السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يوغا الرقص

يوغا الرقص
10 سبتمبر 2014 21:50
قف على أطراف أصابعك، وأنت تأخذ نفسا عميقا، تنفخ صدرك للأمام وتشد ظهرك كي يمشق القوام، مغمضا عينيك، وآخذا بالارتفاع مع ذراعيك ببطء وتؤدة متوازنة، بحركة متناغمة مع رأسك الذي سيعلو رويدا رويدا ثم يحط على كتفيك كعصفور نعس... ارتفع، أعلى، أكثر، حتى تلامس أظافرُ قدميك حافةَ الأرض.. حسنا إذن، هذا هو الوضع المطلوب، أنت الآن مستعد تماما، عزيزي القارئ: هل تسمح لي بهذه الرقصة! قبل أن نبدأ سأخبرك سرا ليس للكتمان. لطالما فُتِنتُ بأولجا، (أولجا كوربت)، لاعبة الجماز السوفييتية، بطلة مرحلة السبعينيات، التي لفتت أنظار العالم إلى بسمتها قبل أدائها الحركي.. لتثبت أن التناغم بين والجسد والروح هو حسن الطالع الأشهى للتفوق التعبيري في لعبة الحركة. حاسة الرقص في الرقص، أنت لا تحتاج إلى جسدك، الجسد هو تحصيل حاصل، يلزمك ما هو أكثر أهمية من تأيقن الحركة في قوام مرن، لأن هذا الفن ليس استعراضيا بحتا، إنه فن اتساق تأملي، ووشاية إبداعية بوزن القوى الكامنة في الخيال الديناميكي للعقل، الذي يتيح اكتشاف الذات والتعرف إليها، بحاسة الرقص. بالتالي هو اكتمال التكامل بين الجسد والروح، خروج من نطاق الفراغ الهيولي إلى حيز التصور التام، لاستكناه فلسفة الحركة التي تتدفق من بين الصلب والترائب كمنظومة غريزية، تتضافر فيها المتعة مع الخلق، ضمن انطباعات حدسية تجنح إلى لمس المحسوس بأصابع النار، لأن الدخول في غيبوبة الرقص كما رآه “باولو كويلو” في روايته “ساحرة بورتوبيلو” هو المعجزة التي تحكم السيطرة على الواقع بإطلاق العنان للمخيلة. شيرين خليل، التي هي أثينا، ساحرة كويلو، كانت تصل إلى درجة التوازن من خلال الرقص بعكس الإيقاع، وهو ما يحتاج إلى نظام حركي موزون يجعل من الجسد مجرد أداة للمهارات الذهنية الكامنة في الذات. أليس هذا هو التحدي؟ مجرد التماهي مع فكرة الرقص كتقنية عقلية، يخدم التصور الإبداعي لهذا الفن كلغة، فاللغة لا تحتاج إلى أداة قدر ما تلزمها الإرادة.. وهو تماما ما جعل من “شيرين خليل” في الرواية، ساحرة بنظر الجماهير، وخطرا بنظر الجهاز الأمني البريطاني، والسلطة الكهنوتية في بريطانيا، لأنها أحكمت قبضتها على العقول، فخلخلت موازين القناعات الراسخة، والمفاهيم الثابتة، ليس بالجسد، إنما بفلسفة الحركة وحدها. رواية كويلو، تعمدت هذا التحايل الماكر على الحكاية، لكي تؤكد أن اللعنة الوحيدة التي يمكن أن تحل على مجتمع ما وتدمر نظامه الأمني والعقائدي هي الفن.. وهذا التدمير وإن كان بناء بالمنطق الإبداعي، لن يكون على الأقل كذلك بالمنطق المؤسساتي لأي كيان اجتماعي تحكمه قوانين وأسس لا يشكل الفن بالنسبة إليها سوى منفس ترفيهي لا أكثر! ولأن كويلو هذا لعين كحكايته، ربط ربطا ثعالبيا بين اللغة والرقص، حين أخذ بطلة روايته إلى صحراء دبي، كي تتعلم الخط على يد بدوي يستضيفها في خيمته، لتعيش الكتابة كأسلوب حياة، لا يستوي سوى بالاتزان! هنا المفارقة! إنها إذ تكتب تتوازن، وإذ ترقص تكسر إيقاعات الأرض على وقع خاصرة فالتة من حزام النار، فمن أين جاء الربط بين الضدين إذن؟ أليس في هذا إحالة على الأقطاب المغناطيسية في علم الجاذبية؟! يا لك من لعين يا كويلو! لقد عجن لغتين بيد واحدة، فما الذي سنسأله أو نتساءله أو نمكره، وليس بعد مكره مكر! ربما -رغم أنني واثقة- يكون الاختفاء الغامض للساحرة، أحد أوجه المكر التي يبتدئ به الراوي بنسج خيوط مخيلة متممة لمخيلة الكاتب هي مخيلة القارئ، فيشرع الرواية على منافذ تأويلية لا تنتهي بمجرد إطباق دفتي الكتاب على صفحات المحتوى، فابن أثينا الذي ورث روحها، بآلة عزفه، هو الوحيد الذي عثر على رقصة بلا جثة لأم بلا يتيم! وبهذا يترك لك القاص سؤال اللغز الأوحد في الحكاية: أين اللغز! إن عدت لأول هذه الكتابة، ستجد اللغز مع أولجا! بين الطاعون والجنون عندما يكون الرقص هوسا جماعيا، تمارسه جميع فئات المجتمع، فهذا يعني أنه ظاهرة اجتماعية بحد ذاته، لأن انتشاره على هذا النطاق يشكل تفشيا له، كأنه المرض، كأنه الطاعون، وهو الاسم الذي اختارته أوروبا لتطلقه على عدوى طاعون الرقص التي بدأت في ألمانيا عام 1374، وانطلقت منها إلى أنحاء أوروبا، لتؤثر على أجيال لقرون لاحقة، مع احتفاظها بسرها الذي لم يستطع المؤرخون والباحثون حتى يومنا هذا الوقوف عند سببه كمرض جماعي كما أطلق عليه البعض، بينما رأى البعض الآخر فيه عوارض جسدية لم يُعرف دافعها الفيزيائي! تعال معي إلى لوحات الإيطالي فابيو فابي وتحديدا لوحتي الرقص والحريم –اللتين صنفتا ضمن الأعمال الفنية الاستشراقية بين القرنين التاسع عشر والعشرين- سترى أن فابي مصاب بذات المرض، خاصة وهو يرسم الحركة الجسدية للراقصات في مصر، ممتلئا بجنون أو طاعون انتقل من اللوحة إلى الراقصة، وليس العكس! إنه اصطدام بجسد اللوحة، وتماهٍ مع الفوران المنبثق من أقدام الأرض إلى قماشة اللون، يتبعه دوران غير مرئي يصيب الرائي بخدر عاطفي، يؤرجح الحس ين أخدودين: الواقع والمخيلة، تماما كمبدأ الفتنة في النافورة السحرية العائمة، حيث ترى الماء يتصبب من صنبور معلق في الهواء، ولكنه في حقيقة الأمر مثبت بأنبوب شفاف يوصل الماء إلى الصنبور بحركة دورانية من الأسفل للأعلى والعكس، لن تكشف السحر بالحس، إنما باللمس، وهي مراوحة لا يتقنها سوى أولئك الذين يشغلون حواسهم البديلة عندما تتعطل هواجس المعرفة لديهم، لذلك يصبح هذا النوع من الإبداع هوسا مقلقا، يحتاج إلى تفكيك الجسد، كي يقبض على الشحنات الكهربائية الأرضية التي علقت بأقدام الراقصة أثناء الاحتكاك باللوحة. هبوط آمن تقول أولجا في أحد اللقاءات الصحفية معها: “أنا يعنيني أن أغير العالم، وقد فعلت، عندما تلقيت دعوة من الرئيس الأمريكي نيكسون لمقابلته العام 1973، في أوج الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان، قال لي: إن لاعبات الجمباز دائما يهبطن على الأرض بأقدامهن، وكم يرغب أن يحتذي السياسيون حذوهن، ويمارسوا الهبوط كي يعم السلام العالمي، ثم أضافت أن الروس اعتبروا لقاءها هذا الذي امتد لخمس دقائق قد صنع ما لم يصنعه السياسيون في خمس سنوات”. إنه قفز في الهواء، من أجل الهبوط الآمن على منصة الدوران الثابت: الأرض! لا تلم أفلاطون إذن حين اعتبر الفن قانونه ونبذ القانون، وكيف نعجب من ابن حضارة اتخذت من ميوزيوس إلها للموسيقى بل للفنون جميعها، حتى ليبدو الرقص بعد هذا كله، ملعبا للآلهة! أولجا واللغة تذكرني أثينا وأولجا بلاعبة جمباز عربية، نشأت وولدت في الكويت في مطلع السبعينيات، وتحديدا حين كان عمرها عشر سنوات، تتلقى دروسا للجمباز في مدرستها، استعدادا لأكبر مهرجان فني تنظمه وزارة التربية والتعليم نهاية كل عام.. لقد كان حلمها الفراغ، الفراغ باكتظاظاته الإبداعية ودلالاته الفنية..جمعتها بأولجا عينان تحيط بهما هالة داكنة، وفك علوي ناتئ قليلا إلى الأمام، وخصلتي شعر كذيلي مهرة، وهبوط حاسم لا تخطئة أقدام الأرض.. كان حلمها أن ترتدي تاج الورد، وتنورة الفراشة، وحذاء الباليه الناعم، حلمت أن تحلق عاليا كي تعيد الأرض إلى مكانها بسلام مطلق بعد الهبوط، ولكن...! مشكلتها أنها تعيش خيالها، تتقمصه حد الانفصال عن الواقع، وهو ما أدى بعد نزولها من حافلة المدرسة -وهي في نشوة التقمص- إلى تعرضها لحادث اصطدام بمركبة دخلت الشارع من انحناءة جانبية بسرعة كبيرة. الفحص الأولي، كشف عن تشخيصين محتملين، إما الاستمرار في النوم “يعني الدخول في غيبوبة إلى أجل غير معلوم، أو شرخ في الجمجمة يؤدي للجنون أو فقدان الذاكرة”. لم يحدث أي من هذا، كانت الكسور هي الإصابات الوحيدة، وشرخ في المخيلة أدى إلى استفاقتها منها، لتعيش غيبوبة ناقصة، أو حالة من التناقض الحيوي بين العوامل الظرفية والإمكانيات الفردية للتغلب على الصدمة (الواقع)، لأنها لم تر الحادث، ولا أحست بالمركبة وهي تصدمها بالعنف الذي سيؤدي لاحقا إلى تطورات فيسيولوجية طرأت على تكوينها النفسي، كل ما أحسته لحظة الاصطدام هو التحليق، الحرية المطلقة، التي هبطت بها من أعلى الحلم، إلى هاوية السقوط، وظل الهبوط معلقا بين حبلين: سلم الفراغ، وحفرة الهواء! سارت حياتها كلها على النهج، فما أن تشرف على الوصول إلى القمة، حتى يبتر المشهد فجأة، وتدخل في انقطاع تام عن بؤرة الضوء في سقف الوثبة، تبقى كخيط عائم بين مخيلتين، حتى أنها وجدت مع الزمن صعوبة قصوى بالتركيز، وإفراطا في اليقظة الذهنية اتجاه أي محفز على خطر مجهول تتنبأ به دون أن تحدد صفاته، ودون أن تقع في فخ الوسواس القهري، وربما كان لهذا دور في إحكام السيطرة على الواقع، دون الاستغناء عن المجاهدة في سبيل الرضوخ لسيطرة المخيلة.. إنها روضت الصدمة بالتدرب من جديد على تقمص التقمص، خوفها من الشوارع تبدد، أجبرت نفسها على المشي لساعات طويلة في شوارع بلا نهاية، أصبحت ابنة شوارع بامتياز، حتى خوفها من الليل -بيت الضيافة الأمثل للألم، بددته وهي تحضر خلطتها اللغوية في أحلك ساعاته لتصبح ابنة ليل بالمعنى الإبداعي، غدت ذاكرتها الضمنية في لوزة الدماغ أقوى من ذاكرتها الصريحة في الحُصين حسب علم تشريح الدماغ، مع الزمن ستدرك أنها عالجت عجزها، بالمخيلة، انتقلت من الإبداع الحركي إلى الإبداع الصامت: اللغة! شكرا لأولجا إذن، وقد أتمت المهمة قبل أن تبدأها صاحبتنا، أتتْ قبلها لتكمل طريقها عنها، فشكرا للطريق! يبقى أن أخبرك عزيزي القارئ السر الذي وعدتك ألا أكتمه.. فهذه الراقصة، ابنة الليل والشوارع واللغة هي: أنا!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©