السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما يحدث..

ما يحدث..
31 أغسطس 2011 21:44
ماجدة الهاشمي عيناه الواسعتان تلبستا عيني ذئب وهما تمسحان المكان بحثاً عن فريسة تخرج من مكامن الحذر، فيما انهمك الصمت في تملك المكان وحيازة الهواء الذي يتنفسونه. لا ينازعه في مملكته إلا صرير الأقلام وهي تجرح بياض الورق، فيما الصف المزدحم والجاف من الصور الجذابة الحديثة تشي بأنا خارج أسوار المدينة. أخيراً.. وجد الأستاذ غايته.. عثر على أحد تلاميذه ينقل بصره بين كفيه وأوراق الامتحان مما أثار ريبته، استنكر للحظة هذا السيلان من الانبساط والحبور الذي اجتاحه، فقال وهو يلملم الابتسامة الرقيقة التي ظهرت والتي استهجنها صاحبها أولاً: ـ آه يا سعود.. أتغش في الامتحان وتظن أنك ستفلت؟ ولكن على من؟ على مدرس خبرة مثلي.. كان غيرك أشطر. ـ ولكن يا أستاذ، أقسم لك أنني لم أغش.. فالمادة سهلة، والاختبار شهري فلا أحد يغش فيه. ها هو شخص آخر يهزأ به وبمادته، فمادته السهلة وعلامتها المضمونة النجاح تؤكد أنه أستاذ صوري. قيمته مهملة.. وظله منزوي. ـ أتعلمني يا سعود الغبي في أي مادة أو وقت يغش تلميذ كسول مثلك وأنا مدرس 27 سنة خبرة. هيا افتح يديك وأرني ما سطرت عليها من إجابات. فتح التلميذ العاثر الحظ كلتا يديه السمرواين باستسلام مهين، فكان منقوشاًً عليهما بوضوح خطوط إلهية يشاركه فيها جميع أبناء جنسه من البشر.. ثم لا شيء آخر. ـ هيا أرني ما في جيبك، هيا لا تتلكأ. وقف ليخلي جيبه. كان وبالإضافة إلى مصروفه اليومي الذي بدا خجولاً في ضآلته، كان هناك ورقة بيضاء مطوية بعناية. تلقفها الأستاذ بلهفة علها تنقذ ماء وجهه المندلق في الصف، وعندما فتحها كان مكتوبا ًعليها بخط منمق وبعناية كلمات مسجوعة ومبتذلة تنتهك أكثر مما هي تمتع تماماً كالتي نسمعها من أفواه المغنين. ـ اجلس يا فالح، غناء ومسخرة هذا الذي أخذناه من جيلكم. ومن زواية الصف المزدحم أتاه صوت جهير وهادئ وبتلقائية مشحونة قال: ـ ألن تعتذر له.. يا أستاذ؟؟ ـ اخرس يا ملعون ولا تكمل.. لكن الملعون لم يخرس بل تقدم نحوه بهدوء وإصرار غريب، عينيه تلمعان والمرارة التي ينضح بها صوته تتضح أكثر كلما تكلم أكثر فتزيح الهدوء المتشح خلفها: ـ لقد وصفته بالكسول.. ونعته بالغبي.. وأسأت الظن به، وفتشت جيوبه، وعاملته كسارق وقد ظهرت براءته أمامك، أتستكثر عليه بعد كل هذا كلمة اعتذار واحدة؟ الآن وأمامنا. لم يتوقف صاحب الصوت عن التقدم نحوه، وكلما فعل بدا ضخماً طويلاً بالنسبة لهذا الأستاذ ضئيل الحجم، والذي بدا متماسكاً فلم يتزحزح عن مكانه ربما حرصاً على المهابة التي تملأ الصف من أن تتبخر.. إلا أن ذلك لم يمنع الذئب الرابض في عينيه من الفرار وانقضاض قط مذعور ليمتلكها.. عندما تذكر أنه التلميذ نفسه.. إنه عامر الذي مر بتجربة أليمة ومخزية قبل أسبوعين حينما كانت إدارة المدرسة تبحث عمن يعبث بسبورة الصفوف أثناء الاستراحة بكلمات خادشة لسمعة المدير والتي كانت تمسه شخصياً، تعرض خلالها عامر للمساءلة العلنية من قبل المدير، حيث لطمه أمام طابور مدرسته.. نعم أمام جميع أساتذته وطلاب مدرسته، وعندما حاول الإنكار أسمعه أقذع الشتائم. لحظتها لم يبك عامر أويعترض، كل ما فعله أنه انكسر واندحر، واتضح في ما بعد أنها مشكلة خلقها سوء التقدير.. نعم اعتذر المدير بعد اكتشاف الفاعل الحقيقي، والذي كان تلميذاً آخر بين والده والمدير مشكلات مالية، وكان الاعتذار خجولاً وسرياً مع التمني أن ينسى الطالب المنكوب الموضوع.. وبسرية تامة، كانت تلك الأحداث تتوالى على ذاكرة الأستاذ فترتجف أطرافه فيما قلبه مترع بالتوجسات متدثر بالمخاوف من حمله لإدارة قد تنهي حياة أستاذه، فاضطر إلى أن يغير نبرة صوته فيستعير ثوب أب حنون: ـ اعقل يا عامر يا ولدي.. ولا تضيع مستقبلك من أجل تلميذ بليد مثله.. ولكن الولد لم يعقل بل تقدم وأمسك بتلابيب أستاذه، وهو يقول بألم مضاعف وحزن قد فك عقاله: ـ لماذا تتعمدون إهانتنا، وتستمتعون بهذا الإيذاء.. ما الذي يُغريكم بذلك؟ أهو رضوخنا لكم؟ أم عدم استطاعتنا الرد عليكم؟ أم هو واجبنا باحترامكم؟. وقف التلاميذ بحياد مذهول أو متواطئ يراقبون زميلهم، وهو يمسك برقبة أستاذهم القصيرة بقوة، فيما سعود قد فغر فاهه دهشة وذهولاً لما يفعل زميله ذلك. أمن أجله وهما لم يتخاطبا معاً إلا مرة أو مرتين طيلة السنة؟ أم لأجل الثأر لحادثته المشهورة والتي غيرت عامر من تلميذ مجتهد إلى تلميذ كتوم وغامض. كل ما ستطاع أن يفعله سعود تحت غطاء الضجيج هو أن يتخلص نهائياً من ورقة البرشام المخفية في جواربه، ولم يفلح الأستاذ خبرة باكتشافها، فيما زميله عامر كان مازال ممسكاً برقبة الأستاذ تحت يديه والذي تلون وجهه واحمر وقد أخنقته العبرات وهو يردد بأسى دامي: ـ ألا يصلك الأكسجين؟ ألا تتنفس؟ ألا يحتجب عن رئتيك الهواء؟ هذا تماماً ما أشعر به كل يوم في هذه الغرف.. أماكن استعبادنا.. كاد الأستاذ أن يفقد الوعي لولا أن تدخل الطلبة مكرهين لا مختارين في تخليصه، ليس رغبة في دفع الأذى عن هذا الأستاذ البغيض لهم، ولكن لإنقاذ البقية الباقية من مستقبل زميلهم. خرج عامر مسرعاً والدموع الساخنة التي استعصت عليه لاسبوعين، أخيراً.. قد هبطت على وجهه الغض وقد بللت شاربيه الخفيفين وألهبت وجهه.. أحس أن انكساره قد جبر، وطريقه قد اتضح.. فأغلق الباب خلفه دون رجعة. بالتأكيد دون رجعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©