السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرّاقص على الحبل

الرّاقص على الحبل
19 أغسطس 2015 22:12
«إنّ من يكتب شعراً إنّما يرقص على الحبل، إنّه يمشي ويبتسم ويلقي التحيّة، وقد لا يبدو ذلك مدهشاً حتّى ندرك أنّ ذلك الإنسان المسرف في بساطته وطمأنينته يفعل ذلك فوق حبل بسمك إصبع اليد». بول فاليري يمشي الشّاعر على الأرض على هذه الأرض معاشه، طبيعته، أفقه ومقامه، على هذه الأرض زمنه المؤقّت، وفيها يلتقي ببني جنسه. عابر سبيل مترحّل، ومهرّب دائم العبور للحدود، فهو عالق دونما إرادة منه بين الولادة والموت، ولا حريّة حقيقيّة له في تطوافه، الذي يبقى فيه منتهبا بالطّارئ الذي يدفع به إلى الحدود القصيّة. سواء أكان متجوّلاً أو متسكّعاً، راجلاً أو فلاّحاً في باريس، فإنّ الشّاعر هو ذلك الإنسان الذي لا ينفكّ يمشي في دروب الحياة، كما في أروقة اللّغة، وهو يتساءل عن أصله ومنشئه، مردّداً «يكفي أن أظلّ ماشياً»، إنّه يدرك أنّه سيموت ولا يتوقّف عن تجهيز حقائبه. فالشّعر هو قضيّة أرجل وخطوات مدروسة، وروابط مطّاطيّة وحذاء مجروح. يمشي الشّاعر على رأسه هذا الكائن الفاني والعابر المؤقّت، يبقى بصره موهوباً دوماً للسّماء، ينتهبه قلق مستفحل، خيال ورؤى راسخة، أحلام يقظة تتباطأ وتساؤلات بلا انتهاء. إنّه يفكّر في شيء آخر، ويمشي على رأسه هاذياً، فينتابنا أحياناً الإحساس بأنّه قد فقد صوابه، خصوصاً متى أنصتنا إليه وهو يحدّث نفسه، أو حين يدخل في حوار مع الحيوانات والنّباتات والجمادات، أو الكائنات المنقرضة، أو عندما «بأناة الغافلة يرتاد المناطق الغريبة وغير المألوفة» (بول سيلان). إنّه يسير نحو المجهول منجذبا إلى ما هو غريب و عصيّ على الإدراك، تغذّي سيره أسرار مبهمة وملغّزة. «من يمشي على رأسه يقف في الحقيقة، ومن تحته، على هوّة السّماء»، بل لنقل إنّ الأرض تنفلت من تحت قدميه، أو أنّه يتّكئ على حافّة الفراغ، فالشّاعر هو ذلك الإنسان الذي يتّخذ من السّماء أرضاً له، ويلتفت ليقلّب الفضاء، منجذبا بقوّة إلى أفق اللاّمنتهي، وتأتي أسئلته لتصطدم بهذا اللاّمنتهي كما لو أنّها تصطدم بأبواب موصدة صمّاء. وفيما يمضي وهو يكسح على الأرض وعلى رأسه، تمنعه أجنحته الضّخمة من المشي، وتتلكّأ أرجله. لن يكون إلهاً أبداً، وهو ليس إنساناً بعد، فيتسكّع على الضفّتين، يمشي جيئة وذهاباً، ليكون أكثر تعثّراً متى انفلت عنه الإلهي. وأرجل بودلير ليست بأرجل فكتور هوغو، وأرجل فرلين لم تعد هي أرجل رونسار، ودون ذلك رجل آخيل الحقيقيّة أو الرّجل المجنّحة للإله مركور (عطارد) وهو يطير بين الأرض والسّماء.. ومن شاعر إلى آخر يستفحل هذا التعثّر. يمشي الشّاعر على يديه بيديه يتقدّم الشّاعر داخل اللّغة، عندما يخطّ الورقة فيسمع لهذا الخطّ صرير.. كذلك هي الكتابة. بم تمسك اليد التي تخطّ أسطراً غير أسطر أخرى تحمل نبض الحياة.. نبض القلب.. وما ترى الشّاعر يفعل وهو يكتب غير أنّه يودع في سديم البياض تلك الخطوط، ليذيّلها بإمضائه مفصحاً عن هويّته، إنّها خطوط قدره وسيرة حياته، خطوط.. مصير الكلمة فيها أن تكون موهوبة للآخر. لقد كتب بول سيلان «إنّي لا أرى فرقاً بين القصيد والمصافحة بالأيدي»، فماذا يعني أن نقرأ قصيداً، سوى أن نرى خطوط حياتنا وهي مرتجفة، تتقاطع مع خطوط حياة الآخرين، حاملة نبض الحياة.. نبض القلب، وأنتشي بقدر هو مصيرنا جميعاً، أن تكون كحركة تتشابك فيها راحتا الأيدي، فتنطبع الواحدة منها في الأخرى لتبثّ كلّ منها في الأخرى قدراً ما من الدّفء، إنّها لحظة تواصل وتقاسم لمصير مشترك.. أوحد، تلك هي القراءة طالما أنّ الشّاعر يتحدّث في «زاوية ميلان وجوده»، ميلان ما هو ذاتيّ نحو الآخرين، ميلان يحمله الكلّ بداخله، ويكون الشّاعر فيه مدعوّاً إلى إطلاقه خارجا عنه. ولا يكون الشّاعر ولا قصيده موجهاً إلى طرف محدّد، وإنّما يستهدف «يدا أحد».. يدي أيّ كان، فكما الزّجاجة التي يلقي بها في عرض البحر، يكون القصيد موجها لكلّ من يكون قادراً على العثور عليه. وبشكل ما فإنّ الشّاعر المتجوّل يتوجّه إلى مخاطب مجهول، إلى منشد آخر الذي هو قارئه، متى اكتشف هذا الأخير كلمات الشّاعر فاحتضنها، واحتفى بها وتمثّلها، ليتملّك بدوره تلك الكلمات العجائبيّة والتنبّؤيّة التي تنتظر أن يتمّ اكتشافها كي تنبض وتعيش. خطوة البهلوان إنّ هذا الإنسان الذي يمشي على الأرض، وعلى رأسه ويديه، تنطوي فيه صفات البهلوان، برجليه ويديه يحاول أن يسلك طريقا مستقيما، ويجرؤ بشقّ رجليه على ملامسة الأرض والسّماء في آن، يكسح متعثّرا تعثّر كلماته الشّعريّة. وإنّ حقيقة الشّعر لرهينة هذا المشي الثّلاثيّ الأبعاد: المشي على الأرض، المشي على الرّأس، والمشي على الأيدي، أي أن نمشي، أن نفكّر وأن يصبح لدينا اصطرلاب و وجهة. كالبهلوان، يتقدّم الشّاعر فوق الحبل وهو يزن خطاه، ويرتهن وجوده لخيط رفيع، خيط الأسطر التي تخطّها يده، والتي تصبح صفحة بعد أخرى بكرة خيطان حياته، إنّه يرقص فوق أكاليل الزّهر والسّلاسل الذّهبيّة التي مدّها بين الشّبابيك أو بين الكواكب بمهارة العارف بأسرار العلوّ المؤقّت والنّسبي، متحرّراً بشكل ما من سطوة الجاذبيّة. إنّ هذا الرّاقص ليس عصفوراً، فهو يدرك ثقل جسده، لا يطير في الأجواء، ولكنّه يحاول أن يمشي فيها، أن يوقّع خطاه هناك في السّماء، وهو هنا على الأرض. ويصل هذا المهرّب العوالم ببعضها البعض بتجميع الاستعارات. كما يستفزّ عابر السّبيل هذا المجازفة التي يستدعيها كلّ ما هو محدود في هذا العالم، ويقامر في سبيل ذلك بكلّ شيء. محبط ومعاقب لإسرافه في حلم مستحيل، قد تعثر عليه معلّقاً في حبل كتابته كما لو أنّه يتدلّى في حبل مشنقة وهو يطلق نغمة نشاز أخيرة، مخذولا من الآلهة ومهجوراً من النّاس. وما عسى أن تكون القصيدة إن لم تكن قضيّة خيوط وغزل بكلمات مجتثّة من الذّات: يتقاطع الخيط الأفقي للأبيات الشّعريّة مع الخيط العمودي للقافية، فيمثّل البيت الشّعري حركة الدّفع أو الجملة في خلوتها، بينما تمثّل القافية حركة العودة، حركة المكوك الطّائر: عقدة الهويّة. ويترجم القصيد في شكله عن حمّى الاستهلال والرّغبة في الطّيران وعن أصل الواقع الذي ينبغي أن يتعامل معه هذا الحلم، إلى أن يولد شيء ما، راقص ومفكّر، يوشّي ويلملم، يصل ويرصد بالضّبط لحظة التّوق وما يعتريها من نقص. وإذا كان القدر هو هذا النّهر الذي يرغم الجميع على السّير بمحاذاته، فإنّ القصيد بسير بمحاذاة الماء الجاري لهذا النّهر ليقطعه ويقيم فوقه جسراً. منحنيا فوق جسر ميرابو، على أهبة الارتماء في مياه هذا النّهر، فإنّ الرّاقص على الحبل يحدّق في السّماء المنعكسة على صفحته، والتي تتبدى من تحته كهوّة سحيقة، إنّه يحدق في ما يتعذّر بلوغه، في ذلك الذي ينعكس في مياه النّهر فيتلاشى ويلفظ أنفاسه. ترجمة - أحمد حميدة جان ميشال مولبوا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©