الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«دون كيشوت»..خلود النص

«دون كيشوت»..خلود النص
19 أغسطس 2015 21:50
تفتح الرواية، الغنية عن التعريف، أبوابًا واسعة للحوار بين الحضارات، حيث تنتقل على شواطئ المتوسط من أسطنبول وتونس والجزائر إلى جميع أنحاء إسبانيا، ومنها إلى إيطاليا وقبرص، وأيضًا فرنسا وألمانيا، حيث يتحول الصراع داخل الرواية من «كوميديا سوداء» إلى ابتسامة أمل ومحبة بين كل البشر من كل الأجناس، من ناحية أخرى، فهي لا تنسى مأساة السود والعبودية، ولا تترك العالم الجديد في الأميركيتين آنذاك، من دون ذكر، بجانب إشادتها بدور مصر في خلق الكثير من القيم الإنسانية الكبرى. احتفال دائم يوضح المترجم الكبير سليمان العطار في مقدمة ترجمته الكاملة للرواية، أنه ليس بغريب أن يظل الإسبان يحتفلون بهذا النص الخالد بشتى أنواع الاحتفال إلى اليوم، مدللا على ذلك بما تقوم به حلقة الفنون الجميلة في إسبانيا إلى اليوم، من دعوة متطوعين سنويًا في ذكرى ثربانتس لقراءة النص دون توقف لمدة أربع وعشرين ساعة، تضاعفت عام 1998 إلى 48 ساعة، وكانت تذاع على شاشات التلفزيون في كل أنحاء إسبانيا والعالم الناطق بالإسبانية. في هذه الرواية، التي تعد الرواية الأم التي أسست لفن الرواية الحديثة في العالم أجمع، وضع ثربانتس إحدى السمات الأساسية لفن الرواية، وهي التي سوف يحتفي بها ويحافظ عليها كل الروائيين من بعده، من جوجول إلى ديكنز، ومن ماركيز إلى كونديرا، ألا وهي الاعتماد على فن السخرية باعتبارها إحدى الطبائع البشرية الساخرة، بل إن أعمال ديستفوسكي أستاذ عموم التشاؤم لم تكن تخلو من هذه السخرية السوداء، وعلى حد تعبير الروائي التشيكي الشهير ميلان كونديرا، فإن «حس السخرية والقدرة على اكتشاف التناقض هو الذي ضمن لفن الرواية التميز عن بقية الفنون الأخرى، وهو الذي أمّنَ بقاءها»، ولا مناص من الاعتراف بأن سرفانتيس هو الذي وضع الأساس لهذا الأمر. في الرواية، سيغادر (دون كيشوت) قصره ليخوض تجربة الفروسية مرتين، في الأولى كان وحيدا، عديم الخبرة بالعالم الخارجي، لذلك كانت هزيمته سريعة، وجروحه بالغة، وعاد إلى بيته وهو على وشك الموت، ولكنه لم يمت، بل وجد نفسه يستعيد هذه المغامرة الصغيرة الفاشلة، فتمتلئ روحه التي لا تعرف الوهن ولا الشيخوخة بالعزم على العودة مرة أخرى، وهكذا يعاود الخروج مرة أخرى بعد أن أقنع أحد الفلاحين الذين يعملون عنده، هو سانشوبنزا بأن يكون تابعا له، وهكذا تبدأ واحدة من أكبر المغامرات في التاريخ الروائي، حروب ضد العمالقة التي هي في حقيقتها طواحين هواء، وضد الجيوش المسحورة التي هي أغنام، وتقديم فروض الطاعة لأميرات هن بائعات هوى، وإنقاذ لفرسان هم في الأصل مجرمون، وهكذا تمضي ثنائية «الوهم والحقيقة» دون توقف، وتتحول كل هزيمة ساحقة من وجهة نظره إلى انتصار مؤزر كما يحدث في عالمنا الثالث ويتلقى (دون كيشوت) من الضربات أكثر مما يوجه من طعنات، ويمتلئ جسده بالجروح البالغة، ولكنه لا يموت، على الرغم من جسمه الواهن، وعظامه الهشة وعمره المتأخر. إن روحه الكبيرة تعوض كل نقاط الضعف هذه، إنه أشبه بشخصيات أفلام الكارتون التي لا تموت مهما تعرضت لحوادث أوانفجارات، ومن المؤكد أنها أخذت عن فارسنا هذا التقليد. سخرية من الفرسان نشر سرفانتيس الجزء الأول من (دونكيشوت)، عام 1605، ولم ينشر الجزء الثاني إلا قبل وفاته بقليل في عام 1616، يقول سرفانتس إنه قد كتب هذه القصة ليسخر من عصر الفرسان، ومن الروايات التقليدية، التي كان الناس يدمنون على قراءتها في عصره، ولكنه في واقع الأمر كان يحاول اكتشاف الفارس النبيل في داخله، الفارس الذي أرغمته الأقدار على العيش داخل جلد رجل وضيع، محاصر بالديون والاتهامات، كان كاتباً عبقرياً خذله عصره، فلم يوهب له من الحياة إلا هامش ضئيل، وكان عليه أن يعلو على هذا الهامش حتى يكتشف الأفق المترامي خلفه، ولم يكن أمامه إلا القلم والورق، لقد عاش مطارداً من جرائم ارتكبها، وأخرى لم يرتكبها، وكان في حاجة إلى العدل، وليس أفضل من فارس شاكي السلاح يرسي هذا العدل في رحلة لا تنتهي. انتقد ثربانتس كل عصره، وربما العصور التي سبقته، هاجم القوانين السائدة، وقساوسة محاكم التفتيش المتعصبين، والكتاب الذين يدعون الحكمة، بينما يسطون على كتب القدماء، والحكام المحليين الغارقين في الفساد، والأدعياء والمتملقين الذين جعلوا من أصحاب الموهبة الحقيقية مثله في حضيض السلم الاجتماعي. باختصار كتب عن الفارس الذي كان يأمل أن يكونه ولكنه لم يستطع، ولأن الموهبة غلّابة كما يقولون، فقد تمرد (دون كيشوت) على كاتبه، واكتسب حياته الخاصة، لم يعد قناعاً يختفي المؤلف خلفه، ولكنه كائن حقيقي يواجه الكون كما يجدر به، مشكلته أنه خرج للعالم الحقيقي بعد طول احتجاب، دون مرجعية يستعين بها، فاختلط أمامه الخير بالشر، والوهم بالحقيقة. تعميم السخرية تعتبر «دون كيشوت» الرواية الأم التي أسست لفن الرواية الحديثة في العالم أجمع، وضع سرفانتس إحدى السمات الأساسية لفن الرواية، وهي التي سيحتفي بها ويحافظ عليها كل الروائيين من بعده، من جوجول إلى ديكنز، ومن ماركيز إلى كونديرا، ألا السخرية باعتبارها إحدى الطبائع البشرية، بل إن أعمال ديستوفسكي، أستاذ عموم التشاؤم، لم تكن تخلو من هذه السخرية السوداء.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©