السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إفراجات الذائقة النقدية

إفراجات الذائقة النقدية
21 أغسطس 2013 20:00
غادرنا ذياب شاهين أواخر التسعينيات إلى المنفى، وهو لم ينشر سوى بضع مقالات نقدية في المجلات والصحف العراقية، وكان مهتما بدراسة عروض الشعر العربي، حيث توافرت له المعرفة الدقيقة بأوزان الشعر العربي، إذ صدر في باكورة منجزه النقدي كتابة البكر “العروض العربي في ضوء الرمز والنظام”، غير انه وجد في هذا المنفى محفزا للبحث والاجتهاد ومواصلة الكتابة في نقد الشعر؛ فأصدر كتابه الثاني في عمان “التلقي والنص الشعري”، ومن ثم كتابه الثالث في دولة الإمارات “الشعر الإماراتي الحديث”، وبين أيدينا كتابه الرابع “جماليات الشعر من القراءة إلى التأويل” عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة. ويأتي إصدار هذا الكتاب حديثا تتويجا لرحلة الكاتب مع الشعر ونقده. إن ذياب شاهين لكونه شاعرا يميل إلى تقصي النتاج الشعري، مسلطا الضوء على إصداراته الجديدة، وقد نشر العديد من نقوده قبل مغادرته العراق حول القصيدة الحديثة، حيث ضم هذه الآراء في كتابه “التلقي والنص الشعري”. وقد أشار المؤلف في مقدمة كتاب “جماليات الشعر” إلى دوافعه الذاتية في تأليفه إذ يقول: “إني أحب ممارسة النقد، فهو عمل ممتع وشيق بالنسبة إلي، ولا أواجه صعوبة في تحليل النصوص والمسك بجماليتها”. ففي الفصل الأول (الشعر والنثر فنان متمايزان) يقسم الناقد هذا الفصل الى ثلاثة مباحث، أولا: قصيدة النثر، حيث يعبر عن تشاؤمه من سيادة قصيدة النثر على الفنون الأخرى، بعد أن أصبحت فنا طاردا للفنون الإبداعية الأخرى، إذ يجري بعض المقارنات بين ما كتب من شعر التفعيلة كقصيدتي (أنشودة المطر) و(النهر والموت) للسياب و(كوليرا) نازك الملائكة، وما ينشر من نثر هذه الأيام، إذ يقيم الباحث حججه على هذه الفوضى في الكتابة والتساهل في نشر قصيدة النثر، والتي أصبحت مكانا خصبا لاستفحال الرداءة بعد أن أصبحت قوانين هذه القصيدة غير محددة أو غير معروفة لدى الجميع. كما يلجأ إلى تقعيد هذه الآراء من خلال اعتماده لموجهات النقد القديم وبسط آراء النقاد القدامى كالثعالبي، وأبي هلال العسكري، والجاحظ، والتوحيدي، وابن خلدون في الموازنة بين الشعر والنثر، ولم يأت على آراء رواد قصيدة النثر أو مؤسسيها عدا أدونيس الذي عد رأيه بهذه القصيدة في باب النثر الفني الذي استمد موجهاته من مخاطبات المتصوفة وتجلياتهم كالنفري ومحيي الدين بن عربي. وثانيا، قصيدة الشعر: وهي القصيدة التي لا تختلف عن القصيدة العمودية، بل هي القصيدة العمودية نفسها، إذن، لماذا قصيدة الشعر وهي قصيدة تلبس ثوب العمود، وليس هناك ما يجعلها قصيدة مختلفة عن القصائد السائدة؟ وأرى أن قصيدة الشعر هي القصيدة التي يمكن أن تكون القصيدة الكلاسيكية الجديدة، فهي قصيدة عمودية لكنها تميل إلى التحديث في اللغة والصورة والرؤية واعتماد الإيقاعات الشعرية المتداولة، ونحن بإمكاننا أن نعد الجواهري وعمر أبي ريشة ونزار قباني روادا لقصيدة الشعر، لأن قصائدهم تقع ضمن هذا الاتجاه الذي طرحه (منتجو) قصيدة الشعر، ولاسيما أن هذه القصيدة لا تخلو من الوزن والقافية غير إنها لا تؤول أغراضها بالأغراض التقليدية التي أنتجتها القصيدة الكلاسيكية، ويمكن في هذه الحال لأي شاعر أن يخرج نصه من الغرض أو القضية وهل يقبل أن يكون الشعر بلا قضية. وثالثا، الكتابة الشعرية، إذ يشير الباحث ذياب شاهين إلى توظيف الحواس في خلق الكتابة الشعرية، وجعل حيثيات اللغة هي أصل الدلالة اللغوية، إذ يمكن أن تكون عملية الكتابة علامة تستدعي المقارنة مع علامات أخرى مقاربة لها. فالأذن يمكن أن تهجس الصوت، أو الموسيقى، بوصفها بوابة للذاكرة التي تختزن وتدون المعلومات. كما يرى المؤلف أن للقارئ دورا مهما في استقبال النص الشعري إذ يمثل هذا القارئ فعالية مثلى أو نموذجية تنشطر انشطارا متسلسلا بلغة أهل الكيمياء، فالقارئ يستطيع أن يتجذر في بنية النص بوصفه قارئا ضمنيا. وفي الفصل الثاني (قراءات شعرية) يقدم المؤلف قراءات نقدية لبعض النصوص الشعرية من أجيال مختلفة، فيقرأ نص الشاعرة نازك الملائكة تحت عنوان (المقارنة النصية الزمانية، البحث عن السعادة والخوف من الموت)، وهذا النص بعنوان (مأساة الحياة)، وهو نص ذو شطرين غير أن قوافيه قواف مختلفة أي انه نص مرسل، وقد جرب كتابة هذا النوع من الشعر إيليا أبو ماضي، إذ يكون لكل بيتين في القصيدة قافية موحدة. يتناول النص قضية (الحياة والموت)، كما يقف المؤلف عند شعرية القصيدة وموضوع الصيغ الإخبارية التي تفصح عنها القصيدة، إذ يجري بعض المقارنات الأسلوبية بين مقاطع النص الشعري، مبينا البؤرة الرؤيوية التي تؤسس لقصيدة نازك الملائكة. كما يعالج الناقد قضية التطور الشعري عند نازك الملائكة وإرهاصات التجديد في شعرها، بدءا من استعمال المفردة الشعرية، وانتهاء بموضوعة النص الشعري، واستخدامها للأفعال المضارعة التي تدل على الديمومة والاستمرار، بالإضافة إلى تنوع الإيقاعات الشعرية، حيث تعتمد الشاعرة بحر الخفيف، وهو البحر الذي ينطوي على إيقاعات تراتبية هادئة، وكثيرا ما يلجأ إليه الشعراء في قصيدة الحزن والرثاء والتعبير عن التشاؤم. فالشاعرة قد كتبت مطولة (مأساة الحياة) كما يكتب شعراء الموشحات الأندلسية قصائدهم الطويلة، تلك القصائد التي تتعدد فيها القوافي كما تتعدد الهموم والأفكار. حيث يمكن أن يمنح هذا التعدد الشاعر فضاء أرحب وحرية في اختيار المفردات الملائمة للنص الشعري. كما يتناول الناقد ذياب الشاهين تحت عنوان (المقارنة النصية) قصيدة السياب (حفار القبور) وقصيدة حسب الشيخ جعفر (الحفار)، حيث يقيم بعض المقارنات مبتدئا من عناوين القصائد، فقصيدة السياب يراها أكثر وضوحا من قصيدة حسب الشيخ جعفر، لأنها تنطوي على كلمتين (حفار ـ وقبور)، ولا يمكن أن ننظر إليها خارج طقوس دفن الموتى ومواراتهم التراب. بينما يرى نص حسب الشيخ جعفر يقوم على مفردة واحدة (حفار)، فهذه المفردة يمكن أن تحتمل تأويلات عدة، كحفار للقبور، أو حفار للكلمات، أو حفار السير، وهو بهذا الغموض قد منح القارئ نوعا من التأمل وفسحة من المراجعة والاكتشاف. كما يعالج الباحث قضية الزمان والمكان والبناء الفني لهذه القصيدتين، وينتهي إلى أن نص السياب هو تعبير ذاتي عن أوجاعه ومعاناته مع المرض، أما نص حسب الشيخ جعفر، فإنه كان نصَّ تساؤلات وجودية محضة، لأن الحفار، هنا، هو نديم أبدي للشاعر بعد موته. كما يدرس قصيدة (الطيور) للشاعر أمل دنقل تحت عنوان (انطولوجيا الوجود مقارنة إسقاطيه)، فيبيّن أن طيور أمل دنقل هي مصائرنا.. مصائر الإنسان في رحلته الوجودية، فالتدجين والهجرة والقتل ومصادرة الحرية هي عوالم تعيشها الطيور كما يعيشها الإنسان، ويرى أن نص دنقل هو تساؤل وجودي عميق، وهو كناية عن قصر الحياة وتهافتها. كما انه يعبر عن صراع الإنسان مع الحياة، وكيف يحاول القوي ابتلاع الضعيف، كما تتلمس الطيور بمناقيرها طعم الغذاء. كما يقدم الناقد قراءات نقدية لبعض الإصدارات الشعرية، وهي إصدارات تقوم على قصيدة التفعيلة، حيث يصف هذه القراءة بـ(قراءة في دواوين شعرية)، إذ توقف في القراءة الأولى عند الشاعر جهاد أبي حشيش وديوانه (امرأة في بلاد الحريم)، وهو ديوان تعالج قصائده قضية المرأة العربية، وفاعليتها وتأثيرها في المجتمع، وأن مفردات الديوان قائمة على قصيدة التفعيلة، فهناك قصائد من البحر الكامل والخبب والمتقارب، وهناك تنوع في الإيقاع الشعري، بالإضافة إلى سيادة المباشرة والتقريرية على لغة الشاعر واستعماله للقافية الموحدة في معظم القصائد. أما القراءة الثانية، فهي قراءة في ديوان “تردني لغتي إلي” للشاعر علاء ولي الدين، وفيها يدرس الناقد قضية الغربة عند الشاعر والانتماء إلى الوطن.. المكان، وذلك الوطن الذي تحول إلى ذكرى عند مغادرته، فالشاعر يتوسل قصيدة التفعيلة في التعبير عن حبه للوطن، وهو استرجاع ضمير (الأنا) عندما يريد التعبير عن همومه وأوجاعه ويلجأ إلى ضمير الغائب عندما يتكلم عن المحبوبة فهو مستمع ومتكلم، لكونه يستخدم المنولوج الداخلي لاستغراق تجربة الحنين إلى الوطن. وفي الفصل الثالث (قراءات نثرية )، تضمن المحور الأول قراءات في نصوص نثرية منفردة، والمحور الثاني قراءات في دواوين لقصيدة النثر، ففي المحور الأول قدم قراءات لقصيدة البريكان (في البدء كانت البذرة) وهي قصيدة قائمة على التوازي الإيقاعي، والتوازي المضموني، وهي تجربة جديدة في قصيدة النثر، حيث يمكن للقارئ أن يقرأ هذا النص بصورة عمودية، وأخرى أفقية، ومضمون النص لم يتغير، وكأنهما نصان مفترقان، لكنما أحدهما يكمل الآخر، ويرى الباحث أن هذا النص ذو تكتيك خاص، فهو متوازٍ على مستوى الأفعال، ومتوازٍ بالمعنى، وبما انه يحمل اسم (البذرة)، فإن نموه لا يختلف سواء كان نموا أفقيا أو نموا عرضيا. كما يتناول قصيدة (سرير تحت المطر) للشاعر محمد الماغوط، حيث يؤشر الحالة الذاتية التي صدرت عنها القصيدة، وهو يوضح مدى حركية نص الماغوط من الإخبار إلى التخاطب، بالإضافة إلى اهتمامه بالتشكيل الجملي للنص، وتنويعه في الأداء على مستوى الابتداء، وعدم احتفاله بالتكرار السردي. أما المحور الثاني، فيدرس فيه الناقد بعض دواوين قصيدة النثر، مبتدئا بالشاعر أديب كمال الدين وديوانه “شجرة الحروف”، مبينا ان الشاعر يتخذ من الأسطورة قناعا لرحلته الزمنية وهي رحلة وجودية بامتياز، حيث تنشطر الأسطورة لديه إلى صورة وامرأة ولا تكاد تفرق بينهما، فان غابت الصورة غابت المرأة، وكأنهما متن وهامش ولكنهما متعادلان في مستوى القيمة الرمزي، وأن أديب كمال الدين واحد من الشعراء المولعين بالرمز الديني والصوفي، فقصائده تعج بهذه الرموز المتمثلة بنوح وإبراهيم وهود وصالح، الأنبياء، وما تشتمل منظومة الأدب الصوفي من أسماء كالنفري وابن عربي وابن الفارض والحلاج وسواهم. والشاعر الآخر صادق الطريحي وديوانه “للوقت نص يحميه” حيث يمكن إزاحة هذه العنونة إلى (للبيت رب يحميه)، ولا سيما أن العبارة هذه تتوازى مع عنوان الديوان من ناحية التلفظ والإيقاع، إذ يكثر صادق الطريحي من هذه الإزاحات كقوله: “في البدء كانت الحلة” كما جاء في الإنجيل (في البدء كانت الكلمة). وكثيرا ما يستثمر الشاعر الموروث الرافديني في كتابة نصه الشعري، حيث يستعمل مفردات (كلكامش) و(انو) و(عشتار ). والكثير مما يرد في أدب العراق القديم. كما يدين الشاعر صادق الطريحي الحرب، ويستنكر ما فعله المحتلون في العراق، حيث يشير إلى الوقائع المحلية التي لا يبررها الفعل الاستبدادي ومحاولة طمس إرادة الإنسان ومصادرة حريته. ان موضوعات الطريحي هي موضوعات تنهل من المرئي والمعيوش في حياتنا اليومية محاولا تقديم مقاربات رؤيوية بين رحلة ابن المعتز أيام المتوكل، ورحلة رعد عبد القادر وهو يغادر هذا العالم عهد القائد الضرورة. إن شعر صادق يمثل إدانات صريحة للماضي، وإدانات للحاضر الذي لا ينبئ إلا بالبؤس والشقاء. وكم تمنيت على المؤلف أن يبوب مصادر بحثه حسب حروفها الأبجدية في خاتمة الكتاب، ومنحها حسا أكاديميا، ليس كما جرى تبويبها بصورة عشوائية، ولا سيما أن الناقد ذياب شاهين كان أمينا في توثيق المراجع، واعتمادها في ثنايا الكتاب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©