الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

السينما في حدودها المستحيلة

السينما في حدودها المستحيلة
4 ديسمبر 2018 00:58

إبراهيم الملا (الشارقة)

قد تكون غريزة البحث عن الجمال هي المحرك الأساس للفنون المعاصرة ضمن ارتباطاتها بأسئلة لا تنتظر وعداً ولا خلاصاً، فهذا التأرجح القلق بين العابر والخالد وبين الطوباوي والأرضي يجعلها فنوناً ساطعة رغم سوداوية طرحها أحياناً، والبحث عن الجمال عند المهجوسين بالفن وإنتاجه، مرهون بفاعلية الخروج عن أسر الأشكال التقليدية التي توقفت عند حدود زمنها وظروف توليفها، ولم تعد صالحة بالتالي سوى لأرشيف الباحثين والمنقبين في الذاكرة المعطّلة، والوقائع المنسية.
هذا التوق إلى الجمال لا يمكن تسريبه إلى الشكل الفني في غياب الأدوات المعنية بنحت الشكل وتخليقه وإيوائه.
إننا نتحدث هنا عن الإتقان في مطلب التشكيل المفارق هذا، حتى لا يتحول المعطى الإبداعي إلى هوس لحظي، يدمّر خلاصاته ذاتياً، دون أن يترجم نفسه إلى عمل خلّاق ومستدام واستثنائي.
يفقد المنتج الإبداعي حمولاته الجمالية عندما يستسلم لإملاءات الفكرة والحماسة الطارئة لتنفيذها دون قوائم ودعائم وتصورات ذهنية سابقة تسندها وتعينها وتنقلها من سديم التخيّل إلى الشروع في الفعل.
استفادت الأعمال الإبداعية المؤثرة والحقيقية من المنابع الرؤيوية الرافدة لها، كي لا تصبح مجرد رايات ممزقة في الريح، إنها الأعمال التي تكتسب ألقها وبريقها من رهانها القوي على الانبعاث والتجدّد عبر الزمن.
ولا تخلو السينما بأشكالها التخليقية المتعددة كما في الأفلام الروائية والتسجيلية والتجريبية من هذا الإصرار على الولادات المبتكرة، والقراءات المتجددة للوجود وللذات وللآخر، يحدث هذا رغم الانقطاعات الزمنية واختلاف الأجيال، فأفلام مثل: «المدرعة بوتمكين»، و«أوديسا الفضاء»، و«المواطن كين»، و«ذهب مع الريح»، و«القيامة الآن» وغيرها من النتاجات المضيئة بصرياً وروحياً، إنما هي أفلام مصاغة ومستندة إلى إرث فلسفي وجمالي عميق ومتشعب، هو من الثقل والتراكم، حيث إن مجرّد عرضها كأفلام مستعادة سيكون حدثاً يجدّد ذاته بذاته، كما أنها أفلام تحظى بامتياز خاص، لكونها أفلام ذاكرة ممتدة ومتدفقة وتتنفس حضورها عند كل عرض جديد يجمعها بالجمهور، بعيداً عن عتمة وضيق التابوت الأرشيفي، تعرض هذه الأفلام وشبيهاتها منجزات بصرية لا تقل بأي حال عن المنجزات العلمية والمعرفية التي صنعت حدثاً فارقاً في التاريخ.


تمتلك السينما رغم استقلاليتها أدوات وأذرعاً موصولة بمعظم الفنون التعبيرية الأخرى، وهي على تماسّ دائم مع التحولات الإنسانية كافة على النطاقين الفردي والجماعي.
تكمن ميزة السرد البصري للسينما في الصورة المكتنزة والمكثفة للجمال في مستوياته المستحيلة والأخرى المبثوثة في الواقع، والتي لا يمكن اقتناصها إلا من خلال هذا الوسيط السحري، المتمثل في الكاميرا السينمائية باعتبارها أداة تختزن وعياً وقابليات وطاقات تتجاوز ما تختزنه الوسائل التعبيرية الأخرى.
تظل الكاميرا السينمائية منشغلة بإغواء الإمكانات العصية على الترويض، واستدراج المناظر المهددة بالتلاشي، وبالتالي فهي تعمل على مزج الخيالي والواقعي في مختبر هائل من الاقتراحات والنقاشات التي يثيرها فريق العمل السينمائي.
إن حياد الصورة السينمائية مبعثه تحققها كمنجز بصري صرف ومبتعد عن كل ما يمكنه التقليل من فرادتها ونقائها، فاستناد الصورة السينمائية إلى الموسيقا، والحوار الخارجي (الديالوج)، والداخلي (المونولوج)، وكذلك على تقنيات الصوت والغرافيك وما شابه، إنما هو استناد مؤقت واعتباري، فرفاهية الصورة السينمائية تظل رفاهية قشور وزوائد.
إن الإخلاص للصورة هو هدف أساس للمخرج، لأنها بنت رؤية وإمعان وتفكّر، والصورة المفتقرة لمرجعية ثقافية صلبة، تظل صورة لقيطة لا أكثر، وهي أقرب للمحو والانطفاء والضبابية، منها إلى التأثير والتواصل والتحليل، إن الصورة التي لا تلامس أرواحنا، وعمق انفعالاتنا، هي صورة زائفة وخائنة لذاتها، وهي مدانة ومتهمة بترويع وانتهاك ذائقتنا البصرية والجمالية التي توطد علاقتنا بالحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©