الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سَرْدٌ نثريّ لذاكرة المكان في الأردن

سَرْدٌ نثريّ لذاكرة المكان في الأردن
24 نوفمبر 2010 19:46
المدن مثل النساء لا تبوح بأسرارها إلاّ للمُحبّ فقط... هي ذاكرة وذكريات لا تشيخ... تاريخ وتراث، أصالة وعنفوان، مسقط الرأس والقُبلة الأولى الحنون، الوطن والمدينة جزء منه، سور يحمينا من ويلات الأيام والإنسان يعيش في هذه الحياة... ينتقل من مكان إلى مكان ويشدّ الرحال مغترباً عن الأهل والديار، وبعد تلك المدّة الزمنية من عُمْره لابُدّ أن يحنّ صوب الإياب، إلى مدينته الأم الرؤوم مسقط الرأس أول منزل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما القلب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل “أما تلك الكتابات التي تتعلقُ بذاكرة المكان، والتي تواصلين الإبحار فيها، فإنّها تُشكل ذاكرة جديدة للناس، خاصة وأنّهم لا يرون، أو لا يفطنون، لذلك الكم الكثير والرائع الذي يُحيط بهم، وأتصور أنّ كتابة من هذا النوع، إضافة إلى ضرورتها، يمكن التوسع فيها، بحيث تُصبح ميداناً لرؤية جديدة، وأُفقاً لكتابة نحنُ بأمسِ الحاجة إليها”. بهذه الكلمات كتب الروائي الراحل عبدالرحمن مُنيف تقريظاً لكتاب القاصة سحر ملص”من ذاكرة المكان ـ عبق التراب” والصادر عن منشورات أمانة عمّان في الأردن. استذكارات زمكانيّة لقد زارت المؤلفة سبعاً وأربعين مدينة وقرية ومَعْلَم وشاهد أثريّ وتاريخيّ في عموم الأردن في رحلتها في الكتاب، الذي بدأ بمقدمة أشار فيها الكاتب المغربيّ محمّد معتصم “الشعر والمكان” إلى أنّ “سحر ملص تفعل بالحجارة العتيقة، تُفجّر مكنوناتها، تصفّ السطحيّ والخفيّ تحت ألستار، والغائر بين الجحور، وتصفّ حركة كانت ولم تعد الآن إلاّ الصدى في الذاكرة. للحجارة ذاكرتها، ترتدي الكاتبة لباس الحفّار المُكتشف الأركيولوجي- وتحملُ العُدّة، ورقة وقلماً، وآلة تصوير. الصور صامته، ثابتة لكنّ القلم يفيضُ بالمعاني، والأحاسيس المُتعاطفة مع الأمكنة، ومع التاريخ المنسي”. محطة القطار محطة القطار بوابة الرحيل القديم، أول ما شدّت ملص رحالها صوبها، فتوقت عندها تستذكر أيامها الراحلات حيث قبل أن تفتح المدينة عينيها في الصباح، وتطير جوقة العصافير حائمة في سماء المدينة تكون محطة القطار القديمة قد فتحت بوابتها، ومثل طفلة تتجه إلى جدّها لتُوقظه، أذهب إلى بئر ذاكرتي، ومحطة القطار أوقضها... وتمزج الكاتبة في كلّ حديثها بالكتاب عن ذاكرة المكان بين التاريخي والأثريّة وبين الانطباعات المُشاهدة حين تطأ قدماها في ثراها، وتقول عن محطة القطار: وحين تسأل عن عُمْر المحطة والطريق تبرز عجوز عمرها مائة عام تقول: أنا الطريق... أنا الشريان النابض ما بين الدول العربيّة... فقد بدأ العمل بإنشاء الخطّ عام 1990م على أساس ضيق عرضه 105 سم! قصر المشتى أما عن الأمكنة الأخرى بعد وقفتها الأولى في كتابها، فذكرت للأماكن الآتيةّ: “القصر الأمويّ يُعانق السّماء، سبيل الحُوريات والمدرج الرومانيّ، عبدُون نبيذ الماضي وعنب الحاضر، الرابيّة معاصر نبيذ الماضي، نويجيس قصر بلا ذاكرة، خربة ياجوز أصداء لمدينة العشق، شروق أهل الكهف، القسطل مدينة الآبار الخاوية، قصر المشتى جسر مابين الحاضر والماضي، وتقول عنه: “... أتوقفُ أمام الأبراج، خمسة وعشرون برجاً... أنصاف دائرية ما عدا اثنين سُداسيين يقعان عند المدخل الجنوبيّ.. سلسلة أبراج يجمعها سُور حجريّ مُتآكل... عبثاً تلضمُ حبّاته أرتال العصافير! أتوقفُ قليلاً... انتظر سُكّان القصر ليأتوا لاستقبالي”! القلعة الحصينة ثم تُعرّج سحر ملص قاصدة مدناً ومواضع أخرى: “القصور الأمويّة أبواب وذكريّات، الأزرق بوابة الشرق القديم، الخربة السّمراء صرخة حياة في وجه الفناء، طبقة فحل الجميلة النائمة، جلعاد قرية أم الزهور، المغطس نبضّ التاريخ، كهف النبي لُوط حكايا وعِبَر، قصر شبيب وجهٌ واحد وعيون مُختلفة، أم الجمال مسرح الصّمت والحزن، أم السرب ضباب وخراب، الفدين إطلالة أمويّة وحنين دمشقّ: “... الفدين أو القلعة الحصينة أو القصر المَشيد... كلها تشير إلى معنى واحد، والذي تعود جذور الاستيطان به إلى العصور الحجريّة التي تركت لنا بقايا الأدلة الصوانيّة ثم ارتقى في العصور الحديثة والبرونزيّة المُبكرّة،... وتضيف وهي تصرخُ بصوت عال يجاوبها صدى الفدين: سيدي الأمير أين أنتَ الآن لقد أتيتُ لأتحدث معك.. وأُصلي في مسجد من مساجد أجدادي الأمويين”؟ أسطورة عراق الأمير وتستمر المؤلفة مسافرة بين مناطق الأردن لتهبط إلى: رِحاب بلدة الكنائس القديمة، المدور أجمل قرية مهجورة، حمام الصراح استراحة أموية في الصحراء، قصر الحلابا أطلال وحُرّاس، صبحا بلدة الجدائل المُلونة، وعراق الأمير الذي توقفت فيه: “... سورٌ مُتهدّم... وحجارة هُنا وهُناك وحول القصر ثَمَة ساقيّة كانت تُثرثر فتسقي بساتين خضراء وأطفال يلهون حول تمثال على شكلّ نمر... رُبما فَغَر فَمَهُ ليتدفق منهُ الماء مُحدثاً بأساطير المكان. فثمة أسطورة شعبيّة تقول بأنّ القصر بناهُ عبدٌ مُتيّمٌ بحبّ سيدته التي سافر عنها والدها... وظنّ العبدُ أنّ القصر بجماله وفخامته سيشفعُ لهُ حُبّ سيدته فيصبحُ رجلها لكنّ العبد لم يَجْنِ سوى الموت وترك القصر غير مُكتمل البناء”. حارسة النهر الذهبيّ بعد ذلك استذكرت ملص مدن ومواضع أخرى: “جرش حارسة النهر الذهبيّ، قلعة الربض امرأة الغيم الأبيض، مار إلياس صومعة السّماء الرائعة، بيت راس آبار وحكايا، خربة الزيرقون أسرار وحكايات غامضة، أم قيس مدينة الحكمة والجَمَال: “هنا الغيمُ ينفلتُ من السّماء وينزل للصلاة على رؤوس الجبال الحرجيّة هنا تشفُّ الرّوح حتّى لا يظلّ بينها وبين الله أيّ حجاب.. الآن توقفت وعبرت الدرب باتجاه متحفها حيث بوابة قوسيّة الشكل، حجارة سوداء بازلتيّة، سروة ثم ساحة تختلطُ فيها أشجار الرمان المثمرة بأعمدة وحجارة وبقايا ناطقة من المكان. ثمة بئر تغفو تحت دلوٍّ ينزلقُ غليها ليصعد بشُربة ماء رائعة”! وها هي تصلفي جولتها إلى: “حسبان حُلم صيفي عبر الزمن، ذيبان عاصمة ميشع، جبل نبو، مأدبا فسيفساء الحاضر والمستقبل”، وحين شاهدتها سحر كتبت عنها: “صورة لتآخي الأديان فيها، عَرَاقة الزمن القديم، وجَمَال الحاضر، كلّها تستوقفك عند الدوّار الصغير... غلالة ورديّة، وعودة للماضي تكشفُ عنهُ المدينة مُعلنة بأنّ اسمها “مأدبا” يعني “الأرض الخصبة”، القرية المأهولة بالسكان منذ ملا يقلّ عن 4500 سنة. الكرك والبتراء تودع المؤلفة “مأدبا” لتستقر في رحلتها عند: أمّ الرصاص مدينة الحزن والضباب، ومكاور أسطورة السحر والمأساة، وقلعة الطراونة واحة الحجاج في الصحراء، والطريق إلى الربّة: “... ابتدأ الصعود إلى الربّة وسط بيوت فقيرة، بيوت حجريّة تزنرها الذكريات، سياجٌ من السهر، حطبٌ قليل، والدربُ ضيق، والنساء اللواتي يتوارينَ خلفّ أبوابهنّ، الآن أنتَ في شارع عريض نسبياً حيث الحوانيت التي تصطفّ على جانبيه، وفي منتصفه تماماً تنغرسُ أعمدة حجريّة، هي بعض من آثار الربّة التي تغفو على زاوية الطريق حيث “ربّة موآب” التي أطلق عليها اليونان اسم “آريوبوليس”. وبعد تلكم الأسفار في مدن المملكة الأردنية تصعد ملص صوب “قلعة الكرك حصن ذهب وعلم، ثم تتجه إلى قلعة الشوبك هديل وحبّ صامت: “.. قلعة حصينة ليس لها من مدخل سوى بوابة القلعة الرئيسية، مع أنّها اشتهرت بوجود ممرات سريّة كثيرة، تابعتُ طريقي باتجاه أسواقها ذات السقوف المصنوعة من أنصاف أقواس، وقفتُ استمع لأصداء صوت الباعة هناك، شاهدتُ ظلال امرأة تتلفعُ بملاءتها تسير بحثاً عن بائع العطور، ثم تابعتُ الدرب صوب برج حراسيّ...”. أما البتراء أسطورة الصخر والإبداع، فألقت عصا الترحال في رحابها ودخلت السيق: “الآن وصلت إلى السيق جبلان مُتجاورين يكادُ كلّ منهما يُعانق الآخر ليفسح لك بممر تعبرهُ وأنت خافُ بين الفينة والأخرى أن ينطبقان عليك، صخور تتعانق... صخور تتحاور عبر الزمن وأنت مُجرد إنسان تتساءل مَن نحتَ الصخر.. ومَن انطقهُ؟ أرفعُ رأسي أين السّماء الواسعة ماذا جرى من أحداث بين جدران المدينة... هذا ليس سوى ممر لها أما هي فمدينة حرية بلا أسوار تخنقها...”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©