الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صناعة «الطرابيش» في مصر تلفظ أنفاسها الأخيرة

صناعة «الطرابيش» في مصر تلفظ أنفاسها الأخيرة
19 نوفمبر 2010 20:12
عدد قليل من الورش الصغيرة المتفرقة ومن الصناع هو كل ما تبقى من مهنة «الطرابيشي» التي كانت يوما أكثر الحرف اليدوية في مصر ازدهارا. فكان الطربوش لنحو 150 عاما زيا وطنيا واجباً على كل مصري ارتداؤه لكن على مدار الخمسين عاما الماضية أخذت مكانة تلك المهنة تتراجع وقل الطلب على الطربوش، وكاد يتلاشى لولا أن الدراما التاريخية أعادت للمهنة بعض البريق والاهتمام. منذ عشرات السنين تعمل أسرة عادل أبو الفتوح، صاحب ورشة لتصنيع الطرابيش بشارع المعز بالقاهرة، في مجال صناعة الطرابيش وترميمها وتصنيعها بشكل يدوي، فقد ظل آباؤه وأجداده يتوارثونها لأكثر من مائة عام، وشهدت خلالها فترات رواج وتحقيق مكاسب مادية واجتماعية كبيرة فقد كان جميع أفراد المجتمع كسائر البلدان العربية يرتدون الطربوش كنوع من الوجاهة التي لا غنى عنها إلى أن أصدرت الحكومة المصرية عام 1962 قرارا بمنع ارتدائه في الجيش والشرطة والدواوين الحكومية. زي تقليدي يقول أبو الفتوح إن ارتداء الطربوش بقي متداولا منذ ذلك التاريخ وحتى مطلع الألفية الجديدة على استحياء فوق رؤوس قلة من الناس إلى جانب طلاب وعلماء الأزهر الشريف لكونه يدخل ضمن الزي التقليدي لهم مع العمامة، وأدى ذلك إلى تدهور المهنة وأحوال العاملين بها فأغلقت الكثير من الورش واتجه غالبية الصناع المهرة إلى العمل في مهن أخرى تضمن لهم دخلا يعينهم على الحياة، مشيرا إلى أن مسلسلات التليفزيون التاريخية على مدار السنوات الأخيرة والتي دارت أحداثها عن فترة ما قبل ثورة يوليو 1952 أسهمت في عودة الروح لمهنة الطرابيشي وساعدت على رواج الطربوش بين الناس كتراث ثقافي اجتماعي. ويوضح أبوالفتوح أن مسلسلات مثل “الملك فاروق وحديث الصباح والمساء وأسمهان وإسماعيل ياسين وغيرها أعادت تذكير المشاهدين بالطربوش لاسيما جيل الشباب فساعدت على جذب البعض لارتدائه ولو على سبيل الفكاهة والمرح وذلك من فرط تأثرهم بشخصيات المسلسل لاسيما وأن ثمن الطربوش في متناول الجميع. كما أن السياح الأجانب انتبهوا لأهمية الطربوش كتراث مصري عربي فباتوا يقدمون على شرائه كتذكار”. ويقول إن هناك قرى سياحية في الساحل الشمالي وشرم الشيخ والغردقة والإسكندرية ومطاعم متخصصة في تقديم المأكولات الشرقية داخل محيط القاهرة الإسلامية بشارع المعز والغورية والقلعة تحرص على أن يرتدي العاملون بها الطربوش كنوع من الأصالة والانسجام مع طبيعة هذه المنشآت وتصميمها ومواقعها المتميزة بالقرب من مزارات سياحية وأمكنة تراثية خاصة بعدما انتبهوا إلى أن ارتداء الطربوش يعد مظهرا محببا للسياح الأجانب. جسر تواصل يشير صانع الطرابيش أحمد هلال (49 سنة) إلى طرائف يصادفها في حياته اليومية منها أن بعض الأسر المصرية العريقة ظلت تحتفظ بطرابيش في خزانتها لسنوات طوال رغم عدم استخدامها. ويقول “جاءني ذات يوم أستاذ بجامعه القاهرة ومعه طربوش من طراز قديم ورثه عن أبيه موضحا أنه كان حريصا على الاحتفاظ بالطربوش كتذكار من والده الراحل الذي كان يشغل منصب وكيل وزارة المعارف وأنه (أي الأستاذ الجامعي) كان من حين لآخر يحرص في أوقات حنينه لأيام طفولته وشبابه على ارتداء الطربوش خلال وجوده بالبيت إلى أن اكتشف أن الزمن فعل فعلته بالطربوش فتمزقت أنسجته فسعى إلى ترميمه وبعد أن أصلحت الطربوش وأعدته لحالته الأولى رأيت الابتسامة تعود لوجه ذلك الأستاذ الجامعي الذي اقترب من الستين وعندما سألته عن السبب أكد أن الطربوش يمثل جسرا للتواصل الروحاني بينة وبين زمن جميل عايشته أسرته”. ويقول هلال إن كثيرا من الفنانين المشاهير يحرصون على شراء الطربوش منه في أعمالهم الفنية ومنهم يحيى الفخراني الذي حضر إلى ورشته بالغورية قبل نحو 15 عاما وقام بتصنيع طربوش خصيصا له استخدمه في مسلسل لعب بطولته آنذاك. أنواع الطرابيش وعن أوضاع العاملين في تلك المهنة، يوضح سالم عبدالرحمن (61 سنة) أن تلك المهنة تنقرض فعدد العاملين بها محدود ولا يزيد على خمسين يعملون في ثمانية ورش خمس منها في القاهرة بالغورية والدرب الأحمر وتحت الربع وشارع المعز وقلعة صلاح الدين وهناك واحدة في صعيد مصر بأسيوط واثنتان في بحري الأولى بالإسكندرية والأخرى بكفر الشيخ. يؤكد عبدالرحمن أنه لم يورث هذه المهنة لأولاده ويوضح “المهنة ليس لها مستقبل فأنا بحكم عدم إتقاني لغيرها مستمر بها إلى النهاية أما أولادي فقد تعلموا بالمدارس والجامعات وصار أحدهم محاميا والآخر محاسبا”. وعن أنواع الطرابيش والمواد اللازمة لصناعتها، يقول سالم هناك نوعان من الطرابيش الأول يصنع من الصوف المضغوط والأخر من قماش الجوخ الملبس على قاعدة من الخوص والقش المحاك على شكل مخروط ناقص والقش يمنح الطربوش متانة أكثر بينما الخوص يعمل على وجود فتحات المسام اللازمة لتهوية الرأس. ويشير إلى أن صناعة الطربوش الواحد تستغرق ثلاث ساعات على الأكثر وأن الصانع لابد أن يتحلى بالصبر والمهارة اليدوية العالية فأي خطأ يظهر بوضوح في هيئة الطربوش مثل الاعوجاج يمينا أو يسارا أو وجود كسرات في القماش والعمر الافتراضي للطربوش‏ قد يصل إلى 5 سنوات في حال الحفاظ عليه والحرص على نظافته باستمرار.‏ ويشير عبدالرحمن إلى أن كل طربوش يصنع وفقا لقالب خاص يناسب رأس الزبون أما في حال إنتاج كمية بدون قياس فإنه يتم تصنيعها على القالب المتوسط 25 سم وهو مقاس قطر رأس غالبية الناس، لافتا إلى أن تجهيز قوالب القش والخوص تعد الخطوة الأولى في تلك الصناعة حيث يتم ‏وضعها حول قالب نحاسي بدقة بالغة ثم يوضع الصوف ويتم تثبيتها تحت مكبس خاص لنحو ساعتين في درجة حرارة دافئة كي لا يحترق القماش ‏وبعدها يتم تركيب الزر وهو خيوط من حرير صناعي سوداء اللون تثبت في منتصف الطربوش لإضفاء لمسة جمالية وبعدها يصبح جاهزا للاستعمال. ويؤكد أن لون زر الطربوش فيما مضى كان يدل على مكانة صاحبه فاللون الكحلي يرمز لطبقة الباشاوات والأمراء بينما الأسود يرمز للأساتذة والأفندية وأئمة المساجد‏‏ أما الزر اللبني فكان يقتصر على من يقرأون القرآن في المأتم ويسيرون في مقدمة الجنازات‏.‏ «مشروع القرش» لإنقاذ الطربوش عرفت مصر ارتداء الطربوش في مطلع القرن 19 في عهد محمد علي باشا والذي أقره ضمن الزي الرسمي للموظفين في دواوين الحكومة، وأنشأ مصنعا خاصا لإنتاجه بمدينة “فوه” بمحافظة كفر الشيخ عام 1828 وبمرور الزمن ولأسباب كثيرة تدهور إنتاج هذا المصنع ما أوجد أزمة كبيرة في المجتمع المصري لدرجة دفعت بالسلطان حسين كامل عام 1917 إلى الإعلان عن “مشروع القرش” أي تجميع قرش واحد من كل مصري لعمل مصنع لخامات الطرابيش سمي “مصنع القرش”، وأطلق على الشارع الذي أقيم به “شارع مصنع الطرابيش” بميدان الحلبي بالقرب من ميدان الجيش بحي العباسية بالقاهرة، وظل ذلك المصنع يمد ورش تصنيع الطرابيش في عموم مصر بما تحتاج إليه من خامات إلى أن أغلقته الدولة عام 1962 في أعقاب القرار بمنع ارتداء الطربوش في الدواوين والمصالح الحكومية والشرطة والمدارس وإلغاء الألقاب الرسمية كالبيك والباشا والأفندي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©