الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هدايا الحداثة...

هدايا الحداثة...
17 نوفمبر 2010 19:32
“في تحولات المجتمع المغربي”، هو أحدث كتاب يصدره المفكر والفيلسوف المغربي المعروف الدكتور محمد سبيلا. كتاب قيّم وعميق يرصد فيه الدكتور سبيلا تحولات المجمع المغربي ويتابع من خلاله مشروعه الفكري الذي بدأه منذ عقود عدة بعدد كبير من المؤلفات التي تضيء المكتبة المغربية والعربية. ويضم كتاب “في تحولات المجتمع المغربي” (145 صفحة)، والصادر عن دار توبقال للنشر ضمن سلسلة “المعرفة الفلسفية”، جملة مداخلات “قدمت كلها في ندوات أو لقاءات ثقافية أو سياسية تم تنظيمها حول هذه الموضوعات نفسها سواء على الصعيد المغربي أو العربية أو في ملتقيات دولية ذات صبغة رسمية، وهو ما جعل هذه المداخلات تحمل سمات وبصمات المناسبة. كل هذه المداخلات التي كانت متناثرة في الجرائد والمجلات وكتب الجيب الدورية قد تم تجميعها بين دفتي هذا الكتاب، وهي مداخلات تدور أولا حول المغرب مجتمعا أو دولة أو فئات اجتماعية من خلال عدة مستويات سياسية واجتماعية وثقافية، وثانيا كما يقول سبيلا، “إن الخيط الناظم لها والإشكالية المحورية التي تدور حولها هي إشكالية التحديث: تحديث الدولة أو التحديث السياسي، التحديث التقني، التحديث الاجتماعي والثقافي (الهوية، المدرسة، القيم، الفلسفة الفكر...). وثالثا إنها ترصد عملية التحديث من وجهها الدينامي المتعلق بالتحولات ومفعولاتها والصراع الضمني فيها بين التقليد والتحديث، مع الاهتمام بدور النخب في تكييف هذه التحولات. أملا أن تساهم هذه التأملات في إثارة وتعميق التفكير في التحولات العميقة التي يستهدفها مجتمعنا في مختلف مستوياته منذ انخراطه منذ مطلع القرن الماضي في دينامية الحداثة الكونية”. وقد عمد الدكتور سبيلا في مؤلفه هذا إلى الربط بين الفكر المغربي والأفكار والآراء الفلسفية والسوسيولوجية الوافدة من الغرب وخاصة من فرنسا، على اعتبار أن فرنسا جارة المغرب قبل أن تكون إحدى الدول المستَعمِرة. يرى الدكتور سبيلا أن العالم يشهد تحولات نوعية على كافة المستويات. وبخاصة منها ما يتعلق بآثار الثورة المعرفية في العلم والتكنولوجيا. وهذه التحولات تتواتر بسرعة مذهلة بالإضافة إلى جدتها النوعية المطلقة في تغيير صورة العالم وتعديل علاقة الإنسان بالطبيعة وبذاته. المجالات التي حقق فيها التقدم طفرات نوعية كبرى هي تكنولوجيات المادة الصغرى (الذرة والتحول الكيميائي لمختلف المواد...) والكبرى (فحص مكونات الامتداد اللانهائي للكون والسياحة الفضائية...) وتكنولوجيات الحياة القاصدة لا فقط إلى فهم مكونات هذه المادة بل إلى التحكم في الجينوم والتدخل في هندسة الحياة نفسها مثلما تعبر عن ذلك تجارب الاستنساخ وكذا التكنولوجيات الحربية الرهيبة (القنابل العنقودية والطائرة الشبح...)”. بلبلة في القيم لكن الأخطر من ذلك، يقول الدكتور سبيلا، “بالنسبة لأي نظام تعليمي، أو أي نظام معرفي هو التحولات النوعية الحاصلة في تكنولوجيات المعرفة والذكاء والإعلام والتواصل، وهي التحولات التي تضع بعنفها، وبسرعتها وبجدتها، المدرسة في سياق تحد محرج، بل إن التحولات في وسائل المعرفة، وفي خريطتها، وفي كيفية توزيعها وتداولها، وفي سرعة تطور مضامينها تدخل في نوع من التعارض مع المدرسة كمؤسسة معرفية قارة، رتيبة التطور، وميالة إلى ترسيخ صور ومضامين معرفية قارة، مصاغة في إطار ثقافي غائي محدد. لم تقتصر هذه التحولات على توجيه تحد قوي لمضامين المعرفة وأنماط تسويقها وسرعة تداولها، بل طالت وجود المدرسة نفسها مما أنهى احتكار المدرسة للعملية التعليمية، وجعلها ممكنة في البيت أو في المؤسسة الإنتاجية ذاتها عبر الوسائط الإعلامية المختلفة. ويعتبر التلفزيون هو المنافس الأول والخطير للمدرسة خاصة وأن الطفل أو التلميذ يقضي الساعات يوميا في مشاهدة برامج موسيقية أو ترفيهية أو مسلسلات. فقد أخذت الوسائط الإعلامية المختلفة تزود الفرد بثقافة أخرى هي ثقافة الصورة، وهي ثقافة تدخل في نوع من الصراع مع الثقافة المكتوبة التي تقوم المدرسة على أساسها. ومسرح هذا التعارض هو ذهن التلميذ الذي يجد نفسه ممزقا بين الثقافة الجماهيرية الاستهلاكية التي تزوده بها، بيسر، وبمتعة، وبإغراء وتلوين، وبانفتاح على ميادين واسعة في الحياة، الوسائط الإعلامية الكبرى للصورة، وبين ثقافة كلاسيكية في مضمونها وأدواتها، أي بثقافة قوامها المكتوب والكتاب”. وبرأي الدكتور سبيلا، فإن الوسائط الإعلامية والمعلوماتية الجديدة تدخل في بلبلة “في القيم والمعايير، والسلوكات. فهذه الثقافة الجماهيرية تهيئ التلميذ لثقافة جديدة قوامها ارتداء الجينز والتي شيرت، والأحذية الرياضية ذات العلامة المميزة، وقصات الشعر الجديدة، وموسيقى الديسكو وموضاتها المتجددة، والاقتداء بنجوم الغناء والرقص والموسيقى والرياضة، والتهام الوجبات السريعة، والمشروبات الغازية... مكتسحة مخيلة الشباب والتلاميذ خاصة عبر صور نمطية جديدة هي التي تحدد له هويته وتميزه. وتقوم خلف هذه الأنماط السلوكية التي تنشرها وتروجها القنوات الفضائية المختلفة ثقافة قوامها الومضة، والسرعة، وأبدية اللحظة والإثارة، والاستهلاك، والمتعة واقتناص الفرص، واقتصاد الجهد في الحصول على النتائج، والتظاهر، وامتلاك القوة وجاذبية المال... هذه القيم السلوكية والخلقية والثقافية تدخل في تناقض مع عناصر ومقومات الثقافة التقليدية، ثقافة الصبر والجهد الطويل النفس، والعناء والتريث والنضج. عناصر الثقافة الجديدة كامنة في ثنايا الخطاب الإعلامي العصري لكنها قد تخرج من الإضمار إلى التصريح العلني. فعندما تعطي شركة الإعلانات التجارية للبطل الرياضي المشهور، لقاء إشهاره لحذاء رياضي، ما يوازي مجموع العاملين في مصانع إنتاج الحذاء فإنها تقلب رأسا على عقب قيم الشباب وطموحاتها ومعاييرهم والقيم التي تدور في رؤوسهم. فعل ذكوري يشير الدكتور سبيلا إلى أن الحداثة فعل ذكوري بامتياز لأن “المساهمات الأساسية في بناء الحداثة في صيغتها الكونية هي، على العموم، مساهمات ذكورية من طرف علماء ومستكفين وفلاسفة... ولكن الحداثة ـ التي هي فعل ذكوري إلى حد كبير ـ هي مع ذلك أكثر الأفعال الذكورية أنثوية. هذا الفعل الحداثي الذي هو فعل ذكوري، هو أولا فعل تحرير، وطاقة تحريرية، لأن القيمة الأساسية للحداثة هي الحرية والفردية، قيمة الفرد وقيمة الفكر الحر الشخصي. أولا الحرية، ثانيا قيمة الفرد. هذه هي الأقانيم الأساسية للحداثة الأم. والحداثة، في نظر الدكتور سبيلا، هي إسهام “بشري في تحرير الإنسان، بالكشف عن أسرار الطبيعة، ومحاولة الحد من مخاطرها، وتطوير قدرات الإنسان مما يزيد من حرية الأفراد والمجتمعات ومن قدرتها على الفعل. والحداثة هي أيضا تحرير للشعوب (حق السيادة والمشاركة السياسية)، وللأفراد وللفئات اقتصاديا وسياسيا وفكريا. لقد ساهمت الحداثة في تحرير فئات اجتماعية بعينها كفئة العبيد، كما ساهمت في تبلور كيانات وفئات اجتماعية معينة من بينها النساء والأطفال، من خلال وعيها بذاتها وبحقوقها. وفي هذا الإطار تندرج تحرير قضية المرأة كفئة اجتماعية وكأفراد، إذا كانت الحداثة أولا طاقة تحريرية ومشروعا تحريريا للأفراد والشعوب والفئات (العبيد، النساء...) فهي ثانيا طاقة استكشافية ومعرفية. فالحداثة مرتبطة بتطور العلم وبتطور المعرفة أي باستكشاف الطبيعة والفهم الموضوعي لنظامها وقوانينها، وبالفهم غير الأسطوري والخرافي لها، أي تطهيرها من زوائدها لمعرفة آلياتها كما هي، والانتقال من الفهم الغائي أو السحري للطبيعة إلى فهم ووصف القوانين التي تحكمها والتفاعلات التي تحدث فيها. هذا الجانب المعرفي للحداثة هو جانب استكشافي متمثل في محاولة فهم آليات الطبيعة لتسخيرها لصالح الإنسان”. وفي رأي المؤلف فإن الحداثة هي طاقة تعبوية “فهي تقوم بتعبئة الموارد البشرية وتحرير الناس من العبودية ومن الحتميات المختلفة وتحويلهم من كم مهمل ومن أفراد لا قيمة ولا فاعلية لهم إلى أفراد لهم كامل الحق الإنساني. وهذا يعني الاعتراف بالمساواة الصورية المطلقة، المساواة القانونية المطلقة وإلغاء الاستثناءات، أي استثناء فئات بشرية بعينها لاعتبارات عرقية أو لغوية، أو دينية، واعتبار كل البشر متساوين. وبالتالي التعبئة القصوى للموارد البشرية ثم تعبئة الطاقات والإمكانيات والقدرات التي يتوفر عليها الناس من حيث هم كائنات متساوية القيمة بغض النظر عن الدين أو العرق أو النوع. هناك إذن خصوصية في علاقة الحداثة بالمسألة النسائية. لا جدال في أن تاريخنا مليء بسلوكات وبتقاليد ثقافية تحط من قيمة المرأة سواء في تاريخنا المحلي أو القومي أو الديني. لكننا نجد كذلك في تراثنا الإسلامي العديد من النقاط المضيئة سواء في القران أو السيرة النبوية أو حتى في بعض الاجتهادات التي قدمها العديد من الفقهاء. ولكن ما حدث مع الأسف هو أن هذه الطاقة التحريرية التي جاء بها الإسلام في إشعاعه الأول في اعتبار النساء شقائق الرجال، وفي الحد من تعدد الزوجات، هذه الإشراقات التحريرية بدأت تخبو مع الزمان وخاصة في عصور الانحطاط التي تغلبت فيها ثقافات الضواحي وثقافات المناطق الصحراوية المتخلفة في العالم الإسلامي. وقد يسرت الوليمة النفطية فرصة لانتشار هذه الرؤى التي تعود إلى عصور الانحطاط حيث اندغم نوع من الفكر الآسيوي أو التقاليد البدائية الآسيوية مع فكر بدوي أو صحراوي... يحط من قيمة”. الحداثة النسائية ويستطرد سبيلا قائلا في مقالته “النساء ومخاض الحداثة” وهي إحدى مقالات هذا الكتاب: “هكذا وجدنا أنفسنا في العقود الأخيرة أمام عودة وحضور قوي وكاسح لذلك الجانب القدحي والتنقيصي في تصور ومعاملة المرأة سواء باعتبارها كائنا ناقصا بيولوجيا، أو عقديا، أو معرفيا أو أي شكل من أشكال النقص، حيث عادت هذه الثقافة التحقيرية للمرأة لتنتشر في العقود الأخيرة على نطاق واسع وذلك بتواز وتلازم مع شيوع “الفكر” التحريمي الذي يتخذ مواقف متشددة ومحافظة تجاه كل مظاهر التحديث، ويفهم التراث الروحي والدين فهما متحجرا مضادا للتطور. وهو فكر تسنده آلاف الكتب والمجلات والجرائد والقنوات الفضائية وآلاف المكتبات ودور النشر وآلاف المفتين”. ويرصد المؤلف أمثلة من التشدد التحريمي، الذي هو في رأيه، أقل ما يقال عنه أنه يطمس صورة أخرى مضيئة موجودة في تراثنا هذا الفكر الديني وفي تاريخنا الإسلامي وحتى في بعض ممارساتنا الاجتماعية في هذا القطر أو ذاك. فالحداثة، كما يقول سبيلا، كطاقة تحريرية للعديد من الفئات الاجتماعية وللنساء خاصة، تقدم للمرأة مجموعة هدايا. فكر الحداثة يعيد للمرأة قيمتها ككائن إنساني مساو للرجل، وكرامتها، وحقها الكامل في الإنسانية، ويمنحها حق المساواة في المواطنة، ويحولها من موضوع إلى ذات فاعلة مسؤولة وحرة. والفكر التحديثي في نظر الدكتور سبيلا هو “فكر تحريري للمرأة في العديد من المجالات وإقرار لحقوقها، هو فكر حقوق وفكر حريات، ولكنه أيضا فكر لتحرير الرجل ولتحرير المجتمع من النظرة الاختزالية للمرأة في قضية الجنس أو في قضية الإنجاب إلى غير ذلك وبالتالي فهو دعوة للانتقال بالمرأة إلى درجة الإنسانية. مسألة تحرر المرأة ليست عملا تلقائيا بسيطا وميكانيكيا، بل هو مخاض عسير لأنه يطال بنيات القرابة في المجتمع لأنه يتعلق بنظام الأسرة والنظام الاجتماعي والنظام السياسي. ولأن الأمر لا يتعلق فقط بأفكار وتصورات بل ببنيات اجتماعية راسخة ومتجذرة في البناء الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والتقاليد الثقافية. الحداثة النسائية مخاض عسير لأن النظام الاجتماعي التقليدي ليس شاشة سلبية تتلقى التأثير من الخارج وتتقبله، بل إن التغير يمر عبر شبكات التراث الفكري والاجتماعي والعائلي... وهذا التراث الفكري والاجتماعي يفرز مقاومات واليات مضادة لا على مستوى الرأي والفكر واللغة بل أيضا على مستوى الميكانيزمات الاجتماعية، والعادات والتقاليد والقيم التي تكرر نفسها عبر الأجيال والقرون”. مخاض التحديث وفي مقالته “الفلسفة وتحولات المجتمع المغربي”، يقر الدكتور سبيلا أن المغرب “دخل منذ العقد الأول من القرن العشرين، مع تعرضه للاحتلال الاستعماري، في مخاض سيرورة تحديثية كثيفة وطويلة الأمد، سيرورة تفاعلت فيها بشكل رفيع صدمتان متداخلتان: صدمة الاستعمار بما تعنيه من زوال السيادة، والانخراط في تبعية سياسية واقتصادية وثقافية عميقة وطويلة المدى، وصدمة الحداثة المباطنة لها بما تعنيه من تحديث اقتصادي وبناء معامل وقناطر ومواصلات وسدود، وإدخال وسائل السفر والاتصال الحديثة، وتنظيم المدن، وإنشاء إدارة عصرية، وإدخال نظام التعليم العصري. منذ ذلك الوقت لم تعد الحداثة مثالا خارجيا تهفو النخبة المغربية إخراج البلاد بواسطته من تأخرها لتتمكن من مواجهة العدو الخارجي، بل أصبحت إلى حد ما دينامية داخلية تعتمل داخل المجتمع. وهكذا أصبح المجتمع المغربي مشدودا بين ديناميتين موضوعيتين قويتين: دينامية التقليد بمؤسساته الاجتماعية وقيمه الثقافية والذهنية الراسخة، ودينامية التحديث بمنشآته التقنية ومؤسساته الاقتصادية والإدارية، ونماذجه الثقافية والفكرية الجديدة. لقد أصبح المجتمع المغربي مشدودا بتوتر بين دينامية التثاقل، والوفاء للذاكرة، وقوة الماضي ودينامية التجديد والتغيير في أفق التحديث وهي السيرورة التي تضاعفت بعد إعلان الاستقلال بوتيرة اكبر وبتغير واضح في طبيعة الفاعلين”. كما يشير إلى أن المغرب انخرط “إذن منذ مطلع القرن 20 في مخاض تحولات نوعية شمولية متلاحقة، ومتسارعة تتراوح بين العنف اللطيف والعنف الحاد، ظلت تتزايد كلما تعلق الأمر بتفكك للبنيات التقليد: التنظيم القبلي، وبنيات القرابة، والبنيات العقارية، وأنماط الملكية، والتراتبية الاجتماعية التقليدية القائمة على الحظوة والشرف، وكذا البنيات السلوكية والذهنية والإدراكية ومنظومة القيم المحايثة لها. اتخذ التحديث منذ البداية طابع سيرورة موضوعية مطبوعة بالكثير من الحتمية والعنف الفيزيائي والرمزي، سيرورة طالت البنيات التحتية مثلما طالت البنيات الفوقية وذلك عبر ثلاثة أبعاد أساسية”، حددها الدكتور سبيلا في: البعد الاقتصادي والبعد التقني والبعد الثقافي. الكتاب: في تحوّلات المجتمع المغربي المؤلف: الدكتور محمد سبيلا الناشر: دار توبقال
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©