السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

غاية المعنى.. غابته

غاية المعنى.. غابته
9 أغسطس 2012
لا بد لأي عمل إبداعي من تنظيم مقصود، إذ لا يسير الفن بشكل اعتباطي، بل هو بناء محكم أسوة بأي بناء في هذا العالم، حتى أن بعض المجترحين من أطلق على الفنان مصطلح “العليم” ويقصد به العارف ـ بفنه ـ بكل شيء، الذي يعرف أسرار عمله الإبداعي، إذ قالت العرب “المعنى في بطن الشاعر”، وهذا يعني أن لا معنى يمكن أن نصل ـ نحن القراء ـ إليه بالرغم من اجتراحاتنا لتأويلات مختلفة، إلا أنها جميعاً لا تستطيع أن تصل إلى ما أراده الفنان. قلت إن التنظيم هو الذي يكسب شكل العمل جمالية، وهو الذي يعبر عن روح الأشياء التي تصنع الكل، فالتنظيم لغة غير مرئية، تجريدية، نستطيع أن نكتشف جماليتها عندما يجتهد العقل في الرؤية وضبط حركة أجزاء الأشياء وتواصلها مع بعضها بعضا، إذ الجزء يحمل معناه ويمكن تأويل غايته من خلال علاقته بالأجزاء الأخرى التي تشكل الكل الجمالي. وينطبق هذا المفهوم على الفنون بمجملها، إذ لا يتفرد الشعر، أو الرواية في ابتغاء عناصر التنظيم، بل يشترك معهما الفن التشكيلي والنحت والفوتغراف، إذ لا شيء اعتباطياً في هذا الكون، وما دام الفن محاكاة للواقع وللكون فلا بد له من تنظيم. ولكن قد نتساءل: لماذا نعمد إلى التنظيم بوصفه بنية؟ وأجيب بأن التنظيم يكسب العمل رؤية جمالية تختلف بحسب العوامل والصيغ، إذ إن المنظم يقدم رؤيته الجمالية عبر تركيب الأجزاء بحيث تعطي من خلال أواصرها اللامنظورة معنى مغايراً في كل حالة جديدة. ومن هذا المنطلق طرح السؤال الأهم “لماذا الشكل؟” وكأننا نقول إن الشكل هو النظام، إذ لا شكل بلا نظام يحكمه. في عالم الفن لم يعد الشكل أو النظام تلقائياً، بل هو طريقة لتمثل العالم غير محسوبة، تظهر وكأنها تلقائية، إلا أنها ليست كذلك، فمن الطبيعي أن نبدأ في نقل المعنى، الذي نتمثله بلغة إشارية، كتابية، ريشة، إزميل، إلا أننا بعد فترة وجيزة نبدأ بالتفكير حول صياغة هذه الأشياء التي أنجزناها، كيف يمكن أن نقدمها. التناسق الجمالي ينقسم تقديم العمل الإبداعي إلى نوعين، الأول يعنى بتقديم العمل نفسه، أي نظامه البنائي، وهو جزء من ثنائية الشكل/ المضمون أو المبنى/ المعنى، والثاني هو تقديم الأعمال الإبداعية التي أنجزت في هذا الفن بمجملها، إذ إن القاص لا بد أن يراعي قيمة معينة في تقديم مجموعته القصصية، وكذلك الشاعر لا بد له من أن يراعي صيغة فنية جعلته يقدم هذه القصيدة دون تلك، ومثل هذين نجد التشكيلي الذي لا بد له أن يقدم معرضه بصيغة تجعله يقتنع بأن هذا الشكل يعبر عن مضمونه. قادني إلى هذه المقدمة ما شاهدته من معارض تشكيلية كثيرة في أبوظبي، حيث وجدت الكثير من التشكيليين لا يعتمد رؤية تنظيمية في تقديم أعماله، بل تراه يعلقها بطريقة فيها شيء من التداخل في الموضوعات التي يتناولها، حتى لتجد لوحة رسم فيها منظر واقعي بجوار لوحة تجريدية، وبقربهما لوحة تكعيبية، وأخرى من فن ومدرسة بعيدة كل البعد عن هذه الفنون، ولكن بالمقابل هناك من التشكيليين من يقدم أعماله بطريقة مدروسة، يجاور كتل/ موضوعات اللوحات مع بعضها بما يجمعها من معنى، ويقيم أواصرها من غايات، هذا ناهيك عن اعتماد البعض على تمثلات المدارس والمناهج التشكيلية والنظريات التي نفذت هذه الأعمال وفقها دون غيرها. وفائدة كل ذلك تؤدي غرضها في تعريف المتلقي بتحولات الفنان نفسه ما بين مدرسة وأخرى وتحولاته أيضاً ما بين موضوعات المعرض التشكيلي، وأعتقد أن من يقدم لنا هذا التناسق الجمالي في اللوحة والذي يستطيع أن يُبهرنا حقاً هو قادر على أن يقدم مجمل أعماله بطريقة تستطيع أن تقودنا إلى فهمها بكل بساطة. في معرض الفنان الجنوب أفريقي بيرسي بيلان هيمسلف تحت عنوان “ألوان من جنوب أفريقيا” والذي أقيم الأسبوع الماضي في فندق ميلينيوم أبوظبي نشهد حالة التنظيم الدقيق والشفاف والموضوعاتي في تمثل العالم وكيفية تقديمه. صياغة أفريقيا حاول بيلان أن يعيد صياغة كل ما هو أفريقي، كل جزئيات عالم قد غادره حضارياً وسوسيولوجياً، لم تعد هذه الأشياء والجزئيات تجسد ملامح جنوب أفريقيا الحاضرة، إذ كل شيء قد تبدل، لكن ما تبقى وبإصرار واضح هو هذه الألوان الباهرة، الصادمة، الحارة، المتجانسة، المتنافرة. كل لون في العالم الأفريقي يحاور اللون الآخر، يريد أن يطغي عليه. وعليه يمكن أن نقرأ هذا المعرض من خلال عدة نقاط وهي: أولاً: لا تدرجات لونية في لوحات بيرسي بيلان. ثانياً: تجاور الموضوعات وتعددها. ثالثاً: طغيان التحارب اللوني والتصادم في المشاعر. تجاور الموضوعات قدم بيلان موضوعات محددة في معرضه هذا بالرغم من أنه يعلن أن مهمته ناقل للألوان وليس إلا “ألوان من جنوب أفريقيا”، فهل يقصد بلفظة ألوان معناها المطابق، اللون بوصفه صفة “الأصفر والأحمر والأزرق والأخضر” أم اللون بوصفه رمزاً أي تعبيراً عن حالة بما يعني ألوان العالم الأفريقي أو سماته وخصائصه وموضوعاته. لنفترض جدلاً أن ما يقصده بيرسي ميلان بالألوان هو “الموضوعات”، لذا فإننا نجده فعلاً منظماً واقعياً وجمالياً لموضوعاته في هذا المعرض إذ نجد فيها: 1) البيوت 2) الطبول 3) المرأة 4) الجرار وهي الموضوعات الأساسية التي ضمها المعرض، وما بعدها ما هو إلا تنويع يعمد إليه الفنان كي يكسر رتابة البنية القارة لتلك الوضوعات. قدم بيلان البيوت كالطبول، كالمرأة، كالجرار، إذ كل هذه الأجزاء الأربعة تتشابه مع بعضها لتجد مجموعة من العناصر التي تجمعها حين التأمل فيها، إذ البيت المنتفخ والطبل ذو الخصر الضيق والمرأة العريضة والجرار الواسعة. كلها ذات صفات تتجاذب، كونها نتاج ذهن واحد، نظام سوسيولوجي واحد استطاع أن يقدم رؤية واحدة بتنويعات شكلية متعددة. التعبير الرمزي هذه العناصر المجسدة في لوحات قدمها بيلان في معرضه تبدو ذات بعد قصدي، أي أنه قرأ المفهوم السوسيولوجي للبنية الاجتماعية الأفريقية، فحاول أن يقدمها بشكل رمزي عبر عنه جسد الشيء نفسه، بل حتى الطاحونة الزرقاء نراها تشبه المرأة. من خلال 43 لوحة صغيرة وكبيرة تناول بيرسي بيلان البيت الأفريقي وكأنه بذلك يريد أن يدخل إلى البنى السوسيولوجية في أعماق هذه البيوت التي تشبه الجرار، بل تشبه تكور بطن المرأة، ولهذا السبب تراه يقوس الأشياء، يعطيها انتفاخاً من وسط البطن، حتى باب البيوت الأفريقية نراه عند بيرسي بيلان مقوساً، أما جراره، فهي التعبير الرمزي عن عطاء المرأة “ولادتها” انتفاخ بطنها. اهتم بيلان بالجرار الأفريقية الملونة فأبحر في نموذجها الأنثوي، وحاول أن يقدم بعداً رمزياً عبر أكثر من لوحة، ولهذا فإنه مزجها بالمرأة كونها جزءاً منها، إذ لا يحمل الجرة إلا الأنثى الأفريقية. ثلاث فتيات إفريقيات يحملن ثلاث جرار بشكل متناسق، وعندما نبحث عن العلاقة بين موضوعتين مترابطتين في المعرض يتضح لنا أن المرأة والجرّة متلازمتان حيث تشكلان ثنائية متكررة في أغلب لوحاته، وكأن بيلان يريد أن يقارب بين شكل الجرّة المنتفخة من الوسط مع شكل جسد المرأة، حيث الضيق من أعلى العنق والكتفين والسعة من جهة الحوض، وهذا ما يحاول بيلان أن يقاربه في الجرار التي تضيق من الأعلى وتتسع من بطنها وقاعدتها، ولا أدل على ذلك من لوحته التي ترمز إلى هذه العلاقة وهي لوحة “الجرّة والقلادة”، حيث ألبس بيلان الجرّة قلادة الأنثى، وهي قلادة زرقاء مشعة وكأنه أراد أن يشبه التجانس بينهما بالمرأة التي وضعت قلادة على صدرها. ديمومة الحياة من الغريب حقاً أن اقتناصات هذا الفنان لعوالم حتى لو تباعدت مسمياتها فإنها متقاربة الصفات والخصائص، كل الأشياء منتفخة من وسطها وكأنها رمز للعطاء وديمومة الحياة، واحتضان الوجود. فالجرار حاملة الماء، وبطن الأنثى حاملة الطفولة، وبطن المنزل حاملة بذرة الوجود الأسري، وبطن الطواحين حاملة للغذاء والبذور. استطاع بيلان أن يستخدم الألوان الزيتية بكامل طاقتها، بقوة تنافرها وتجاورها، وربما أراد من تكرار هذه العناصر الأربعة “البيت، المرأة، الجرار، الطبول” أن يعيد صياغة الألوان وتعدادها الهندسي، إذ استغرقه الاهتمام بالشكل الهندسي بوصفه جزءاً تجميلياً استطاع أن يقدمه على الأساس الزخرفي من مثلثات ومربعات وأنصاف نجوم وتعرجات مفتوحة الأطراف ومغلقة تحيط ببطون الجرار وأعناق الطبول وأطراف البيوت التي صنعت سقوفها من القش ومع ذلك لم يشتغل على الدائرة. اللون والغاية هذه التعددات الزخرفية هي إسقاط ذاتي على الرسمة وليست بالضرورة أن تكون موجودة في الواقع، ولذا نجد أن حالة فرح بيلان بعوالمه الأفريقية تراه يسقط الألوان التي تجسد معنى من المعاني النفسية التي يعيشها، إذ يربط الأفريقي بين اللون والغاية، حيث الأصفر يرمز لمعنى الموت، والأزرق لمعنى السماء، والأحمر لمعنى الدماء، والأخضر لمعنى العطاء والربيع والحياة، والأسود لجمال الجسد والأبيض للنور. يلعب الفنان بيرسي بيلان على موضوعة مهمة تعكس طبيعة الحياة في العالم الأفريقي، إذ يرسم الأكواخ المصنوعة جدرانها من الحجر وسقوفها من القش، تلك الأكواخ التقليدية التي كان لسعف النخيل وأغصان الشجر أثر في تكوينها، إذ هي إعادة صياغة وتدوير الطبيعة، حيث يشكل الكوخ العالم الأفريقي الفريد مثلما تشكل الطبول النغمة الأفريقية المتفردة حزناً وفرحاً. فتنة المرأة بما تحمل من ألوان حول رقبتها، حيث الجواهر الملونة والمشعة تطوق عنقها ومعصميها، وما ترتدي من أثواب ملونة أيضاً، حيث السحر اللوني قادر على أن يجذب الرائي كي يبصر الجمال والملامح الأخاذة وراء سواد البشرة، وحتى السواد ما هو إلا جزء من جمال لا يبصره إلا العاشق المتأمل في وجده العظيم، إذ ابيضاض الجسد أو اسوداده لا يعني شيئاً للعاشق الرائي ما دامت هنالك ملامح رقيقة ومتجانسة هي الغاية من روح التناسق الذي نجده في جسد المرأة الأفريقية. النساء والجرار في لوحة النساء الثلاث والجرار نجد بيرسي يمازج الأحمر والأخضر والأزرق والأصفر الملتف حول سواد الجسد، وتلك النظرة الأنيقة والحركة الموسيقية البارعة لأذرع الفتيات ما بين الجرار فوق الرؤوس والسعة في أسفل أجسادهن كالجرار. يزخرف بيرسي بيلان كل لوحاته، الأبواب الخشبية، أكواخ القش، ملابس النساء، عمائم الفتيان، رحلات الصيد، الطواحين، الجرار، قباب المساجد، ريشة الطاحونة، وجوه الطبول. في لوحة “برج العرب” يستخدم بيلان اصطفافات لونية بشكل عرضي في ثلاثة ألوان فقط هي الأحمر والأصفر والأخضر الغامق ويفصلها جميعاً بالأسود القاتم ليعطي البرج جمالية في إنارة الوجه. من جانب آخر لم يقدم بيلان أي تدرجات لونية، إذ يصبح اللون أحادي القيمة، النظرة، فهو الذي يعبر عن عالمه الخاص وغايته، وربما تعني التدرجات لديه حالة من الخفوت في اللون، وهذا ما لا يريده بيلان الذي يعبر في رسوماته عن النظرة السوسيولوجية للمجتمع الأفريقي الذي تعامل مع اللون بحدة وبانبهار. تحارب لوني من هذا المنطلق، نجد تحارباً لونياً وتصادماً في تجاور الألوان، حتى ليمكننا القول إن هذا التصادم يعبر عن تصادم المشاعر حول اللون بعينه، ولهذا السبب نراه يلجأ إلى أن يمازج بين اللون والزخرفة، إذ لم يعد اللون مبهراً، سائباً، منفلتاً في لغته التوصيفية، وعليه فإنه يظهر بجمالية أكثر حينما يضمه نسق زخرفي. إن النسق الزخرفي الذي يضم لوناً معيناً يزيد اللون بريقاً وجمالية، ولهذا كان هذا التزاوج في جميع أعمال بيرسي بيلان. أما لوحات الزهور والأشجار والتجريد، فإنها لوحات عامة يشترك فيها الفنانون بشكل واضح وبلا تميز إلا ما ندر عندما تصبح اللوحة تأملية عميقة ذات بعد انطباعي يعكس مشاعر الفنان ورؤاه إزاء العالم. ومن هذا المنطلق يقول بيرسي بيلان الذي تعلم فن الرسم وهو في عمر السابعة “أبحث في أعمالي عن نقاط الجمال في الموجودات والوجوه ومباهج الحياة”. ويضيف: “لوحاتي عبارة عن انعكاس للظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية في حياتي”. ونقول: “إنها انعكاس تمثيلي لما يفكر به بيرسي بيلان وما يعتلج من مشاعر في داخله”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©