الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نصوص/ شواهد قبور..

28 أغسطس 2013 20:10
الشاعر السوري دارا عبدالله في باكورته التي تحمل عنوان “الوحدة تدلل ضحاياها”، يكتب من المكان العصي على الحياة. مرة من الشارع المضطرب، وأخرى من الحي المدمر، وثالثة من السجن، ورابعة من حيث يعيش الناس المنهكون من الحياة، لذلك تأتي كتاباته وكأنها قنديل واهن الضوء، ولكنه مثابر في البحث عن الحياة. وإذ يحرص دارا على أن يسمي كتاباته نصوصا، وليست قصائد كما يفعل كثيرون غيره من مجايليه خصوصا، فإنه يحمل تلك النصوص مشاهد قاتمة من الدراما السورية المدماة والمتمادية، فتصبح وكأنها شواهد قبور طازجة، أبطالها ليسوا نزلاءها ولكنهم أولئك القادرين على “تأثيثها” بمزيد من الجثث: “سألتُ جنديَّاً قدمَ للتوّ من الحرب:/ هل دهستَ بالدبابة على جُثَّتين مختلفتين،/ أم دهستَ على الجثَّة نفسها مرَّتين؟!”. هنا لا يدعي نص دارا تقديم صورة شعرية مبتكرة، ربما لا تهمه أصلا المسألة الشعرية، كنزعة مزاجية، أو ميل إلى الإبداع. هو أقرب إلى مصور فوتوغرافي أداته الكلمات، فتأتي صوره “الكلامية” أغزر من تلك الصور التي اعتادت وكالات الأنباء ومحطات التلفزة ومواقع الإنترنت على بثها من سورية. ولهذا السبب يتجاوز نصه النزعة الشعرية، إلى اللغة النثرية الناهشة، دون أن تخالطها اعتبارات الرقابة الذاتية، فيقول في نص حمل عنوان “السكِّين من رفوفِ المطبخ إلى أداةٍ لنبشِ الذاكرة”: “أحلمُ بعالمٍ يكون فيه كلُّ شخصٍ أصل نفسه، ولا ينحدرُ من أحد، دوماً من يُلوِّح بالأصل يضمرُ في جيبهِ سكِّيناً كليلاً، “السُّنَّة”، “العلويَّة”... مصطلحاتٌ تلاحقك منذ الولادة كاللعنة، عنفٌ لفظيٌّ دامغٌ فيها بخارٌ ماضويّ مُصفر، فيها رعبٌ، الرعب من الذبح، الطائفيَّة دوماً تذكِّرني بالسكِّين، السكِّين هي أداةٌ بدائيَّة فاعلةٌ أساسيَّة للتصفية في الحروب الأهليَّة، الذبحُ بالسكِّين يتطلَّب طاقة كرهٍ وحقداً أكبرُ من تلك اللازمة لإلقاء قنبلةٍ نوويَّة عل مكانٍ مكتظِّ بالبشر ». السياسة في هذا النص - رغم مباشرته ـ ليست هي الأساس. فنص دارا يهرب من السياسة بمعناها اليومي، المبتذل، إلى أفق إنساني يدين بجوهره صنيعه السياسي وصنيع السياسة في آن. فند دارا: “أبطال” الحروبِ لا يخوضوها بأجسادهم، الضحايا الحقيقيون، وقود غرور “الأبطال”، ينساهم التاريخ كغبارٍ منثور، الفكرةُ تنتقمُ ممَّن يمثِّلها. من السجن يخرج نص الكاتب وكأنه تفصيل من تفاصيل المكان. لذلك يعنون نصه “المكان في السجن”، وكأن السجن هو مجرد امتداد للمكان خارجه، تختلف فيه التفاصيل فقط. يقول: “البلاطةُ” هي وحدةٌ لقياسِ القِدم في السجن، كُلَّما كانَ لكَ “بلاطاتٌ” أكَثر كنتَ أكثرَ عراقة، الأقدمُ هو الأكثرُ راحةً لأنه يملك مكاناً أوسع. الأكثر راحةً هو الأكثر تعاسة، البلاطةُ هي وحدةٌ لقياس الألم. المكانُ الوحيد الذي يُقاس فيه عُمقُ الزّمان باتّساع المكان هو السّجن، أحد السُّجناء القدماء اعترف لي بأنَّه عندما يبني بيته سيجعل أرضيَّته قطعةً واحدةً مُتَّصلة، لن يسمَح لتقاسيم البلاط أن تظهر، انتقاماً من ذاكِرته”. نصوص دارا عبدالله في “الوحدة تدلل ضحاياها”، علامة خاصة من وعلى المكان السوري في لحظته الراهنة، تكشف وتضيء وتصرخ، وفي النهاية يصيبها ما يصيب الضحايا..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©