الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مطاردة النسيان.. أو ترويض الأسى

مطاردة النسيان.. أو ترويض الأسى
17 أغسطس 2011 23:13
كيف يمكن للحزن الأشبه بطيف سوداوي عابر، أن يتسيد ويسيطر على الشخوص المكلومين والمفجوعين بفقدان أقرب الناس إليهم، وكيف يمكن لهذا الحس المعتم والمتبخر أن يتحول فجأة إلى كتلة من القار تسكن الروح ولا تغادرها، كي يمعن الحزن بعد ذلك في تصدير أنساقه الجحيمية والكارثية، وكي يتشكل على هيئة مرض عقلي أو عضوي قادر أن يجرف هؤلاء الشخوص أو الكائنات الهشة ـ وفي لحظة عمياء وهائجة ـ نحو اليأس المطلق والسقوط الأبدي والتهاوي المتكرر الذي لا قاع له كي يلم ضحاياه، ولا سقف له كي ينجّيهم ويسعفهم من هذا السقوط المنهك. يطلق عادة على هذه المتلازمة النفسية مصطلح: “الملانخوليا” أو الكآبة الضارية والتي يحاول فيلم “حفرة الأرنب” Rabbit Hole للمخرج جون كاميرون ميتشل، مقاربتها وتلمسها والولوج إلى أعماقها الداكنة كي يخرج بصيغة سينمائية تتضمن انتقالات سردية وبصرية رشيقة تفتح منافذ للنسيان، وتهيئ طرائق أو بدائل لترويض الأسى، خصوصا مع هكذا حالات ومصائر متأزمة نراها وهي تتكرر من حولنا في أكثر من قصة وموقف. الأم المفجوعة يروي الفيلم حكاية الأم (بيكا) ـ تقوم بدورها وفي عودة متألقة للأدوار المركبة: نيكول كيدمان ـ والتي تخسر ابنها الوحيد ذا الأربع سنوات بعد حادث دهس يتعرض له أمام ناظري والدته، وذلك عندما يقوم الطفل بالخروج إلى الشارع وملاحقة الكلب الصغير الذي تعتني به العائلة. تفتتح أولى لقطات الفيلم بعد مرور ثمانية أشهر على ذلك الحادث المروع، عندما نرى الأم وهي تعتني بشتلاتها الجديدة في الحديقة وتفاجأ بجارتها وهي تدوس ومن دون قصد إحدى هذه الشتلات، فتكون ردة فعل الأم بيكا قاسية جدا وكأن الذي دهس تحت الأقدام هو كائن حي وليس مجرد شتلة يمكن تعويضها بسهولة، تنسحب الجارة وهي مذهولة، بينما يستغل المخرج هذه اللقطة الافتتاحية بالذات كي يقحم المتفرج ومنذ البداية في حقل شائك وملغز ومشوق أيضا للتواصل مع “بيكا” التي يبدو أن شخصيتها القلقة والمتحفزة تخبئ وتخزّن الكثير من المفاجآت والانعطافات غير المتوقعة. في المقابل نرى الأب “هووي” ـ يقوم بدوره الممثل المتمكن من أدواره دائما آرون إيكهارت ـ وهو يحاول أن يخرج زوجته من دائرة التفكير المتواصل والمهلك فيما حدث، ولكن المشكلة أن الأب نفسه يعاني من شرخ داخلي ومن صراع متأجج مع فكرة النسيان والتخلي نهائيا عن صورة وطيف ابنه الصغير الذي كان يملأ المنزل بشغبه ومشاكساته وبراءته الطاغية. ويبدأ الفيلم تدريجيا بالكشف عن جذور ومنابع التوتر النفسي الذي بات يهيمن على هذا المنزل المبتلي بأحزانه وبأصداء وانعكاسات الذاكرة الهانئة والمبهجة التي كانت تظلله وتتوزع في أرجائه قبل الرحيل الأبدي لـ”داني” الصغير، والذي تحول غيابه المفاجئ إلى كابوس وخرائب وتشوهات روحية لم يستطع لا الأب ولا الأم تجاوزها رغم كل المحاولات الفردية ورغم كل الدعم المعنوي من الأصدقاء وأفراد العائلة الآخرين. وللانتقال من هذه الضفة المروعة والمليئة بالحطام الجوّاني والصراخ المنكتم والنائي، تقترح الأم مغادرة المنزل نهائيا والتخلص من كل أثر أو ملمح يذكرها بطفلها داني، فتقوم أولا بنقل الكلب إلى منزل والدتها والتخلص من ملابس وكتب وألعاب الطفل، ولكن عندما يكتشف الأب ذلك تنتابه حالة من الهياج والغضب الذي كان يغلي تحت طبقة سميكة من التجاهل والغفلة والصمت، فيبدأ في إعادة الأشياء إلى مكانها ويعيد الكلب إلى المنزل ويرفض تماما فكرة مغادرة المنزل، ويعترف لزوجته في لحظة انهيار عاطفي أنه لا يصدق أن طفله قد غادر المنزل، وأن كتبه وألعابه وملابسه هي البرهان والدليل على إمكانية عودته في أي لحظة. وبمثل ردات الفعل هذه والتي يختلط فيها الواقع بالهلوسات ويمتزج فيها الألم المظلم مع الخديعة المضيئة والشفافة، ينسج الفيلم خيوطه السردية على مهل ويسحب ببطء الستارة الكثيفة التي كانت تحجب قسوة وشراسة الخسارة التي عصفت بهذه العائلة الصغيرة، وتحديدا بالأم والتي تصبح شخصيتها المحيرة بمثابة الوسيط الحيوي أو رمانة الميزان التي يتحرك على إيقاعها وتصرفاتها غير المتوقعة كل التفاصيل الأخرى والمتشعبة التي يستثمرها المخرج جيدا لإيصال شكل وصورة العزلة الفردية في أقصى حالاتها تطرفا واشتباكا مع العذابات المغلقة والمستترة. بدائل ومصادفات وللبحث عن بدائل وحلول أخرى لحيازة الطمأنينة والسلام الداخلي يلجأ الوالدان لأحد النوادي الاجتماعية التي تمارس أسلوبا خاصا للعلاج من خلال الجلسات الجماعية لآباء خسروا أبنائهم ويعيشون ظروفا متشابهة بحيث تبدأ كل عائلة بسرد قصتها كنوع من التنفيس والتعبير عن المشاعر المكبوتة والمطمورة في الأعماق، وبعد عدة جلسات تترك بيكا المجموعة نهائيا، لأنها رأت الآباء وكأنهم يتنافسون وبشكل استعراضي ومبالغ به على جائزة أكثر القصص بؤسا ومأساوية، كما أنها احتجت وبعنف على الأعذار والتبريرات الدينية والقدرية التي لجأت إليها المجموعة كنوع من الخلاص الروحاني أو كمعبر افتراضي ـ حسب تفسير بيكا ـ للتحايل والهروب من الذاكرة الاستعادية البشعة، ومن صورة الموت والفقدان في أكثر أشكالهما التدميرية حضورا وإلحاحا. ولأن المصادفات العجائبية يمكن لها أن تحقق ما لا يمكن أن يحققه التدبير المخطط له، تقابل الأم الشاب المراهق الذي تسبب في مقتل إبنها ـ يقوم بدوره بعفوية وبتماه مطلق مع الدور المصاغ على الورق الممثل ميليس تيلر ـ وبدلا من التصرف الانتقامي والتهجمي الذي يمكن أن يبدر في مثل هذه المصادفات المرة، تتصرف بيكا بهدوء وتبدأ في ملاحقة القاتل للتعرف على طبيعة حياته، وعندما يتواجهان أخيرا تكتشف حجم البراءة واللطف الذي يتمتع بها هذا القاتل والذي يعاني هو الآخر من فقدان والده، ما يدفعه لرسم قصص وهمية حول الأكوان المتجاورة وحول (حفرة الأرنب) التي يخترعها في رسوماته كي يتعرف على والده مجددا وكي يتحاور معه ويجسده ولو كان ذلك من خلال وسيط فني وتخيلي وهو الرسم، أومن خلال الإيمان بوجود حياة أخرى يمارس فيها الراحلون حياتهم الجديدة في عالم نوراني يخلو من الشقاء والعذابات الأرضية، ومن خلال هذه المصادفة المذهلة والآسرة في ذات الوقت تبدأ بيكا في التعامل مع أزمتها الوجودية والنفسية بشكل مختلف وتبدأ في مقارنة وضعها مع وضع الآخرين الذين يخترعون لأنفسهم مناطق جديدة وغير مكتشفة تعيد ترمم كياناتهم المحطمة وتذكرهم بالهوامش المضيئة في الحياة والتي غالبا ما نتجاهلها وسط عاصفة من الويلات والأحزان والتي لم نفكر ولو للحظة في الالتفاف إليها والبحث عن طرق وحيوات قريبة ومجاورة لنا، هي في الأصل أكثر حنوا ووضوحا ودفئا من الفضاء الممزق والقاحل الذي حاصرنا طويلا وانجذبنا له بعماء عبثي وغير مفسر. فيلم “حفرة الأرنب” مقتبس من نص مسرحي تم تجسيده مسبقا على مسرح برودواي، وهو نص فائز بجائزة البوليتزر للمؤلف ديفيد ليندساي، وتطلب تحويله إلى نص سينمائي الكثير من المعالجات السينمائية التي شارك بها مؤلف النص المسرحي نفسه، وهي معالجات استطاعت أن تتخلص من الحيز المكاني الضاغط لميزانسين المسرح وكان لأداء الممثلين في الفيلم وخصوصا نيكول كيدمان دورا في تعزيز الجانب البصري الشاسع والمكثف في آن واحد، كما أن الفيلم عموما ورغم مناخه الكئيب لم يلجأ للبكائيات الصارخة وذرف الدموع كيفما اتفق كي يقدم قصته للمتفرج، والأكثر من ذلك أن الفيلم تخللته الكثير من المواقف الساخرة التي خففت من وطأة الحزن على الممثلين وعلى المتفرجين أيضا، وبدلا من الكليشيهات المتسرعة أو التقليدية التي يمكن أن يلجأ لها أصحاب المعالجات السطحية والمستهلكة، فإن كلا من الكاتب والمخرج في فيلم “حفرة الأرنب” تسللا بخفة وذكاء نحو ذاكرة المتفرج ونحو وجعه الذاتي كي ينشئا خطابا مشتركا بين المتلقي وبين شخوص الفيلم، ومن النادر أن يفلح عمل سينمائي يقارب هذه المواضيع التراجيدية في الوصول إلى هذه النقطة الحرجة من التماهي مع القصة ومن دون الاستعانة بمشاهد مباشرة وفجة، ويكمن نجاح فيلم “حفرة الأرنب” أيضا في تأكيد مقولته من خلال التفريعات المتنوعة للحبكة، والتأني الدرامي في الوصول إلى ذروة التأزم الذاتي لشخصية الفيلم الأساسية، ونعني بها هنا شخصية (بيكا) التي عاشت حالة مأساوية ومدوخة في مواجهتها المباشرة مع الألم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©