السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مقطوع من شجرة !

مقطوع من شجرة !
15 أغسطس 2013 20:46
نورا محمد (القاهرة) - لم يكن يقصد أن ينقطع عن أسرته وأهله، بعد أن انتقل إلى العمل في مدينة بعيدة، وأصبح في موقع مرموق، ووظيفة عالية، فقد تم تعيينه في منصب رفيع، يفرض عليه الالتزام بضوابط العمل والمهام الملقاة على عاتقه، ومن ناحية أخرى، فإنه يريد أن يثبت كفاءته، ويطمح إلى المزيد من الترقي، أصبحت زياراته لأبيه وأمه العجوزين وإخوته مقصوراً على الأعياد فقط، حتى في الإجازات الرسمية لا يتمكن من ذلك لضيق الوقت، حينها كانت العلاقات تقتصر على هذه الزيارات الخاطفة التي لا تزيد على يومين، فلم يكن في تلك الأيام أي وسائل للاتصال، لا موبايلات ولا هواتف منزلية ولا عمومية. القطيعة كانت لهذه الأسباب، لكن في الوقت نفسه يرفض أن يزوره احد من أسرته، لأنه في داخله لا يشرف بأحد منهم أمام زملائه وأصدقائه، فيرى أن أقاربه من البسطاء أو الفقراء لا يرقون إليه في المستوى الذي وصل إليه، ووصل به الحد إلى التصريح بذلك، فلم يجرؤ أحد بعد ذلك منهم لزيارته، لأنه قد يسمع ما لا يرضيه، فأصبحت القطيعة إجبارية بينه وبين أهله، وخاصة أفراد أسرته، حتى عندما يتوفى أحد أقاربه من الأعمام والأخوال وغيرهم تكون زيارته لساعات عدة، لا يكمل اليوم ويعود أدراجه، فلا يستطيع العيش مع هؤلاء الذين ليسوا في مستواه. فكر الشاب في الزواج، وكان اختياره فردياً من جانبه وحده، العروس كانت زميلته في الجامعة، اتخذ قراره واتفق مع أسرتها، وتم تحديد موعد الخطوبة من دون الرجوع لأبيه ولا أمه، ولم يأخذ رأي أحدا من إخوته، وهو يقصد ما يفعل، كل ما فعله أنه أخبرهم بموعد الخطوبة وعليهم الحضور، ولولا أن أسرة العروس طلبت منه ذلك ربما كان له موقف آخر بأن يتم كل شيء من دونهم، لم يكن الأهل ينتظرون منه غير ذلك، واكتفوا بهذا القدر من التعامل بإخبارهم وشكروا له هذا، لكن ما خفي كان أعظم فقد اكتشفوا أيضاً أنه ما دعاهم إلا لأنه يريد منهم الكثير من المال الذي يفوق إمكاناته وإمكاناتهم، ومع ذلك اعتبروا أن تلك مسؤوليتهم نحوه وتحملوا فوق طاقتهم، اضطروا لبيع قطعة أرض من التي يملكونها ويعملون بها ومصدر رزقهم، وقدموا ثمنها له عن طيب خاطر حتى يشتري شقة تليق به وبمكانته، لكنهم بعد ذلك لم يعرفوا ماذا فعل ولا طريق مسكنه، ولم يدعهم على حفل الزواج لأن علية القوم سوف يحضرون زفافه ولا يشرفه هؤلاء ولا يجوز لهم الحضور. زيارة اعتبروا كل ذلك عاديا فهم متسامحون بفطرتهم، ومر عام على تلك المناسبة ولم يعرفوا عنه أي شيء فقرر أبوه أن يزوره في بيته ليطمئن عليه، توجه إلى هناك وهو يحمل له الهدايا حسب ثقافته وحسب إمكاناته، لحوماً وفواكه وسلعاً غذائية مختلفة، ولم يجد الرجل العجوز الترحيب اللائق به باعتباره أباً ولكبر سنه، وقد لاحظ نفور زوجة ابنه من تلك الزيارة، وقد تأففت ولم تقم بكرم الضيافة معه حتى مثل أي رجل غريب، ومع ذلك تسامح الرجل في حقوقه بطبيعته البسيطة، ولم يعترض الابن على تلك المعاملة، كما لو كان موافقاً عليها، اضطر العجوز للعودة بسرعة وقطع الزيارة على الرغم من أنه كان يعتزم قضاء يومين أو ثلاثة، أسرها في نفسه، ولم يبدها لزوجته التي بلغت من الكبر عتيا حتى لا تغضب أو يكون في داخلها شيء من ولدها، مع أنه تأثر وعانى كي يسامح ويمرر الموقف، واتخذ في داخله قراراً أن تكون هذه آخر زيارة لولده مهما حدث ولو أراد الولد أن يراه فعليه أن يقوم هو بالزيارة. مرت سنوات على هذا الوضع المتجمد في العلاقات الأسرية، توقفت خلالها الاتصالات على الرغم من ظهور الهواتف بكل أنواعها وانتشار خدماتها في كل مكان، انجب ثلاثة أطفال، بنتا وولدين، لم يروا أقاربهن ولم يروهم، لا يعرفون من هم أعمامهم ولا أبناء عمومتهم، والصغار يكبرون والقطيعة مستمرة، وفي الجانب الآخر تتواصل الأم مع إخوتها وأخواتها وأبنائهم وتتبادل معهم الزيارات، ولا سبب لذلك إلا أن الزوجة هي التي وضعت خريطة طريق التعامل وصدق عليها ووافق الزوج وارتضى ذلك على الرغم من أن أقاربها ليسوا أحسن حالاً من أقاربه، حيث إن أباها موظف صغير وبسيط جداً ولم يكن صاحب جاه ولا منصب ولا مال، لكنها استطاعت أن تفرض رأيها، أرادت أن تفصل أبناءها عن أقاربهم بحجة الفارق بينهم، لا ترغب في التعامل معهم لكي لا يكونوا مثلهم، ولم يكن هذا مبرراً إلا أنها تقصد الانفصال التام عن أصل زوجها الذي وافقها على الأقل بالسكوت على تصرفاتها. مات أبوه ثم أمه تباعاً فذهب مثل الغرباء كأنه يريد أن يقدم واجب العزاء، بينما وجدت زوجته فرصة لتأكيد خطتها فلم تقدم العزاء، فهذا بتر لزوجها من الأصول وخلعه من جذوره، ومن جانبه لم يطالب بحقه في الميراث ليس ترفعاً ولا زهداً فيه، وإنما لأنه لا يريده في هذا الوقت، وكبر الأبناء وجاء من يخطب ابنته التي حصلت على بكالريوس الطب، وحدث أكثر مما حدث من قبل، فلم يخبر أحداً من إخوته، ولم يحضر أي منهم الحفل ولم يعلموا أصلاً بموضوع الخطبة إلا بعدها بأشهر عدة، بينما حضر جميع إخوة وأخوات الزوجة وأبنائهم، وكان هو والد العروس يبدو بلا أقارب أو مقطوعاً من شجرة، حتى لاحظ أقارب العريس ذلك وتهامسوا فيما بينهم في هذا الأمر، ولم يستطيعوا أن يجهروا به فهو محرج. شعرة معاوية أصبحت العلاقة بهذا الشكل لسنوات طويلة، خاصة مع تجاهل بل إلغاء كل صلات الرحم، وكأنها لم تكن، وليست هناك نية لإصلاح الخطأ فلم يعد هناك مجال، لذلك فقد كبر الصغار وتقدم الشباب في السن، ولم يعد ما يمكن البناء عليه من أسس أو علاقات قديمة، كما زاد على ذلك أشياء في النفوس من بعض التصرفات المتعمدة لعدم التقارب، بجانب انشغال الجميع في أحوالهم وحياتهم، وقد كانت كل اللقاءات التي تتم مصادفة بلا ترتيب، وفي أماكن عامة فاترة بلا حميمية، وكل من يحاول أن يخطو خطوة إلى الأمام كي تبقى بينهم شعرة معاوية ولا تنقطع يجدها قد انقطعت بالفعل ويفشل في رأب الصدع، خاصة أنه لا يجد أدنى استجابة حتى ولو اللقاء بوجه طلق بشوش وحتى هذا لم يكن له وجود، فتموت كل المحاولات قبل أن تولد، كما كان يحدث في الماضي، ومع أن الجميع قد يستشعرون تلك النتائج، لكنهم ما زالوا يحاولون ويتمسكون بالأمل. أما ما زاد الطين بلة أن الصغار لا يعرفون بعضهم حتى إذا التقوا مصادفة في أي مكان، وها هي خطة زوجته قد نجحت، وقد كانت تعتزم أساساً أن تفصل بين أسرتها وأقارب زوجها، ولم تسمح بالاختلاط أو التقارب، لأنها كانت تريد أن تستحوذ على زوجها لنفسها ولا يكون أبناؤها مثل بقية أبناء إخوته في المستوى المعيشي والاجتماعي، وأن تخرجه من تلك البيئة التي نشأ فيها، وتجعله يتمرد عليها، وقد كان لديه الاستعداد لذلك، وسارت الخطة كما كانت تريد وتحلم، وفي كل مرة تنجح، لأنها كانت ماكرة وتتصرف بدقة وتطرق الحديد وهو ساخن، ولم تتوقف منذ ارتبطت به وتزوجته قبل خمس وعشرين سنة. فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان ولم يتوقعه أحد، فقد أصيب بأزمة صحية حادة أدخل على أثرها المستشفى بعد يوم عمل عادي، وقد كان في كامل صحته، بل يضرب به المثل في الحيوية والحركة والعافية، لكن لا ينفع ذلك مع قدر الله، وخلال اقل من ساعة انتقل إلى جوار ربه، وكانت المفاجأة صعبة وقاسية، صحيح أن الرجل كان في منصب رفيع وقامت جهة عمله بترتيب الإجراءات للدفن والجنازة، ثم إقامة سرادق العزاء، لكن بشكل رسمي، وليس من أهله وأقاربه ومحبيه، كان الحاضرون منهم قليلين لم يكن إلا إخوته وبعض أبنائهم أتوا ولم يتمكنوا من إلقاء النظرة الأخيرة عليه لأنهم لم يخبروهم بالوفاة في الوقت المناسب بسبب العلاقات المقطوعة وكأنه ليس منهم. بعد الرحيل تغير الوضع وأراد الأعمام أن يمدوا أيديهم لابني أخيهم المتوفى، والتغاضي عما حدث في الماضي وعفا الله عما سلف، ويجب أن تعود المياه إلى مجاريها الطبيعية، وكما يجب أن تكون، عادوا ليزوروهم ويتواصلوا معهم، وقد وجدوا استجابة غريبة لم تكن متوقعة فها هي أرملة أخيهم تمد لهم يديها، بل وتحث ابنيها على التواصل مع أعمامهم وأبناء عمومتهم وتبادل الزيارات، وقد تغيرت الصورة بشكل كبير، اعتذرت وبكت وهي تتشح بالسواد، وتؤكد أنها لم يكن لها يد فيما مضى من قطيعة، وإنما هي الظروف التي كانت خارجة عن إرادة الجميع وليست بالاختيار ولم تكن متعمدة أبداً ولو كان هناك خطأ فما زالت فرصة التصحيح قائمة، ولم تقف عند هذا الحد، بل توجهت بنفسها لزيارتهم وهي تحمل لهم الملابس والهدايا وحتى لعب الأطفال، سعدوا بها واستقبلوها بدموع الفرحة ومدوا أيديهم بالسلام ونسيان الماضي، وعادوا لزيارتها في منزلها بهدايا من التي كانوا يحملونها لها من قبل وتوقفوا بسبب القطيعة. ثلاثة أشهر مضت بعد الرحيل حتى عادت لزيارة أهله مرة أخرى، وبالهدايا أيضاً، لأنها وجدت أن لها تأثيراً في نفوسهم ويقدرون لها ذلك، واستغلت الحديث عن رحيل زوجها ودمعت العيون على فراقه، وطرحت رغبتها في تزويج ابنيها وأنها تحتاج إلى ميراث زوجها الذي لم يحصل عليه حتى الآن، ووجدت استجابة منهم فهذه حقوق ولا أحد يطمع فيها، وتم تقدير الأنصبة الشرعية وحصلت على حق زوجها المتوفى كاملاً وعادت وهي تشكر لهم حسن تعاونهم معها، وبدأت بالفعل البحث عن عريس لابنها الأكبر، وتمت الخطبة من دون أن تدعو أحداً من أعمامه وأبنائهم، ولم تخبرهم بموعد الخطوبة، نفس الذي حدث عند خطوبة ابنتها تكرر مرة أخرى، وتم ذلك أيضاً عند الخطوبة للابن الأصغر، وعادت القطيعة متعمدة كما كانت، فما عادت إليهم إلا لتحصل على الميراث كانت خدعة، ونجحت فيها، أدركها الجميع، ولا فائدة من الحديث عن التواصل مرة أخرى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©