السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السلطانة رضية الدين عاشت فارسة وماتت في قبر معزول

السلطانة رضية الدين عاشت فارسة وماتت في قبر معزول
25 أغسطس 2011 23:13
قبل أنديرا غاندي بأكثر من سبعة قرون حكمت الهند بأسرها سيدة مسلمة وسجلت اسمها في كتب التاريخ كأول امرأة تحكم الهند في عصورها التاريخية، وهي السلطانة رضية الدين ذات الأصل التركي وابنة شمس الدين ألتمش وحفيدة قطب الدين أيبك. قصة رضية الدين تبدأ بحكم السلطان «محمد الغوري» للهند بعد انهيار الدولة الغزنوية التي كانت تحكم بلاد الغور والأفغان وشمال الهند وقد استعان محمد الغوري في حكم البلاد بالمماليك من الترك، فكان يشتريهم ويعنى بتربيتهم ويعدهم للغزو والجهاد ويعهد لمن يلمس فيهم منهم الكفاءة بالمناصب القيادية في الجيش وإدارة البلاد. ونبغ من هؤلاء المماليك «قطب الدين أيبك» فولاه الغوري العاصمة «دلهي» فأحسن السير في الرعية بالعدل خاصة أنه تمثل مبادئ الإسلام في المساواة بين الناس ونبذ نظام الطبقات التقليدي بالهند. المماليك في الهند واغتيل السلطان الغوري في عام 603 هـ بلا وريث فاعتلى قطب الدين عرش دلهي وفي عهده دشن عصر دولة المماليك في الهند، ولكن القدر لم يمهله طويلا إذ سقط صريعاً من فوق صهوة جواده سنة 608 هـ وتولى من بعده ابنه «آرام شاه»، ولكنه لم يكن مؤهلاً لحكم البلاد فثار عليه قادة الجند بقيادة مملوك أبيه «ألتمش» وتولى الأخير حكم البلاد في عام 614هـ. ونظرا لمواهبه العسكرية الفائقة كان ألتمش يحظى بعطف سيده قطب الدين الذي عينه لقيادة بعض الولايات، بل وزوجه ابنته ومن ثم كان مؤهلاً لقيادة الدولة المملوكية وواصل سيرة قطب الدين في العدل بين الناس حتى أنه أذن لكل مظلوم بأن يخالف أهل الهند في لبس الثياب البيضاء فيلبس المظلوم ثياباً مصبوغة فإذا رآه «ألتمش» بين الناس نظر في ظلامته وقام بإنصافه، كما علق أجراسا على باب القصر يدقها كل مظلوم فيخرج للنظر في شكواه. ونجح ألتمش في حماية بلاده من غزوات جنكيز خان كما وسع حدود مملكته على حساب الراجبوت حكام شمال الهند، فأسبغ عليه الخليفة العباسي المستنصر بالله رعايته وأرسل له تقليداً بحكم الهند في عام 626هـ مع الخلع فصار يضرب النقود باسمه مع اسم الخليفة العباسي. وفاة السلطان وفي عام 634هـ توفي السلطان شمس الدين ألتمش وتولى ابنه ركن الدين فيروز العرش، ولكنه كان مشغولاً باللهو فأهمل أمر البلاد وانتشر الظلم في عهده وغضب عليه مجلس الأربعين وهو مجلس استشاري من المماليك، كان يساعد ألتمش في حكم البلاد وشرع أخوه «معز الدين» في محاولة عزله ولكن فيروز فطن له وقتله. وعند تلك اللحظة الفارقة في تاريخ الدولة المملوكية بالهند لمع اسم «رضية الدين» أخت ركن الدين فيروز والابنة المفضلة لدى والدها ألتمش، حتى يقال إنه فكر في أن يعهد إليها بالعرش من بعده لرجاحة عقلها وإلمامها بالعقيدة والفقه الإسلامي. وكان أبوها قد تعهدها برعايته فاختصها بمن يعلمها أصول الدين والفقه والحديث، وأيضاً بمن يدربها على فنون القتال والفروسية فنشأت راجحة العقل وفارسة في ذات الوقت فضلاً عما اشتهرت به من الحسن والجمال البارع. عزل فيروز سعت رضية الدين لعزل فيروز بمعاونة مجلس الأربعين، ولكنه ألقى القبض عليها وراح يمهد لقتلها، فما كان منها إلا أن صعدت أعلى القصر وقت صلاة الجمعة وقد ارتدت ثوباً مصبوغاً فعرف الناس أنها تشتكي ظلماً، فقالت لهم إن أخي قتل أخاه ويريد قتلي فثار معها الشعب وتم القبض على ركن الدين فيروز وجلست هي للحكم عليه وقضت بأن من «قتل يقتل»، فكان ذلك، وتمت مبايعتها على حكم البلاد في عام 634هـ وأعلنت ولاءها للخليفة العباسي ببغداد وضربت عملات من الذهب والفضة والبرونز باسمها فنقشت على نقود الذهب والفضة اسم الخليفة العباسي، بالإضافة إلى اسمها وألقابها التي جاءت على هذا النحو «عمدة النساء ملكة الزمان السلطانة رضية الدين بنت شمس الدين ألتمش». أما على النقود البرونزية، فقد اكتفت بنقش اسمها وحدها «السلطانة المعظمة رضية الدين» بينما شغل الوجه الثاني للعملة بزخارف هندية تقليدية. ومن أسف أن ما وصلنا من عملات رضية الدين ليس سوى قطع قليلة ونادرة وربما كان السبب في ذلك قصر المدة التي حكمت فيها البلاد وهي ثلاث سنوات فقط «634 - 637 هـ»، ولكن هذه العملات على ندرتها تبرهن على أنها كانت ملكة كاملة الصلاحيات والرسوم. الملكة الحازمة وتحفل كتب التاريخ والقصص الشعبية في الهند بالعديد من الملامح الشخصية لسلطانة الهند الأولى، ومنها نتبين أنها كانت ملكة حازمة شجاعة خاضت بنفسها الحرب ضد أعداء المسلمين بشبه القارة الهندية وفكت حصارهم لبعض المدن الإسلامية، كما توخت السير على نهج والدها في إنصاف المظلومين ونبذ النظام الطبقي. ويقال إنها تخلت عن ملابس النساء وارتدت ملابس الرجال وتسلحت في مجلسها بالقوس والسهم ووضعت قلنسوة الفرسان على رأسها بعد أن عمدت لشعرها الطويل فقصته، وتكاد الصور الشعبية المطبوعة لها في الهند تجمع على تشبهها بالفرسان سواء صورت على ظهر فيل أو على صهوة جواد. ولكن بعض الفقهاء وأيضاً فرسان مجلس الأربعين لم يرق لهم أن تحكمهم امرأة فشرعوا في النيل منها ومحاولة وضع شقيقها الصغير «ناصر الدين» مكانها على العرش، ونجحوا في ذلك بالفعل ولكنها نجحت في استرداد عرشها من دون أن تتعرض بالأذى لناصر الدين لكونه ألعوبة بأيدي كبار العسكر، وهنا توجه خصومها للتعريض بها أمام الشعب وأشاعوا أنها على علاقة غير شرعية مع عبد لها عينته مسؤولا عن الاصطبلات السلطانية، وكان يقال له جمال الدين ياقوت وهو حبشي أو فارسي الأصل ولما كانت السلطانة لم تتزوج بعد، فقد وجدت الشائعات أرضاً خصبة بين الرعية الذين ثاروا ضدها وعزلوها عن الحكم وقتلوا جمال الدين أمام ناظريها. مقتل السلطانة وتزوجت رضية الدين وحاولت مع زوجها استعادة العرش، ولكنها منيت بالهزيمة ففرت إلى ضواحي دلهي، وغفت بقرب قرية، فمر بها فلاح دون أن يعرفها فطمع في قبائها النسائي المرصع بالذهب والجوهر فقتلها، وهي نائمة. فلما ذهب بالقباء لبيعه بالسوق اكتشف أمره ودل على الحقل الذي دفن به جثمانها فما كان من شقيقها السلطان ناصر الدين إلا أن أمر بتشييد مدفن أو روضة تليق باسم أول سلطانة للهند في ذات البقعة التي قتلت فيها، وهي اليوم في ضاحية «سيتا رام بازار» قرب دلهي القديمة أو دهلي كما كانت تسمى. وقد أهمل أمر هذا الأثر الذي وضعت السلطات عليه لوحة تعريفية متواضعة بالسلطانة فيما خصصت له بوابة، للحيلولة دون الاعتداءات التي طالت الضريح على مر العصور حتى لم يبق منه سوى شاهد القبر وبجواره شاهد آخر لا يعرف صاحبه فضلاً عن بقية المحراب المعقود الذي كان ملحقاً بالضريح. ضحية مؤامرات العرش في مواجهة مدفن السلطانة رضية الدين المتواضع شيد السلطان ناصر الدين مسجداً ما برح قائماً إلى اليوم يستقطب عناية المسلمين، بينما يحيط الإهمال بالمدفن وتكاد تطويه صفحات النسيان. هكذا ذهبت السلطانة الفارسة العادلة ضحية لمؤامرات العرش تاركة وراءها في عالم الفن الإسلامي قبراً دارساً أو يكاد، وبعض قطع من العملات التي تحمل اسمها وألقابها كأول امرأة تحكم الهند في عصورها التاريخية.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©