في خمسة أشياء : في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم فيما لهما وعليهما، وأن يكون مقصود القاضي إيصال الحق إلى مستحقه. والقاضي الناجح هو الذي يستعين بأهل العلم، ويناقشهم في القضايا المطروحة، ويشاورهم لأنَّ للعلماء خبرات ليست موجودة في الكتب، وإنّما هي تراث كبير وعظيم حصلوا عليه من خلال تجاربهم الطويلة والمباركة، وصدق الرسول الكريم حيث يقول: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة، واثنان في النّار، فأمّا الذي في الجنَّة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النَّار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النَّار) (أخرجه أبو داود)، كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله– صلى الله عليه وسلم - : ( إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (أخرجه مسلم). اللهم اجعلنا ممن يقرأون فيعون، ويعون فيعملون. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك www.yousefsalama.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©