الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عِيارُ الدولة العصرية

عِيارُ الدولة العصرية
29 نوفمبر 2018 02:11

خزعل الماجدي

حين انهار النظام الإقطاعي في أوروبا، وحين بدأ عصر النهضة يطوي القرون الوسطى، ظهرت ملامح المجتمع المدني، ومع الثورة الفرنسية عام 1789 بدأ التحول النوعي نحو الدولة الحديثة التي تميزت بإعلان حقوق الإنسان وظهور الأفكار الديمقراطية وظهور أول دستور في العالم يؤكد سيادة الأمة في 30 سبتمبر 1791. وحين ظهرت العلمانية في أعقاب عصر النهضة في أوروبا، أصبح التمايز واضحاً بين نظرتين مختلفتين للعالم والدولة، هما النظرة العلمانية والنظرة الدينية. بدأت العلمانية بفصل الدين عن السياسة ولم تتطور، حتى يومنا هذا، نحو حجب الدين عن الحياة العامة.
كانت العلمانية في عصر التنوير شاهداً على احترام الإيمان وتبلورت المفاهيم الحديثة عن الدولة، وظهر مشرعون مدنيون وقادة وفلاسفة ومصلحون دينيون وتنويريون ساعدوا على رسوخ المفهوم الحديث للدولة.
كان سبينوزا قد رأى بأن الدولة تصون حقوق الأفراد وحرياتهم ولا تفرض سلطتها عليهم ورأى أن الحرية هي الغاية الحقيقية لقيام الدولة.
أما أشهر من أسس لفكرة الدولة الحديثة فهم (توماس هوبز 1588- 1679) و (جون لوك 1632- 1704) وجان جوك رسّو (1712- 1778).
اعتمد هوبز على مبدأ القوة في نشوء الدولة وأعطى للملك الاستبداد ولم يشاركه في العقد الاجتماعي بين الناس وأعطاه كل السلطات والحقوق. أما (لوك) فقد رأى أن العقد الاجتماعي، الذي هو بين الأفراد والملك، يقضي تنازل الشعب عن بعض حقوقهم مقابل سلطة عامة وعلى الملك حماية حقوق الشعب مقابل طاعته له وحين يعجز عن ذلك يُفسخ العقد من قبل الشعب. أما (روسّو) فقد وقف ضد التعاقد بالقوة، كما عند هوبز، ورأى أنه نوع من المشاركة يقوم على التضامن والحرية والمساواة، والدولة هي من يؤسس هذا العقد الاجتماعي وتشكّل القانون الوضعي محل القانون الطبيعي الذي كان سائداً قبل ظهور الدولة، والقانون هو الذي يعبر عن سيادة الدولة التي يجب أن تكون ديمقراطية ونابعة من الشعب وحين يستبد حكامها فيجب أن تعزلهم.
لكن جان جوك روسّو هو الذي وصف المعايير الأولى الصحيحة للدولة الحديثة، وقد ساهم الفلاسفة الثلاثة في تأسيس نظرية الدولة الحديثة على أساس مدني، وليس على أساس ديني مقدس، أساسه التعاقد وحرية الإنسان، وأن امتثال الناس للدولة وسلطتها لا يعني خنوعاً بل هو تعبير عن اكتمالهم الإنساني والتعبير عن مكنوناتهم العميقة في حياةٍ هانئة خالية من أي أشكال العبودية.
ورأى هيغل أن الدولة هي مجال تضافر الحق والأخلاق. أما مونتسكيو فقد رأى أن الدولة تقوم على ثلاثة أنواع من السلطات هي (التشريعية، التنفيذية، القضائية) ولا بد من فصل هذه السلطات عن بعضها لضمان حقوق الإنسان وحريته.
وتمخض عن الحراك السياسي الكبير، في الغرب، خلال القرنين الماضيين ظهور مجتمعات حرة وواعية لا تتسامح مع من يقصّر في حقوقها المدنية، وأصبحت هذه المجتمعات هي التي طورت تجربة بناء الدولة الحديثة.

معايير الدولة الحديثة
نشأت معايير الدولة الحديثة من خلال النظريات الفلسفية والاجتماعية أولاً ثم تحولت إلى قوانين ملزمة لنشوء الدول الحديثة في الغرب، أولاً، ثم في بقية العالم، لكن الأمر ما زال متعثراً خارج العالم العربي بسبب عدم وجود المجتمعات المتطورة القادرة على حمل وتنفيذ فكرة وأسس الدولة الحديثة بسبب ما يعتريها من ركوس في ماضٍ تشوبه أفكار دينية ومشوهة عن الدولة.
تمخضت عن الفكر والممارسة، في الغرب، مجموعة من المعايير الخاصة بالدولة الحديثة هي:
1. الدولة مؤسسات ثابتة للمجتمع بغض النظر عن تغير الحكومات المتعاقبة.
2. المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات بشكل مطلق.
3. فصل السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية).
4. الديمقراطية هي نظام المجتمع وهي تستند على أساس الانتخابات الدستورية وصنع القرار المشترك.
لقد تمّ الربط بين العلاقات الداخلية للدولة الحديثة مع العلاقات الخارجية لها على الأرض أولاً ثم في التشريعات الخاصة بها، فقد شهد العالم الكولونيالي حركة واسعة من الدول الأوربية لتدعيم تكوين وشكل الدول في أوربا رغم أنه ترافق مع استعمار وإذلال الشعوب الوسيطة والقديمة ودولها، لكنه خدم اقتصاد وتكوين الدول الأوربية التي كانت في طريقها للتبلور والنضج.

الدولة العصرية
نحن نستخدم، اليوم، مصطلح الدولة بمعناه الجديد الذي يشير إلى المؤسسات الثابتة بغض النظر عن تغير الحكومات، أي إلى التفريق بين الجهاز الحكومي المتغير والجهاز السيادي والثقافي والخدمي الثابت والناتج عن تراكم إنجازات الحكومات المتعاقبة مهما كانت طبيعة نظامها السياسي.
الدولة العصرية هي التي ظهرت، في الغرب، بعد الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، وهي تطوير متقدم للدولة الحديثة نال فيها الأفراد والمجتمعات حقوقاً أكبر في البلدان الغربية. ونسميها الدولة العصرية وليس الدولة المعاصرة لأن الأخيرة تعني أية دولة تعيش في هذا العصر وهي ليست، بالضرورة عصرية أو حديثة فربما تكون منحدرة من التاريخ القديم أو الوسيط أو هجينة التكوين.
الصورة الحالية، المعاصرة، للدولة العصرية النموذجية تتعرض لجذب قطبين متناقضين ما زالا يخطان على الأرض صراعهما المشترك: الأول يصل حد التغيير الجذري للدولة الحديثة وصبغها بلون العولمة وجعل الخوف من مركزيتها وتصلبها مشروعاً، والثاني يستعيد بناء وقوة وهيبة الدولة ويجدها صفات مهمة في عصر متلاطم كالذي نعيشه. وسنتناول نموذجين من هذين القطبين لفهم ما يحصل، الأول يمثله آدم الثاني أمير ليشتنشتاين والثاني يمثله المفكر فوكوياما.
هناك ما يشير، حديثاً، إلى الشعور بالامتعاض من الخطر الذي قد تشكله الدولة، مهما كان نوعها، على المجتمع والفرد. فالذين ينكرون كل أشكال أنظمة الحكم ومنهم الشيوعيون الحالمون بمجتمع يخلو من الدولة والشعراء الحالمون بحياة حرةٍ لا تحدها حدود. يرى آدم الثاني أن تحول الدولة إلى شركة كبرى أو شركة خدمات كبرى هو ما سيجعل الدولة في زمن العولمة، أي الدولة العصرية، تخطو نحو أهدافها بشكل صحيح.
تدخل العولمة كعاملٍ حاسمٍ في التأسيس للدولة العصرية لتحديد شكل الدولة من خلال الاقتصاد والانفتاح الثقافي، وربما تكون هذه الميزة هي أهم ميزات الدولة العصرية وأفقها المنظور. والتناغم والانسجام وضبط الاقتصاد الوطني للدولة العصرية أفضل بكثيرٍ من مقاومة العولمة وسد الأبواب بوجهها، ولعل هذا يذكرنا بالحرب الشعواء ضد الرأسمالية في القرن العشرين لصالح الاشتراكية والتي نتجت عنها آثار خطيرة على اقتصاديات الشعوب وهي تتتبع خطى الاقتصاد الاشتراكي الفاشل في الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية.
إن الدمج بين الديمقراطية والرأسمالية في العالم الغربي قاد إلى نتائج غير متوقعة ساهمت في صنع أحد أركان الدولة العصرية الآن، ويقول لاسكي «إن التعارض القائم بين الرأسمالية والديمقراطية قد يصبح سمة ضرورية تتميز بها الحضارة الغربية».
أما فوكوياما المؤرخ وعالم الحضارات فيرى عكس ما يرون حيث يعيد الاعتبار، الآن، للدولة القومية القوية المتماسكة بسبب الفراغ والهشاشة التي نتجت عن سيادة القطب الواحد وتحولات شعوب ودول أوربا الشرقية.
يشدد فوكوياما على بناء الدولة ومدها بأسباب القوة، ويبدو كما لو أنه استعاد موروث الدولة الحديثة ووضعه في المرحلة المعاصرة، وله أسبابه المقنعة. ويستند فوكوياما في طريقة تفكيره النوعية بالفهم الواسع لكل دول العالم وليس للدولة العصرية في العالم الغربي ويرى أن تبادل التأثير يجب أن يكون متوازناً ودقيق الرصد. التصور الغربي للدولة العصرية وعلاقتها بالديمقراطية ينقسم إلى مدرستين مختلفتين: الأولى أمريكية براجماتية ترى الديمقراطية وهي تطبق على الأرض في كل الدول بداية صحيحة لظهور دولة عصرية في آخر المطاف، أما الثانية فأوربية مثالية ترى في الصورة النموذجية للديمقراطية أساساً دائماً لديمقراطيات العالم.

معايير الدولة العصرية
طوّر العلماء والمشرّعون معايير الدولة العصرية ووسعوا حرية المجتمع والفرد وتشدّدوا في تطبيق القانون الذي رسم لهم مسار الدولة، ومعايير الدولة العصرية هي:
1. الديمقراطية هي نظام المجتمع والليبرالية هي نظام الفرد وعليه تكون الدولة حامية للمجتمع والفرد معاً في نظام ديمقراطي ليبرالي.
2. سيادة القانون: حيث يتساوى جميع أفراد المجتمع أمام القانون ولا بد من القضاء المستقل ولا يجوز تدخل أي من السلطتين التشريعية والتنفيذية، والجميع، من رئيس الدولة إلى أبسط إنسان، يوضعون تحت القانون لا فوقه ويتعرضون للمساءلة القانونية في حالة أي انتهاك للقانون.
3. الاقتصاد المنتج والعادل في توزيعه والمعتمد على النشاط النوعي للقطاع الخاص الذي يديره أفراد في المجتمع يخضعون للرقابة والسيطرة النوعية، اقتصاد السوق الرأسمالي ينمو بحسب رقابة وقوة إنتاج تعتمد على التنمية البشرية.
4. محاربة الفساد بكل أشكاله الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية... إلخ.
5. العمران والمواكبة الحضارية في كل قطاعات العلم والتكنولوجيا وتطوير الخبرات البشرية حسب هذا التوجه.
6. تحريم استعمال العنف الاجتماعي أو السياسي ومنح الحرية للجميع في التعبير عن آرائهم أفراداً وجماعات شرط احترام القانون.
المجتمع هو الذي يحدد طبيعة الدولة وشكلها، فإذا كان المجتمع قبلياً فسيكون شكل الدولة أولغارشياً حيث تحكم الأقلية بمركزية واضحة وتقرر ما تراه للمجتمع اعتماداً على أعرافٍ أو قوانين قابلةٍ للانتهاك والتغيير بسهولة.
أما إذا كان المجتمع دينياً فستكون الدولة ثيوقراطية يحكمها مجموعة من الأشخاص الذين يدّعون علاقة خاصة مع الله، ويلبّون للمجتمع ما يطلبه من تحقيق العدالة الإلهية على الأرض.
وفي حالة المجتمع المدني العلماني التوجه ستكون الدولة ديمقراطية هدفها تحقيق المساواة والعدل في المجتمع وقيادة المجتمع نحو الرفاهية والسعادة.
وإذا أردنا تكوين دولةٍ مدنية في مجتمع عشائري أو ديني فإن هذا لا يتم بالقوة بل بالتدريج الذي يغيّر المجتمع، أولاً، وحين يكون قابلاً ومستعداً لفهم واستيعاب الدولة المدنية الديمقراطية فسيكون ذلك، ومن دون هذا سينهار نظام الدولة أو يخرج المجتمع عن طوره وتعصف به مشاكل لا حصر لها.
يصعب إقامة نظام الدولة المدنية على مجتمع ديني والعكس صحيح لأن هناك الكثير من القوى التي ستفقد مصالحها وستتصدى لهذا التغيير. ولا يمكن اختزال تجربة الدولة المدنية مع الدين بجملة (فصل الدين عن الدولة).. لكن المؤكد أن مدنية وعلمانية الدولة تمكّن من التدين الصحيح والصادق في المجتمع حيث تركز على روحانية الدين وتبعدهّ عن التلوث السياسي، وهي وسيلة التدين المهذب الذي لا يتجاوز حدود القانون.
المهم ليس الفصل بين الدين والدولة فقط، بل بين الحكومة والدولة والتنبيه لمخاطر الخلط بينهما وعدم إقحام الدولة ومؤسساتها في السياسة العابرة للحكومات، فالدولة يجب أن تؤسس للمبادئ العامة للمواطنة وليس للسياسة. أي أن الدولة محايدة في موضوعي الدين والسياسة.
تظهر أحياناً نزعات دينية داخل النظام العلماني للدولة، بحكم ما توفره وسائل الديمقراطية من صعود للتيارات الدينية في الحكومة، لكن ذلك أمر خطرٌ للغاية لأنه قد يُجهز على الدولة والديمقراطية معاً. ولعل النموذج التركي كدولة إسلامية يفصح كثيراً عن هذا الالتباس.

هرم الدولة
استقر تكوين هرم الدولة الحديثة والعصرية على سبعة مكونات تتدرج في أهميتها، وتكون المكونات الثلاثة الأولى أساساً صلباً لها لا يمكن تجازوه وهو الذي ورثته الدولة من الحقب التاريخية السابقة.
ولم تنتصر النظرة العلمانية للدين في الغرب فقط، بل أسست لها آليات ونماذج في الكثير من دول العالم وصار نموذج الدولة الحديثة أساس بناء الدول في العصر الحديث، وظهرت الشروط والأعراف لنشوء هذا النموذج.
أصبح من الصعب حشر الدولة الدينية في عصر حديث ثم معاصرٍ له متطلبات يومية لا تنتهي لإدامة حياة الناس والخدمات وضرورة وجود المؤسسات الثابتة القائمة على القانون والعدل والمساواة. ولذلك سيكون انهيارها مؤكداً وقدرتها على الصمود مستحيلة. ولا بد من التأكيد أن الدولة الحديثة أو العصرية تحتاج، اليوم، إلى أن تكون دولة معاصرة تُزيدُ من مساحة الحرية الفردية واقتصاد المجتمع الحر، فكيف إذا كان هناك، في عالمنا المعاصر، شكل من أشكال الدولة الدينية المكبلة بشروط شرعية وميتافيزيقية؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©