الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دلالة الزمان وبلاغة المكان

دلالة الزمان وبلاغة المكان
31 أغسطس 2011 21:36
ضمن سلسلة “المعرفة الأدبية” التي تصدرها دار توبقال في المغرب، صدر مؤخرا الكتاب القيم لمؤلفه الباحث والأكاديمي المغربي الدكتور إسماعيل شكري “في معرفة الخطاب الشعري”. وهو في الأصل بحث عميق وجهد جبار لنيل شهادة الدكتوراه كما أن الكتاب توج صاحبه بجائزة بواحدة من أهم الجوائز التي تمنح في المغرب وهي جائزة المغرب للكتاب. والكتاب يقدم نظرية الجهة البلاغية بوصفها مقاربة معرفية للصور البلاغية انطلاقا من دعامتين أساسيتين هما برأي المؤلف “الأولى، هي المنظور الزمني التفاعلي الذي يؤول تلك الأوجه بالنظر إلى مواقعها في الجهات البلاغية، والثانية تشكل المنظور المعرفي الذي يضع الجهات في قوالب مستقلة نسبيا عن بعضها بعض ومتفاعلة بواسطة منافذ متعددة، هذا يعني خوض مغامرة البحث في زمانية الخطاب الشعري من جهة، وإعادة تصنيف مكونات البلاغة العربية تصنيفا معرفيا من جهة أخرى. فالصور البلاغية، وضمن هذا المنظور المعرفي، ليست مجرد محسنات، بل تمثل قوالب ذهنية ذات وظائف معرفية في سياق تفاعل الإنسان مع العالم. ذلك أن الأساس المعرفي لمفهوم الجهة البلاغية الذي اقترحه الكاتب توسيعا للجهة النحوية يتمثل في مذخرات الإنسان المقولية؛ الثقافية والانتربولوجية باعتبارها حصيلة تفاعله مع العالم الخارجي.. ومن هنا، فالجهة الدائرية، مثلا، والمتضمنة للزمن الإيقاعي بوصفه خطا منغلقا على نفسه، تحيل على تصورات العود الأبدي الموجودة منذ أقدم الحضارات الشرقية أو اليونانية. كما أن الاستعارات دفعت بالإنسان إلى مقارنة حياته (ولادة، كهولة، شيخوخة) بالدائرة الشمسية اليومية (فجر، ظهيرة، مساء الخ..) أو بالدائرة السنوية للفصول. ويرى الدكتور شكري إن “الكثافة البلاغية سمة أساسية تسم الوجه البلاغي في الخطاب أيا كان مع وجود درجة التشاكل العالية في الخطاب الأدبي. وهذا يعني تجاوز فرضية الانزياح، كما تقدمها المدارس الشعرية البنيوية، انطلاقا من اعتبار الكثافة البلاغية إسقاطا معرفيا وتداوليا تنتجه مقصديات المتخاطبين ضمن شروط اجتماعية معينة”. وهو يرى أن عبارة “كلب الضابط ينبح” (جريماص 1966 Greimas) لا تتوفر، في ذاتها على الكثافة البلاغية وإنما قد توسم بها في سياق تداولي/ معرفي خاص باختيار المنتج أو المتلقي أوهما معا للتشاكل (+ سخرية) بالنظر إلى تأويل المقوم العرضي (+ إنسان) الذي يسقط على الوحدتين الدلاليتين “كلب” و”ينبح” مما ينتج عنه تنشيط مقومات عرضية أخرى من قبيل (+ إخلاص) أو (+ سخرية) حسب راستييي (1987 Rastier). لكن، وفي سياق آخر يمكن اعتبار العبارة السابقة خطابا تواصليا مباشرا يحيل على التشاكل (+ حيوان)؛ أي أن كلب الضابط يوجد في حالة نباح. وبذلك، يصعب تبني المنظور البنيوي الشعري، إذ يطرح التساؤل الآتي: “هل يمكن الحديث عن معيار وانزياح في عبارة واحدة؟” وعليه، يقدم هذا الكتاب نظرية الجهة البلاغية بوصفها تأويلا زمنيا ومعرفيا للأوجه البلاغية، في اتجاه بناء بلاغة عامة على أساس أن الزمان مكون معرفي في النص الشعري وغيره من الخطابات، كما أنه يشكل مفهوما إجرائيا يمكن توظيفه في تحليل الخطاب لتفسير مكوناته وتأويلها. ومن ثم، أدمج الكاتب مختلف الأسس الفلسفية واللسانية والبلاغية والمعرفية ضمن نموذج يؤول الخطاب الشعري والصور البلاغية بعامة تأويلا زمنيا وجهيا يهدف إلى إعادة بناء الصور البلاغية انطلاقا من منظور تشييدي/ معرفي يتجاوز بعض التصورات الواردة في البلاغتين العربية والغربية، مثل مفهوم الجناس ومفهومي الانزياح والتوازي، مما يسمح بتشييد بلاغة معرفية تأويلية تصنف تلك الصور البلاغية تصنيفا زمنيا تفاعليا.ذلك أنه يمكن، مثلا، قراءة الاستعارة بناء على آليات زمن الانكماش (الجهة المطاطية)، والطباق بالنظر إلى الزمن الفوضوي (الجهة المتشابكة) الخ.. وقد مثلت تلك الأسس المعرفية، في هذا النموذج البلاغي علاقة تفاعل بين الأنساق المعرفية واللغوية والبلاغية. وبذلك، يجد القارئ عند نهاية كل فصل، مذخرات تمثل الأسس والمبادئ الضرورية في كل مجال معرفي سواء أكانت فلسفية، أم لغوية أم بلاغية، والتي تشكل خصائص مميزة لنموذج الجهة البلاغية. هكذا، تخلص أطروحة بلاغة الزمان في هذا الكتاب إلى اعتباره مكونا معرفيا في الخطاب الشعري وثابتا من ثوابته المركزية، كما يؤشر في بعده المعرفي على وسم الصور البلاغية بالوظيفة المعمارية الذهنية انطلاقا من مفهومين تفاعليين هما مفهوما العنونة والتشاكل. فالأول ينقلنا من ثنائية حقيقة/ مجاز، ومن ثنائية لغة عادية/ لغة شعرية، إلى الامتداد والتفاعل اللذين يربطان بين الأنساق ما فوق لغوية والبنيات اللغوية والبلاغية، مما ينتج الكثافة البلاغية بوصفها وظيفة بنائية ممكنة التحيين في كل أنواع الخطاب بما فيها لغة الأطفال. أما الثاني فهو أداة دلالية إجرائية تقود إلى تشييد المعنى ضمن ضوابط التأويل المحلي. وهذا ما يترتب عنه وضع الخطاب الشعري في سياق مباحث البلاغة العامة ونظريات تحليل الخطاب، إضافة إلى مباحث الذكاء الاصطناعي وعلم النفس المعرفي. بيد أن المثير في هذا الكتاب هو دعوته الصريحة والمضمرة إلى الفكر القالبي، حيث يحتاج الفكر العربي اليوم، إلى التأويل القالبي المتجدد الذي من شأنه أن يوجه الثقافة والفكر العربيين نحو اعتبار مختلف الميادين (دين، علم وسياسة وفنون الخ..) مجالات متمايزة؛ أي تتوفر على خصائص ذاتية لا تمنعها من التفاعل مع بعضها بعض، وذلك لدفع ضرر التصادم بين الحضارات، بل وبين أفراد الأمة الواحدة، حيت يحل التسامح محل الهويات المغلقة من جهة، ومحل الهويات المستلبة من جهة أخرى... فنموذج الجهة البلاغية بهذا المعنى ليس نموذجا شكلانيا، بل إنه يقدم إلى حد بعيد مقدمات لما يسمى ببلاغة المواطنة في بعديها المعرفي والاجتماعي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©