الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأقربون أولى يا أختي!

الأقربون أولى يا أختي!
18 نوفمبر 2010 20:44
رغم أنني أكبر أخواتي فإنني لا أتذكر ملامح أمي فقد توفيت ونحن لم نصل إلى مرحلة الإدراك بعد، فانا على ما اعتقد أو كما اخبرني الكبار كنت في الرابعة من عمري وأختي الوسطى في الثانية، أما الصغرى فقد كانت رضيعة حديثة الولادة، جميعنا لم نعرف في حياتنا مرحلة اسمها الطفولة، فوالدنا رجل بسيط، معدوم الإمكانات، الفقر يلفنا من كل جانب، ومن أعلى ومن اسفل، يحاصرنا ويكاد يطبق على رقابنا، لا نعرف فرقا بين الشتاء والصيف في الملابس، وتزوج أبي بعد وفاة أمي بعدة أسابيع بحجة تربيتنا لأننا صغيرات ونحتاج إلى من ترعانا وتكون بجانبنا في البيت، ولا ادري حينها أن كان ذلك صحيحا أم مجرد حجة كي لا يلومه الناس على الزواج بهذه السرعة غير المعهودة. جدتي لأمي أخذت أختي الوسطى لكي تتولى تربيتها تخفيفا عن كاهل أبي، فهي تعيش في المدينة مع أخوالي، هاجروا منذ سنوات طويلة فرارا من الفقر، ووجدوا أعمالا هناك وتحسنت ظروفهم لكنهم لم يصلوا إلى مرحلة الثراء. بقيت أنا وأختي الصغرى في الشقاء والمعاناة، لا ندري إن كانت زوجة أبي قاسية أم أن كل النساء والحياة هكذا، فلم نعرف يوما حلوا ولا حدثا سارا، خرجنا للعمل في الحقول عند أصحاب الأرض، وما كان يهون علينا أن كثيرات مثلنا يعشن هذه الأحوال ولا تزعجنا الفروق الطبقية ولم يسبق لنا ان فكرنا فيها، كأن ذلك هو الوضع الطبيعي ولا اعتراض عليه. مات أبي هو الآخر بعد أن انجب ولدا من زوجته الثانية، رحل وتركنا لقمة سائغة للفقر المدقع، تقلبنا الأيام يمينا ويسارا، حفاة ولا نشتري الجديد من الثياب إلا إذا بليت التي عندنا تماما ولم تعد صالحة بالمرة وما كانت أبدا تزيد عن اثنتين، وأخي وامه ليسا أحسن حالا منا فقد كانا مثلي انا واختي في هذه المعاناة، وأصبحت المسؤولية كلها ملقاة على كاهلي فانا اكبر اخوتي وزوجة ابي ليس هناك عمل يناسبها لتساهم في تلبية احتياجات الأسرة. سارت بنا الحياة على وتيرة قسوتها سنوات طوالا خلال الطفولة والصبا والشباب، ولأننا ليس لدينا ما يغري من مال ولا جمال ولا حسب ولا نسب لم نكن مثل قريناتنا اللاتي تزوجن وانجبن منذ أعوام، لم يعرف الرجال طريقهم إلينا ولم يتقدم إلا واحد طالبا يد أختي ليس أحسن حالا منا بل هو في الفقر غارق من منبت رأسه الى اخمص قدميه، لا يملك من حطام الدنيا اقل القليل، ومع هذا لم يكن أمامنا إلا الموافقة، يكفي أن نتخفف من واحدة ولتذهب الى بيت زوج يتحمل نفقاتها، حتى وان لم يكن هناك أي تغير أو تحسن في حياتها، انه مجرد تغيير للمكان، وان لم أكن قادرة على مساعدتهما فيما بعد إلا أنني احمل همهما على رأسي، وتثقل الأفكار كاهلي، وما باليد حيلة. أصبح أخي صبيا يافعا يستطيع الآن أن يتحمل مسؤولية نفسه وامه، وجاءني من يطلب يدي وقد شارفت على الثلاثين من عمري، لم يكن حظي في الزواج افضل من أختي فمن تقدم لي هو الآخر على نفس شاكلتنا، ومن اين لنا بأفضل من ذلك؟ يكفي أننا وجدنا من يطلب يدنا ويريدنا ويطرق بابنا، ولم يكن هناك أي اختلاف في المعيشة إلا أنني أصبحت مسؤولة عن أسرة أخرى خاصة وان زوجي من النوع السلبي الذي لا يهتم بأي شيء من أمور البيت، كسول يعشق النوم والراحة، غريب في كل صفاته ولم أكن أعرف هذا قبل الزواج، وليس أمامي أي اختيار لتصحيح هذا الوضع خاصة وقد اصبح بيننا طفل لا ذنب له كي ينشأ يتيما، واذا طلبت الطلاق فمن المؤكد انه لن يطرق بابي احد غيره وليس في الإمكان افضل مما كان ويجب أن أتحمل. لم تتركني الأيام فيما أنا فيه وتوالت المصائب تباعا تهوي على أم رأسي واحدة تلو الاخرى واحيانا مجتمعة، اولها أصيبت أختي بمرض لا اعرف اسمه وترددت بها على المشافي المجانية والرخيصة التكاليف حسب إمكاناتي المحدودة أو المعدومة، وكان القدر رحيما بي وبها وانتقلت إلى الرفيق الأعلى، لكنها تركت لي طفلا صغيرا ألقاه لي أبوه لأقوم بتربيته فانا الوحيدة التي يجب أن تتحمل هذه المهمة الثقيلة ولن يجد الصغير وهو في هذه السن واحدة غيري، ومن هذه المصائب العظمى وفاة زوجي هو الآخر وان لم يكن لوجوده اثر، وحضوره مثل غيابه إلا أنني شعرت بفراغ كبير وتأكدت من أن ظل رجل مهما كان افضل من ظل الحائط ولو كان ظليلا، وازدادت اعبائي بما لا اطيق، لكن ما من مفر ولا مخرج. إلى هنا والأمر رغم كل ذلك قد يكون عاديا الا أن ظهور اختي الوسطى في حياتي من جديد هو الذي خلق مشكلة حقيقية وهذا يضطرني لان أعود إلى الماضي عدة سنوات لاذكر لكم ماذا حدث معها بعدما أخذتها جدتي إلى المدينة لتقيم معها، فالصلة بيني وبين أختي وجدتي واخوالي قد انقطعت تماما، والمسافة بيننا مئات الكيلومترات وأنا من جانبي لا اعرف المكان الذي يقيمون فيه وهم انشغلوا بحياتهم ولم يتذكروا يوما أن لهم أحدا تربطه بهم صلة رحم، ونشأت أختي بينهم وتحملوا نفقات تربيتها وتعليمها ويكفي أنها الوحيدة من بيننا التي تعلمت وقد حصلت على مؤهل متوسط ووجدت من يتقدم لها وهو أحسن حالا منا ومنها، فهو شاب ابن عائلة ميسورة الحال حاصل على مؤهل عال والتحق فور تخرجة بوظيفة جيدة، وساهمت جدتي وأخوالي في تكاليف أثاث اختي بما يتناسب مع إمكاناتهم وان كان الرجل لم يطلب منهم شيئا، وبقدر ما كانت الأيام قاسية علينا كانت رحيمة بأختنا فقد وجد زوجها فرصة عمل جيدة في دولة أوروبية حيث يتقاضى راتبه بالعملة الصعبة، لا اعرف كم عدد السنوات التي قضياها في الغربة، لكن ما تناهى الى مسامعي على فترات متباعدة من اخبارهما بعد ذلك انهما رزقا بثلاثة أطفال بنتان وولد، واصبحا من علية القوم وهبطت عليهما ثروة لا يعرفان حدودها وأصبحت أختي وزوجها وأولادهما يملكون متاجر مشهورة لا استطيع من فرط جهلي أن انطق اسمها لانه اجنبي، بجانب مجمعات مدارس خاصة مصروفاتها بالعملات الصعبة، ويقيمون في قصر يحيطه الحراس ويكتظ بالخدم، وأنا وأختي هذه نتشابه كأننا توأم. ورغم القطيعة الإجبارية التي بيننا فأنني عرفتها فورا عندما رأيتها في التلفاز وهي تتحدث في الدين وصلة الرحم وقد استضافوها في احدى القنوات الدينية المتخصصة، بل كان التصوير في بيتها، آسفة اقصد في قصرها الذي لم تصل الكاميرا إلى منتهاه، جلست أشاهدها كأنني انظر إلى نفسي في المرآة، قد لا تصدقون انني لم أجد فارقا بيني وبينها أبدا في طريقة الحديث وحركات الأيدي والعيون، لم يكن الفرق إلا في الملابس والمجوهرات التي كانت تتحلى بها في يديها ورقبتها، تدرون عن ماذا كان الحوار؟ إن اختي قد فقدت هي الأخرى ابنتها الكبرى وكما قالت إنها تملك من الأموال ما لا يعد ولا يحصى ومن الشركات والمصانع الكثير، وان ابنتها الكبرى أصيبت بمرض غريب لم يستطع الأطباء التوصل الى علاجه وسخرت كل امكاناتها من اجل علاجها وطارت بها الى اوروبا وحجزت في اكبر مستشفى مشهور ووضعت كل ما تملك بين ايدي الأطباء، ورغم ذلك لم تستطع أن تشتري الشفاء بالمال وأيقنت أن هذا بيد الله وحده سبحانه وتعالى وأنها تعلمت الدرس وقررت أن تتبرع بمئات الألوف لبناء دار للأيتام والمسنين تتقرب بها الى الله، وقد أعلنت ذلك وهي تتحدث في نفس البرنامج، كنت اسمعها وأنا أغالب دموعي حزنا على ابنتها التي لا اعرفها ولم ارها من قبل إلا انهم عرضوا صورتها على الشاشة أثناء حديث أمها عنها، والسبب الثاني الذي جعلني ابكي أيضا بحرقة هو أن اختي التي كانت تتحدث وتعظ المشاهدين وتكرر الآيات والأحاديث لتبدو متدينة لم تتذكر يوما أن لها شقيقتين وأخا وان احداهما ماتت دون أن تراها ولو مرة في حياتها والثانية التي هي أنا في عداد الموتى لأنني أعيش على هامش الحياة، فها أنا قد تخطيت الخمسين ولم يكن لي من عطف أختي نصيب وهي تتحدث عن صلة الرحم. وفي مرة اخرى وعلى نفس القناة الفضائية شاهدت اختي بجانب بعض الوزراء وهي تضع حجر الأساس لمشروعها الذي أعلنت عنه من قبل وهو دار رعاية الأيتام والمسنين، فقد أصبحت من علية القوم ونجوم المجتمع ويشار إليها بالبنان وهي تساهم في المشروعات الخيرية. والمشكلة الآن أن كل من حولي يهمسون في أذني متعجبين متسائلين كيف تكون أختي في هذه السعة والترف ولا تمد لي يد المساعدة وأنا أولى من كل هؤلاء؟ يريدون مني ان اذكرها بنا وان اطلب منها المساعدة، يدفعونني دفعا لذلك، هذه هي المشكلة التي ظهرت على حين غرة واقتحمت حياتي، لأنني لم ولن افعل ما يريدون، وتجرحني تعليقاتهم وغير قادرة على إغلاق هذا الباب الذي جاءت منه الرياح العاتية والعواصف التي هبت على حياتي.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©