الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في شقة إحدى الأمواج

في شقة إحدى الأمواج
17 نوفمبر 2010 19:34
“وكانت السفينة”... (..وكانت السفينة لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً...) ...ثم أتت بعد ذلك عاصفة وحملت السفينة حملتها على الماء المبتهج وحملتها تحت السماء المباركة قبالة الشاطئ الذي تحنو عليه نخيل جوز الهند كالأمهات، وتسكنُ في شرفات راياته الفتيات وقد تفتحن عن الصدور... (.. وكانت السفينة لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً...) فحملت تلك العاصفة السفينة حملتها طويلاً، حتى ظهر لنا الميناء الميت، وظهر لنا الميناء الذي يحبُّ الغربان ويكره الغرباء، وظهر لنا الميناء الذي عاش فيه المهاجرون كالسبايا، واقتسم مراكبه القراصنة والعاهرات... (.. وكانت السفينة لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً...) ... ثم ظهر لنا الميناء الذي لا لبس عليه، وظهر لنا الميناء الذي ارتدى الليل ومشى على شوارع النهار، وظهر لنا الميناء الذي كره التغير فمات من الجفاف، وظهر لنا الميناء الذي تغيَّر حتى تحوّل إلى برجٍ، كما وظهر لنا الميناء الذي غرَّر بالسفن وقادها إلى الإفلاس، فباعت الأشرعة على البيوت والمجاديف على الحانات والبحر على الحكومة... (.. وكانت السفينة لمساكين يعملون في البحر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً...) ... ثم جاءت عاصفة أخرى وحملت تلك السفينة حتي ظهر لنا الميناء الذي تبدو الحياة عليه... ظهر لنا ميناء الرجاء، وميناء الرغبة مدفونة مع المراسي...، فأنزلنا قلوعنا عند الفجر في ذلك الميناء... (.. وكانت السفينة..) “أنا والموجة العرجاء” ... أنزلنا قلوعنا عند الفجر في ذلك الميناء وخرجنا أنا وموجة عرجاء من السفينة إلى السوق... مهرِّجو الخليقة يقدمون لنا عرض القيامة، وغانيات الميناء يُغنين أهازيج العودة.... ورأينا البضائع المقلّدة تُباع كالذهب، وشوارع من الأقمشة الملونة، ودكاكين لا حصر لها، ومجانين يحملون على رؤويهم جثث الطيور الضخمة، ومتسولين يتضاءلون تحت شموع التماثيل، ومادة كالضفادع ومادة كالثعالب ومادة كالغزلان... ورأينا الدكاكين التي تباع فيها الحياة بالقناني والهواء بالعلب، ورأينا توابيت الغرقى متدلية من سقوف دكاكين الموت وهي تنتظر المحتاج والحاج والرحّالة التائه... تنتظرُ البحارة الذين ذابت عيونهم من ملح الانتظار، تنتظرُ الانتظار... أنا أخذني السوق، وكدتُ أعطي رأسي لساحر يخرجُ منه الحمامة إياها، ولكني حين انتبهت وجدت الموجة العرجاء قد تركتني وضاعت فهرولت أبحثُ عنها في أزقة الباعة ودروب الحمقى والمشترين، حتى وجدتها تائهة بين الأقمشة فأمسكتُ بها وربطتها بحبال قلبي، كلما اختفتْ عن العين أسوقُ عليها الظلام، وكلما هربتْ إلى مرآةٍ أبحث عنها بالأظافر، ولكن الظلام أقعدني عن المسير وخانتني الأظافر، وكدت أوشك على الضياع في مجرد كأس، أو في الصحراء المترامية تحت ثيابي، أو في بحر جمجمتي الهائج كدتُ أضيع في الهواء المفتوح على القبر، وحين خلتُ إلى أحد “البارات” لم يعرفنِ أحد، وحين صرخت لم تسمعن حتى القطط، من أنا؟ من أين جئت؟ وإلى أين أنا ذاهب؟... لا أعرف، هل ينبغي عليَّ أن أعرف، بل عليَّ اللعنة، وعلى هذا “البار”، والزبائن أجمعين.. “في شقة إحدى الأمواج” ... في الوقت الذي لفظتني فيه الجزيرة، كنت أعيشُ في شقة إحدى الأمواج... وكانت تلك الموجة تضعني على السرير كما يضعني الورود في المزهرية، أو كما تستقبل الأغصان الطير المُتعب.. كانت تضعني على السرير وتقيني من لصوص الأجنحة... تقيني من الأحجار التي قد تتساقط على رأسي، ومن الأخطار المهزومة التي ملأت بحيرة روحي بعد انهيار مراياي واستسلام جدراني... ذئاب لا حصر لها مرَّت على حملاني، وقتلة كانوا يأتون، لا أدري من أين، ويذبحون أمواجي ثم يتوارون في السراب، وكانت تلك الموجة التي أعيش في شقتها من إحدى ضحاياهم... ذُبحتْ موجتي أمام العالم، والكل شاهدٌ وبارد... ذُبحتْ موجتي، والآن أنا في الشارع أتذكرُ ذلك كما يتذكر الضعيف صفعة القوي، أو كما تتخيل الخفة الجبال... أتذكر ذلك كما تتذكر الحصاة التي تطفو على الماءِ، والبئر الذي عطش كالنوق وجاع كالكلاب، وكالسماء التي امتلأت حتى الازدحام بالآلهة والأحجار والطائرات والسحب والكواكب والهموم...، وكهذا الليل الذي سيأخذني عمَّا قريب إلى النوم.. أتذكر ذلك، بينما أمامي جسد المخيلة يدعوني لعبوره، بينما تناديني الوديان كي نركب سوية على الحصان نفسه، ونُهزمُ في المعركة نفسها، ونُقتلُ في الطريق إلى العودة “بحارٌ وقلادة” بلا هدفٍ عدتُ.. عدتُ بلا هدفٍ... وأخذتُ الجمهور إلى خضم ذاكرتي...، أخذتُ الجمهور من عيونهم وسرتُ معهم إلى مهرجان القبور، على كل قبرٍ أضع منشوراً صغيراً عن الرحلات السياحية إلى الجنة، ومعه هدية: قلادة بحَّار مات على التو. بحّار طازج (... ما زالت بعض الأمواج تتحرك في جثته)، والقلادة قوقعة كبيرة وفارغة تبكي فيها أمه التي تنتظره هناك على الساحل البعيد، وزوجته التي اشتاقت للحرث، وابنه الذي لم ير والده بعد، ويسمعُ عنه كما نسمع الآخرة. وبعد أن انتهى معهم من دفن البحَّار في أحد القبور المتوفرة هنا بكثرة، أهربُ عن هذه المجموعة من المشيعين والدافنين واللاطمين واللاطمات...، أهرب عن هذه المجموعة بالذات، وأركبُ باصاً إلى مركز المدينة، وعندما أصل أسكنُ في أقذر فندق يتحلى به، وأحتسي عرق الجدران وشحوب الطاولات، ورائحة عصائر الأسِرَّة... أحتسي الضجر، وتتهشم عظامي من الغربة والتجاهل، تتهشم الأمواج التي تكسو تلك العظام “من شجرة إلى أخرى” ... أو أنني لم أذهب.... رأيتني جالساً على فوهة الحريق في صحراء هذه الحانةِ، بعيدٌ عنِّي البحر، وبعيدة عنِّي السماء... تحومُ على رأسي طيور الخوف والقلق، ويتعب الكرسي من وضعي على “الكونتر”، يمتلئ “الكونتر” بكؤوسي الفارغة... هل لذلك لم أستطع القيام من على جمرة روحي، هل لذلك لم...؟، وهل لذلك ظللتُ جالساً في الوهمِ حتى أتت الطيور على آخر بذوري؟.... الطيورُ التي وجدتْ نفسها بعد ذلك تحملُ الصخور من شجرة إلى أخرى، وتُغنِّي... “زيارة الحانة” ... أو ذهبت ولم أعد... بلا هدفٍ ذهبتُ، وبلا هدفٍ لم أعد.. لم أعد كي يستقر بي المستقبل، ويضحك الأمان في قلبي من الخارج... لم أعد كي أجلس، ولم أعد كي أقوم....، وعندما أزور الحانة أزورها من باب الوفاء، أو أزورها كي أجلس على “الكونتر” وتحتفل يدي بكأس “...” الباردة، تحتفلُ أعماقي بحرية الوصول إلى اللاشيء... وعندما تشتعلُ الحفلة في رأسي، افتحُ كيس رملي على الطاولات، فتتناثر نظراتي كآخر اللآلئ، تتناثر حياتي كموجة ذابت على موقد الساحل، تتناثر روحي كصرخة تحوَّلت إلى ضباب أحمد راشد ثاني a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©