السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عبدالرضا السجواني: اختبرتُ عناق الماء والنار

عبدالرضا السجواني: اختبرتُ عناق الماء والنار
29 نوفمبر 2018 02:03

إبراهيم الملا

كمن يعتلي منصة شاهقة من الآلام والصرخات والخسارات وتلف الأرواح، يطلّ القاص والروائي الإماراتي عبد الرضا السجواني بعين الراصد لأمكنة قصيّة، وبعدسة المرتحل في أزمنة مطمورة، على مساحة هائلة لا يلمّها الشجن رغم سطوته، ولا يحتويها البحر رغم اتساعه، ولا تلاحقها الأمواج رغم تسارعها وضراوتها، فهناك حيث الأزرق الشرس الممتد بين إمارتي دبي وأم القيوين مرورا بسواحل الشارقة في ستينيات القرن الماضي، يغوص السجواني من خلال روايته «تايتانيك الأحلام» نحو ركام السفينة البريطانية الشهيرة «دارا» التابعة لشركة نظام الملاحة البحرية البريطانية عبر الهند، عندما اضطرمت فيها النيران فجأة، وتعالت صرخات المئات من ركابها وسط رياح الشؤم العاتية، والأجساد المتفحّمة والجثامين العائمة والأخرى الناجية برصيد هائل من الفزع.

تنتقل الرواية من حواري وفرجان الشارقة المطلة على الميناء أو «الفرضة» لتنسج أحلاماً خضراء وحكايات عشق غير مكتملة، وفضاءات طفولة مكسوة بغبار أليف، وشغب عابر، لتأخذ بعد ذلك مسارات تقطّعت في أنحائها السبل، وتشتت في دروبها المصائر، وهاجت في أعطافها ذاكرات وجراحات ومطامع وطموحات، وصولاً إلى تلك السفينة العملاقة الراسية على خور دبي كي تأخذ المسافرين المحمّلين ببضائع الأحلام، إلى أرض الهند، جنّة التوابل والعود والبخور، وموئل التجاّر، ومقصد المرضى، وغاية الباحثين عن الانعتاق والمغامرة والتيه اللذيذ، مغامرة لم يكتب لها التحقق، وانعتاق صار قيدا، ولذّة تفتت مثل سراب.
وللتعرف على مصادر الرواية وتفاصيلها، واستعادة ما جرى لمأساة السفينة «دارا» التقى «الاتحاد الثقافي» بكاتبها عبدالرضا السجواني الضالع حتى النخاع في أهوالها والمتقمّص لشخوصها، الأحياء منهم والأموات والمفقودين، حيث أشار بداية إلى أنه أتم الرواية مؤخراً بعد جهد مضن امتد لأكثر من سبع سنوات جمع خلالها مئات الوثائق المتعلقة بسفينة دارا، ودوّن الحكايات التي رواها عدد من رواد السفينة، وسمعها من كبار السن الذين عاصروا تلك الحادثة المريعة التي جرت وقائعها في الثامن من أبريل عام 1961، عندما كان السجواني نفسه طفلاً لم يتعد الثالثة من عمره، حادثة لم تكن في الحسبان كما أشار، ولم تخطر على بال قبطان السفينة ولا المساعدين له في قمرة القيادة ولا البحارة ولا الركاب، أو العاملين في الموانئ التي تتردد عليها السفينة منذ ثلاثة عشر عاماً منذ تدشينها، وتنقّلها بين المنامة والبصرة والهند وباكستان قبيل احتراقها على بعد كيلومترات من ساحل دبي، وانجرافها بعد ذلك نحو شواطئ أم القيوين واستقرارها في قيعانها السحيقة والمظلمة حيث ما زال هيكلها رابضاً هناك، كجثمان معدني عملاق يتهادى في المقبرة اللامتناهية للماء، وسط لجة داكنة، وبقايا مترمّدة، وأسرار مسيّجة بالصمت والكتمان.

تايتانيك الخليج
وعن الدافع الأساس لاستعادة هذه الحادثة وتوظيفها في روايته، أوضح السجواني أنه عاشق لعالم البحر وصناعة السفن، ولكن الهاجس الأكبر الذي كان يشغله ودفعه لكتابة الرواية هو وجود اسم ابن عمه الذي يحمل نفس اسمه من ضمن ضحايا الحادثة، التي وصفتها الصحافة الغربية حينها بمأساة «تايتانيك الخليج» لفداحة ما وقع على متنها، وللأعداد العالية من ضحاياها، والتي بلغت 238 راكباً من رجال ونساء وأطفال، منهم 20 مواطناً إماراتياً، من ضمن 819 راكباً كانوا على متنها، من بين محترق وغريق ومفقود.
مضيفاً، أن توابع وأصداء ذكرى «دارا» ما تزال تقض مضاجع الناس إلى يومنا هذا بعد الحريق العظيم، الذي نجم عن أصعب عملية هوجاء قوامها المقت، ومرتكزها الجور، نظرا لشبهة تعمّد وقصد مبيّت وراء الانفجار الذي دوّى فجأة في إحدى مرافق السفينة، وتسبب في احتراق وغرق ومقتل المئات من الضحايا الأبرياء.
وعن سبب تناوله للفضاءات النوستالجية والمناخات الشعبية في الجزء الأول من الرواية، خصوصا تلك المناطق والأحياء المطلة على ساحل الشارقة مثل المريجة والسوق القديم ومنطقة الخان ومناطق أخرى عتيقة في رأس الخيمة وغيرها، قال السجواني: «إن هذا المدخل كان ضروريا لجس نبض الحياة في العام 1961 وما قبله، وللكشف عن طبيعة المجتمع في تلك الفترة وما يتضمنه من بساطة وعفوية وترابط بتنا نفتقده اليوم، بعد التطورات الهائلة التي طرأت على المنظومة الاجتماعية في الحقبة التالية لاكتشاف النفط وقيام دولة الاتحاد، وهي عودة مقرونة بملامسات شخصية رصدت من خلالها هواجس الأهالي وأحلامهم ومشاغلهم آنذاك».
وأردف قائلا: «بالنسبة لي كان الوضع غرائبيا فعلاً عندما يتعلق الأمر بوصف عناق الماء والنار، والتداخل العنيف بين ضدين لا يمكن لهما أن يلتحما بهذا المستوى التراجيدي الصادم، وكان عليّ أيضا ترويض الحكايات اللامعقولة والأسطورية التي رافقت ونتجت عن هذه المأساة المروعة، لذلك انهمكت في البحث عن أرشيف تلك الحادثة وملابساتها».

الحقيقي والمتخيل
وعن المصادر الأخرى التي اعتمدها لاستحضار ظروف الحادثة وتفاصيلها بدقة، قال السجواني: «كان عملاً استقصائياً مرهقاً من دون شك، وتطلب مني ارتياد السفن الشبيهة بسفينة دارا، وكذلك مجاراة ما فعله الكاتب الروسي الكبير تولستوي قبل أن يكتب روايته العظيمة «الحرب والسلام» عندما ملأ غرفته بالوثائق المكتوبة والمصورة المتعلقة بزمن وأحداث روايته، بينما استعنت أنا أيضا بتقنية التخييل بدلا من السرد الواقعي، كي أضفي على الرواية بعدا ذاتيا ممتزجا بالبعد التاريخي وبنكهة شعبية لصيقة بظروف تلك الفترة وقصصها وتحولاتها التي لم أشأ أن تضيع أو تتلاشى، قبل أن أجد نفسي افتراضيا على ظهر السفينة المنكوبة، مختبرا أهوال ما حدث، وناقلا عذابات ركابها في تلك اللحظة الفارقة، وما سبقها وتلاها من خيبات وويلات وفظائع».
ونوّه السجواني، أن 80 بالمائة من التفاصيل الروائية اعتمدت على قصص حقيقية اختار في النهاية أن يصوغها في نسق يوائم بين الذاتي والموضوعي، وبين الشكل الظاهري والمعنى المستتر لما كان يجول في دواخل الشخصيات الكثيرة التي وردت في النص، وتجمعها خمس قصص حب متفرقة كان أكثرها وقعا قصة الحب التي حدثت على ظهر السفينة بين سالم ونبيلة والتي اندلعت شرارتها الأولى في حيّ «المريجة» بالشارقة واكتملت على ظهر السفينة عندما أنقذ سالم حبيبته من الغرق، فكانت هذه القصص بشخوصها وكأنها تبحث عن خلاص ما، وبأشكال متعددة قبل أن تداهمها تلك المأساة وتحيلها إلى ذوات حائرة في حيز وجودي متوتر يقبع بين ميلاد جديد وموت يحاصرها من كل جانب، وكأن ما جرى للأهالي على الساحل هو نسخة لما كان ينتظرهم من صدمة وفجيعة على متن السفينة».
وشبّه السجواني الربط بين المكانين باللعبة داخل اللعبة، أو الانعكاس المتبادل لأحلام مبتورة وتطلعات لم تظفر بمرادها في آخر الأمر.
وعن المصادر الأخرى التي اعتمدها، أشار السجواني للمقابلات والأحاديث التي أجراها مع أفراد من أسرته عاصروا تلك الحادثة، ومع التجّار الذين سبق لهم السفر على ظهر السفينة في رحلات عديدة سابقة قبل احتراقها، منهم تجار إماراتيون وآخرون باكستانيون وهنود من المسلمين والهندوس الذين التقاهم داخل وخارج الدولة، إضافة للمعلومات التي استقاها من أرشيفات الصحف وشبكة المعلومات، والصور التي وثقت للسفينة بمحتوياتها ومرافقها وهيكلها الخارجي.

ترميز
وفي سؤال عن مدى توظيفه للجانب الرمزي في الإسقاطات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المصاحبة لتلك الفترة، أجاب السجواني أن لجوءه للترميز كان في حدود ما تقتضيه التقنية الروائية التي اتبعها في استحضار الشخوص والأمكنة بما يخدم النص في النهاية ويجعله في منأى من الوقوع في فخ التوثيق الحرفي، والاستعاضة عن ذلك بخلق مساحات ذهنية وتوصيفية جديدة داخل النص، وصولا للهدف الأساس من كتابة الرواية وهو نقل الحالة المريرة لضحايا الحريق، ومعاناة أقربائهم وأصدقائهم على الساحل المقابل.
مضيفا، أنه استخدم أسلوب التلميح أو الإشارة الخفية لبعض الأمكنة الحقيقية، ولبعض الشخوص الحقيقيين المعاصرين لتلك الفترة، ولم يشأ ذكرهم صراحة لأسباب تتعلق بحساسية اجتماعية حافظ على عدم اختراقها أو المساس بسمعة الأشخاص المشاركين في صياغة المناخ العام للرواية بجانبيها الواقعي والتخيلي، وقال إنه لم يلجأ للرمزية المغرقة، بل استخدمها في بعض المشاهد والقصص الجانبية في سياق التسلسل الزمني للرواية، وللإضاءة على ما كان قائماً من اعتراض ومناهضة للوجود الأجنبي في المنطقة بشكل عام.

وقائع الغرق
وعن الجوانب التوثيقية المتعلقة بالسفينة ذاتها، ومسببات الكارثة التي حدثت لها، أوضح السجواني أن سفينة دارا صنعت في مدينة أدنبرة باسكتلندا العام 1948، وأصبحت تابعة لأسطول شركة الملاحة الهندية التي يمتلكها سلاح البحرية البريطاني لتتحول بعد ذلك لسفينة تجارية، وقال إن الحادثة جرت عندما هبت عاصفة مفاجئة على خور دبي في اللحظة التي كانت فيها السفن الخشبية الصغيرة تنقل البضائع والمسافرين إلى سفينة دارا، ما اضطر قائدها الكابتن إلسون إلى سحبها إلى العمق حتى تتجنب اصطدام السفن الخشبية بها، وهو ما حدث فعلا فتضررت السفينة دارا، وانسحبت إلى داخل البحر رغم عدم اكتمال عمليات الشحن وعدم وصول كافة الركاب إليها، وعندما هدأت العاصفة قليلا، قرر القبطان العودة قرب الميناء مجدداً لإعادة الشحن، وكان ذلك في الصباح المبكّر، ولكن الانفجار الذي حدث جعلها حائرة في منتصف الطريق، وعلى متنها ركاب غير مسجلين أصلاً على السفينة، لأنهم كانوا مساعدين للنقل، وبعضهم كانوا من الباعة الموكلين بمهمة سريعة قبل العودة إلى الساحل.
وأضاف السجواني، أن عدداً من الأهالي الذين التقاهم في إمارة أم القيوين أشاروا إلى أن الرياح الشديدة نقلت السفينة أثناء احتراقها من دبي إلى أم القيوين وشاهدوها وهي تحترق على بعد كيلومترات قليلة من الشاطئ قبل أن تغرق وتسكن في قاع البحر، وما زال هيكلها ساكناً هناك إلى اليوم.
ونوّه السجواني، إلى أن العديد من المسافرين تم إنقاذهم من قبل طائرات القواعد البريطانية في المنطقة، إضافة إلى مساهمة سفن تجارية أجنبية في عمليات الإنقاذ ومن أهمها السفينة النرويجية التي كان له دور كبير في تقليل عدد الضحايا ونقلهم إلى موانئ ومدن مختلفة في الخليج من أجل الطبابة والعلاج من الحروق والكسور في مستشفى آل مكتوم بدبي، وأغلب المصابين تم نقلهم للمنامة وغيرها من المدن الخليجية. وقال السجواني إن وجود تلك السفينة النرويجية يدل على أن الحركة التجارية كانت نشطة في مياه الخليج، وأن المنطقة كانت تشهد بدايات طفرة مدنية واجتماعية اكتملت بعد انتهاء السيطرة البريطانية وظهور النفط وتشكّل الكيان السياسي لدول الخليج.
وأشار السجواني، إلى أن أحد الأشخاص في الشارقة ما زال لديه قريب مفقود من جراء الحادث ولا يعرف مصيره إلى اليوم، حيث إن عددا من الضحايا الأطفال لم تسترد جثثهم، وبعضهم نقل وهو مغمى عليه إلى موانئ بعيدة ولم يتم التعرف عليهم فشملهم المجهول وباتوا مغيبين سوى عن ذاكرة حاضرة لأهاليهم ما زالت تتداول صورهم وتبحث عن بارقة أمل للعثور عليهم.
مؤكدا أن الأحداث اللاحقة التي تلت حريق السفينة وغرقها، تتضمن العديد من القصص والمآلات المحزنة والمربكة والمأساوية للشخوص الذين نجوا وللأهالي الذين تضررت مصالحهم والتجار الذين خسروا مدخراتهم، وعبّر السجواني عن رغبته في تصدي السينما الإماراتية لهذه الرواية وتجسيدها بصريا على الشاشة، ليتعرف الجمهور المحلي والعالمي على تفاصيل الحياة في تلك الفترة وتلمس المعاناة الحقيقية لركاب السفينة، كما عبّر عن رغبته في إصدار رواية لاحقة يستكمل بها قصص الناجين، والتحولات الاجتماعية الحادة في حياتهم بعد الكارثة البحرية الأكثر عنفا وفداحة في تاريخ الخليج العربي.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©