الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليلة القبض على «الشبح»

ليلة القبض على «الشبح»
11 سبتمبر 2014 21:35
في لحظة السكون التي تسبق عقد القران، كان جميع الحضور من أهل العروسين يسلطون أنظارهم إلى العريس والعروس، وبينهما «المأذون»، الذي فتح دفتره الرسمي وسجل فيه بيانات كل منهما كاملة، وصورته الحديثة، وأرفق بأوراقه بيان الفحص الطبي المطلوب والمستندات المعتادة عند عقد كل قران، أطلقت واحدة من الحاضرات زغرودة مدوية شقت ذلك السكون، ورغم تنبيه المأذون على الحضور بالسكوت فإن أحداً لم يعترض على تصرفها، وقال المأذون موجهاً كلامه للعريس مازحاً، هل تريد شيئا قبل عقد القران؟ في إشارة إلى ما يقوله الشخص الذي ينفذ حكم الإعدام في المحكوم عليه ويكون آخر عهده بالدنيا قبل أن ينطق بالشهادتين، فضجت القاعة بالضحك الذي ربما عطل السير في الإجراءات لثوانٍ معدودة. تصرف غريب قبل أن يشرع الرجل في إنهاء الإجراءات، وقبيل أن يتحقق من القبول والإيجاب من كل منهما، جاء من خلف العريس من يهمس في أذنه بكلمات لم يسمعها أحد، حدث بينهما ما يشبه الخلاف في الرأي، كل واحد من المدعوين كان يحاول أن يقرأ لغة الشفاه، لكنه لم يستطع فيذهب إلى التخمين، غير أنه لم يكن بمقدور أحد أن يفك شفرة الحوار الذي كان أقرب إلى الصمت وإشارات الخرس، فقد كانا كلاهما حريصين على ألا يسمع أحد فحوى الكلام ولا معناه، شيء غريب وتصرف عجيب لم يسبق لأي منهم أن شاهد مثله طوال حياته، الحوار لم يستغرق دقيقة واحدة لكن الفضول يكاد يفتك بالجميع، يريدون أن يعرفوا ما يحدث. ما حدث بعد ذلك كان أكثر غرابة، فقد قام العريس من جلسته ولم يوقع على العقد بعد وسار مع الرجل الغامض الذي تأبط ذراعه واتجها معا نحو غرفة جانبية، وفي ذات اللحظة، كان عدد من الرجال الغرباء يحيطون بهما، ليسوا جميعاً من أقارب العريس ولا من أقارب العروس، لكن هؤلاء ظنوهم من أولئك والعكس، كل ما دار في الأذهان أن هناك خلافاً ربما نشب في اللحظة الأخيرة على المهر أو مؤخر الصداق كما يحدث الكثير من هذه النوعية من المشاكل في العديد من الزيجات، وحتى لو كان الأمر لذلك فهو يسير ويمكن التفاهم بشأنه. ظل الجميع في أماكنهم، وتسرب القلق إلى نفوسهم وهم لا يعرفون ما يدور في الغرفة الجانبية المغلقة بين العريس والغرباء الذين معه، لا يريد أحد أن يبادر بالكلام حتى لا يكون سببا في إفساد الفرحة، أو إفشال الزيجة، ولم يجرؤ على ذلك إلا خال العروس التي بدأت تتصبب عرقاً أفسد مكياجها رغم أن جهاز تكييف الهواء كان يعمل بشكل جيد، تقدم خالها وطرق باب الغرفة وتم الإذن له بالدخول، لكنه تأخر هو الآخر لأكثر من نصف الساعة، كانت كافية لكشف الحقيقة، لكن لم تكن كافية لتدارك الموقف الذي لا يحسد عليه الجميع. أمر جلل خرج خال العروس وهو الآخر يحاول أن يجفف عرقه، يبدو على وجهه أن الأمر جلل، فقد كان مكفهراً ينبئ بأن الحال ليس خيرا، لكن مع ذلك لم يكن أحد على الإطلاق يتوقع ما ألقاه على مسامعهم، فقد توجه نحو العروس وهو يواسيها بأن العرس لن يتم ويجب ألا تغضب وان كان الموقف سخيفا ومحرجا فيمكن أن تسعد بأنها اكتشفت الحقيقة قبل أن يقع الفأس في الرأس، وألقى بالقنبلة المفاجأة على رؤوس الأشهاد بأن العريس ليس ضابطا كما كان يدعي وخدع الجميع طوال الفترة الماضية وإنما نصاب محترف، هارب من عدد من الأحكام القضائية، لم تستطع العروس الطبيبة أن تواصل سماع هذه الكلمات، فنظرت بعينيها في خالها لعله يمزح، لكن كان جاداً وليس في أمر مثل هذا مزاح، فسقطت مغشيا عليها ونقلوها إلى المستشفى بدلا من الانتقال بالزفة إلى عش الزوجية. هؤلاء الرجال الغامضون كانوا رجال مباحث مكافحة جرائم النصب والاحتيال، ألقوا القبض على «عزيز»، البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاما وحكايته غاية في العجب فقد جرفه التيار إلى عالم الجريمة وغرق فيه ولم يستطع العودة، بدءاً من تخرجه في كلية الآداب منذ سنوات طويلة، ولم يستطع الحصول على عمل، وبعد عناء وتفكير وتعطل قرر أن يخوض غمار العمل الحر، اتجه إلى البنك وحصل على قرض ليدفعه مقدما لسيارة أجرة يعمل عليها سائقا، لكن لم يأخذ الأمر بجدية وامتدت يداه إلى المبلغ ينفق منه هنا وهناك في حاجات بلا قيمة، حتى لم يبق منه شيء، وبعد ستة أشهر فقط حان موعد سداد القسط الأول، لكنه بالطبع عجز عن السداد، وتوالت مواعيد الأقساط وليس في الأمر جديد، حتى أحال البنك الشيكات إلى النيابة التي استدعته للتحقيق معه، فلم يستجب لأنه يعلم أنه سيتم حبسه حتماً، فأحالته النيابة إلى المحاكمة غيابيا، وصدرت ضده أحكام بالحبس زاد مجموعها عن الخمسة عشر عاماً، فأصبح مهدداً بدخول السجن في أي لحظة. دخول عالم الجريمة كانت الخطوة الثانية نحو عالم الجريمة، بأنه قرر أن يتخلص من هذه الأحكام، وكأنها لم تكن، ليس عن طريق القانون أو الطعن عليها، وإنما بالتزوير، فقد قام بتزوير شهادة تفيد وفاته، وطلب من أحد أصدقائه تقديمها للمحكمة ليتم إسقاط الأحكام عنه، لكن صديقه رفض الاشتراك معه، فظل محتفظا بالشهادة في بيته، فظل «ميتاً» في الأوراق الرسمية وعلى قيد الحياة في الحقيقة، ولم يتوقف عند هذا الحد بل قام بتزوير بطاقة هوية بصفة ضابط كبير برتبة تتناسب مع عمره، ثم زور بطاقة أخرى على أنه طبيب، وقدم هذه الثانية إلى مستشفى خاص، وطلب من صاحبه عملاً، ومارس مهنة الطب وهو لا يعرف عنها شيئاً إلا ما يعرفه عامة الناس من خلال ما يسمعونه من الأطباء، أو ما يشعرون به من آلام. أثناء عمله في المستشفى تعرف «عزيز» على الطبيبة «سحر»، التي تصغره بنحو سبع سنوات، كان يتحدث معها في كل شيء إلا الطب والدواء، لأنه يعرف أن ذلك سيكشف أمره، فإما أن يتهرب أو يحول الأمر إلى مزاح، أو يتغزل فيها ويثني على جمالها، وقد كان يهدف من وراء ذلك إلى الإيقاع بها في شباكه، لكنها لم تكن تستجيب له إلا بعدما أفصح عن نيته الارتباط بها، وهنا استجابت، وأخبرت أسرتها بالموعد الذي تم تحديده للتعارف والاتفاق، ودعت خالها ليكون في استقباله، ويتولى التعامل معها لأنه هو ولي أمرها بعد وفاة أبيها، ولا تبرم أمراً إلا بمشورته، واستطاع العريس أن يسحرهم بمعسول الكلام والمجاملات على أي شيء، معتذراً عن عدم امتلاكه شقة، لكن من فرط استعجاله عرض أن يتم الزواج في شقة مستأجرة إلى أن يتسلم شقته التمليك، التي لم يكتمل بناؤها، وقدم لها كل المبلغ الذي تحصل عليه من عمله بالمستشفى كطبيب مزيف. كان رجال المباحث يواصلون جهودهم للبحث عن «عزيز» الذي كان مثل الزئبق، يظهر ويختفي مثل الأشباح، حتى أطلقوا عليه لقب «الشبح»، وأخيراً وصلت إليهم أخباره ونجاحه في الإيقاع بالعروس الطبيبة، وحاولوا أن يتم القبض عليه قبل أن يتم عقد القران، لكنه كان حريصاً، ويتوقع الأسوأ في كل لحظة، حتى أعدوا له كميناً في يوم عرسه في قاعة الأفراح وأثناء عقد القران، ولفرط وقاحته عندما ألقوا القبض عليه ما زال يهدد ويتوعد ويدعي أنه «ضابط»، لكن أخيراً انهار واعترف بكل جرائمه، وتم ترحيله إلى السجن بالقيود الحديدية إلى قفص الاتهام في انتظار الأحكام في قضايا التزوير وانتحال الصفة والنصب والاحتيال وإصدار شيكات من دون رصيد، ولا يعرف كم سيكون مجموع أحكام كل هذه القضايا، والعروس المخدوعة لم تعرف الحقيقة إلا الآن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©