الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايات عن المكان والإنسان..

حكايات عن المكان والإنسان..
17 أغسطس 2011 23:12
نعود مرة أخرى إلى الرمال العربية، إلى سحر الشرق، نبحث من جديد، من خلال هذا الكتاب الذي يفرض نفسه في كل مناسبة وفي كل ظرف تتغير فيه أحوال المنطقة، فقد طبع هذا الكتاب المرجع باللغة العربية ثلاث مرات، حيث صدرت الطبعة الأولى منه عام 1991، والثانية عام 1992، والثالثة 1995. أما مؤلفه السير ويلفرد ثيسجر، فقد احتل مكانة مرموقة بين الأشخاص الكبار القلائل الذين جابوا منطقة شبه الجزيرة العربية، ليس بوصفه مستكشفاً فقط، وإنما ككاتب يتمتع بأسلوب يقوم على دقة الوصف ورسم الصورة، في إطار خيال خصب محايد ودقة في التعبير ووصف الشخصيات والأماكن، فلقد وصف رحلاته بين أعوام 1945 و1950 حول وعبر الربع الخالي، تلك الصحراء التي تبلغ مساحتها نصف مليون ميل مربع، والتي تشكل واحدة من أجمل وأقسى صحارى العالم، ولم يسبق لرحالة قبله أوروبياً كان أم عربياً ـ ما عدا البدو الذين يعيشون هناك ـ أن تجرأ على عبور تلك الرمال الخاوية مرتين. وكان الرجل مقتنعاً بأنها “واحدة من أماكن قليلة باقية ترضي رغبتي الجامحة بأن أزور مناطق لم يسبقني أحد إليها”، وأنها المكان الذي “يوفر راحة البال النادرة التي تأتي مع الوحدة ووفاء البدو وسط ظروف بالغة القسوة والصعوبة”. إن خبرة ثيسجر ومعرفته بخفايا الرمال العربية وطبيعتها وشعبها ونمط الحروب القبلية وأسلوب الحياة اليومية فيها، فريدة حقّاً، وستبقى كذلك لأن العالم الذي يصفه أصبح مختلف تماماً بعد أن طالته يد التغيير، بعد أن تحولت الرمال إلى مشروع اقتصادي. إن أهمية هذا الكتاب ستظل باقية إلى أمد بعيد ولأسباب عديدة منها أن كاتبه الذي عايش الصحراء العربية معايشة إنسانية بالدرجة الأولى كان رحالة نادر القوة، وكاتباً من ذلك الطراز الذي يمتلك القدرة الجسدية والنفسية على كشف الجوانب غير العادية من الأحداث، تلك الجوانب التي اختزنها بدقة في ذاكرته أمداً طويلاً، لقد كان واحداً من أهم وربما آخر الرحالين البريطانيين الذين جالوا بين العرب، واقتفى بجدارة خطى العديد من الرحالة الذين عبروا المنطقة (بيرتون، دوتي، لورنس، فيلبي، توماس) ليقدم كتاباً ربما يكون الأكثر شمولية حول منطقة شبه الجزيرة العربية، وخير ختام لما كتب عنها، بما يعزز ثقافة صحراوية من نوع خاص. يتضمن الكتاب الذي يقع في 344 صفحة من القطع المتوسط نحو 17 عنواناً رئيساً تبدأ باستهلال، ومن ثم الحديث عن الحبشة والسودان والانطلاقة من ظفار ورمال غانم والاستعدادات السرية في صلالة والاقتراب من الربع الخالي، ومن سليل إلى أبوظبي والساحل المتصالح وإجازة في البريمي ورمال أم السميم المتحركة ورمال الوهيبة، ومن ثم الحديث مع شخصيات التقاها المؤلف خلال رحلاته المملوءة بالمعلومات ووصف العادات والتقاليد في إطار ثقافة الصحراء. هذا بالإضافة إلى ما يحتويه الكتاب من خرائط تعزز عمل التوثيق، واشتملت الخرائط بلاد الدناقل والسودان وشبه الجزيرة العربية والتوزع القبلي جنوبي الجزيرة العربية ومناطق المهرة. أبوظبي تثير الإعجاب في مقدمته للطبعة الصادرة عام 1991، كتب المؤلف: “عندما عدت إلى عمان وأبوظبي عام 1977، وذلك لأول مرة منذ غادرت المنطقة عام 1950، تملكني الامتعاض وخيبة الأمل بسبب التغييرات التي أحدثها اكتشاف وإنتاج النفط، فأسلوب الحياة البدوية التقليدية التي عشتها مع الرواشدة لمدة خمس سنوات لا تنسى، انتهى إلى غير رجعة بعد دخول وسائط النقل الحديثة، من سيارات وطائرات، وفي أبوظبي رأيت الأبنية الشاهقة ومصافي النفط تحتل ما كان في الماضي صحراء خالية، فخيّل إليّ أن المدينة ترمز إلى ما كنت أنفر منه، وتطيح بما تبقى من أحلامي في العودة إلى الجزيرة العربية. ثم زرت أبوظبي مرة أخرى في فبراير 1990، لحضور معرض لصوري أقامه المركز الثقافي البريطاني تحت رعاية الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وفي هذه المرة روّضت نفسي على تقبّل التغيرات الحتمية التي حدثت في الجزيرة العربية، والتي تتجسد في الإمارات العربية المتحدة. لقد أصبحت أبوظبي اليوم مدينة حديثة تثير الإعجاب بشوارعها المظللة بالأشجار وحدائقها الغناء، ولقد بقيت في الإمارات هذه المرة 12 يوماً تأثرت خلالها بالغ التأثر بحارة الترحيب والحفاوة والتكريم اللذين لقيتهما في أبوظبي والعين ودبي والشارقة”. بالمجمل العام، يصف كتاب “الرمال العربية” الأسفار التي قام بها ويلفرد ثيسجر الملقب بـ”مبارك بن لندن” التي قام بها إلى في منطقة الربع الخالي، وما حولها بين أعوام 1945 و1950، ولم يكن الأوروبيون في ذلك الوقت قد شاهدوا الكثير من خفايا تلك المنطقة، ويقدم المؤلف وصفاً لرحلة قام بها متنكراً داخل عمان، وذلك في عام 1947، ونجتزئ مما كتبه حول هذه الرحلة: “وحتى بينما كنت أنتظر أن يكتشفوا هويتي، لاحظت أن سحر هذه الرحلة بالنسبة لي، لم يكمن في مشاهدة هذه البلاد فقط، وإنما في مشاهدتها تحت هذه الظروف، فالمشاق والأخطار اليومية والجوع والعطش والتعب من السير الطويل، تعكس الظروف القاسية لحياة البدو التي سعيت إلى التأقلم معها، فكان ذلك أساس الصحبة التي وحدتنا. انطلقت جوا إلى صلالة التي كانت منطلق رحلاتي إلى داخل الربع الخالي، كانت صلالة آنذاك قرية عربية صغيرة محاذية لقصر السلطان، وقد تحولت الآن إلى بلدة فيها إشارات سير ضوئية، ولدى هبوطي من الطائرة استقبلني كل من بن كبينة وبن غبيشة، وكانا مرافقي الدائمين طيلة خمسة أعوام لا تنسى من حياتي”. يكشف المؤلف في وصف دقيق وشائق عن خبايا رحلته ما بين سليل إلى أبوظبي، حيث بإمكان القارئ من أبناء الجيل الجديد اكتشاف المزيد عن حياة الصحراء وثقافتها وعادات وتقاليد ساكنيها في ذلك الوقت، حيث ترد مفردات كثيرة ذات صلة بالمكان مثل القهوة والخيام وبيوت الشعر وقطعان الماعز، والبنادق القديمة والقناديل التي تضاء بالزيت، والصراع بين القبائل، ومقتفي الأثر، والمجالس التي تعقد في الفضاء الصحراوي الجميل، ويقول المؤلف في هذا السياق: “في رحلات سابقة، كنت أجهد لفهم ما كان يقوله رفاقي. أما الآن وعلى الرغم من أنني لا أزال أتكلم العربية بتمهل وأعتبر نفسي ضعيفاً في اللغات الأجنبية، لم أعد أنسحب من مجالس مناقشاتهم لأنني لا أستطيع فهماً، بل أصبح بإمكاني أن اتبع أحاديثهم بكل سهولة”. وفي وصف هذه الرحلة الشاقة إلى أبوظبي ثمة معلومات مهمة يوردها المؤلف حول قبائل المنطقة، وحول الظروف المعيشية القاسية في الصحراء، حتى يصل بنا إلى منطقة ليوا التي وصلها بعد أكثر من ثلاثين يوماً من التدقيق في جغرافية المكان، متعرضاً لحالات الجوع والعطش التي كانت تصيبه ورفاقه، بالإضافة إلى الغارات الليلية التي كانت تقوم بها قبائل على أخرى، وغالباً ما كانت تعقد المصالحات بينها في إطار قوانين وتقاليد الحياة البدوية، ومن ثم يسترسل في شرح الكثير من التفاصيل عن حياة الناس وعلاقاتهم إيذاناً بتشكل الدولة، ويقول المؤلف: “أصبحنا عند الطرف الغربي لـ(ليوا) التي امتدت شرقاً لمسافة ثلاثة أيام على حد قول دليلنا، وكنت أريد أن استكشف هذه الواحة الشهيرة، لكن نياقنا كانت مرهقة ونحن أنفسنا كنا متعبين، وقد استهلكنا كل الطعام تقريباً، وكان من الصعب شراء شيء هنا غير التمر، كنت أعرف أنه ينبغي لنا أن نذهب إلى أبوظبي مباشرة، وكنت أرجو مخلصاً أن أعود إلى هذا المكان في يوم من الأيام. مررنا بمستوطنتي (قطوف) و(ظفير)، كان النخيل مزروعاً بمحاذاة المنبسطات الملحية المتقاربة تحت كثبان عالية ذات جوانب شديدة الانحدار. كان العرب هناك من (بني ياس) يعيشون في حجرات مربعة مصنوعة من سعف النخيل، ومبنية على المرتفعات المشرفة على مزارع النخيل من أجل البرودة، وخلال الصيف ذهب كثيرون منهم إلى أبوظبي للانضمام إلى أسطول صيد اللؤلؤ كغطاسين”. أبعاد سياسية من الفصول المهمة في الكتاب ما جاء تحت عنوان “الساحل المتصالح”، وفي هذا الفصل تحديداً يلقي المؤلف أنواراً كاشفة على الأبعاد السياسية والاقتصادية في المنطقة، حين وصوله إلى أبوظبي، وكيف كان له لقاء تاريخي بالشيخ شخبوط حاكم أبوظبي، وشقيقيه هزاع وخالد، ونجتزئ من حديث المؤلف حول ملامح هذا اللقاء: “طلب الشيخ شخبوط تقديم القهوة، وأحضرها خادم يرتدي قميصاً بلون الزعفران، وبعد أن شربناها وأكلنا التمر، سألنا الشيخ شخبوط عن رحلتنا، فقلت له إنني زرت مشارف (ليوا). وقال هزاع: (سمعنا شائعات من بعض (العوامر) أن مسيحياً كان هناك، ولم نصدقهم، لم نصدق أن أوروبياً يمكنه أن يأتي ويذهب من دون أن يراه احد، وكما تعلم، لا يمكن الاعتماد على أخبار البدو في كثير من الأحيان، وكنا نظن أنهم يتكلمون عن توماس الذي قطع الرمال قبل ستة عشر عاماً”. في هذا اللقاء الذي يعتبره المؤلف من اللحظات المهمة في رحلته إلى المنطقة يذكر أن الشيخ شخبوط ناقش مسألة الحرب في فلسطين، وانتهى بنقد عنيف لليهود. ثم يستعرض جوانب مختلفة خلال إقامته لمدة عشرين يوماً في أبوظبي، وقد وصفها آنذاك بقوله: “كانت أبوظبي بلدة صغيرة تضم حوالي ألفي نسمة، وكان الشيوخ يقومون بزيارتنا كل صباح، وكان الشيخ شخبوط بشخصيته المهيبة وعباءته السوداء يتقدم إخوته قليلاً، ويتبعه حشد من الحراس المسلحين، فكنا نتكلم لساعة أو أكثر ونشرب القهوة، وبعد أن يغادرونا نقوم بزيارة السوق، حيث نجلس مترعين في الدكاكين الصغيرة، نتبادل الأحاديث ونشرب المزيد من القهوة العربية أو نمشي بمحاذاة الشاطئ، نراقب تجديد مراكب البوم وطلائها بزيت سمك القرش وتجهيزها لموسم صيد اللؤلؤ”. لقاء استثنائي يستعرض المؤلف في رحلته وصوله إلى “البريمي”، ومن ثم “المويجعي” والأخيرة واحدة من ثماني قرى في واحة “البريمي”، وكان الشيخ زايد يعيش في هذه القرية، ويتحدث المؤلف عن هذه الأجواء بقوله: “عندما خرجنا من الكثبان الرملية إلى سهل حصوي شاهدت حصنه، وهو فناء واسع محاط بسور يبلغ ارتفاع جدرانه الطينية عشرة أقدام، وإلى يمين الحصن وخلف جدار متداع نصف مطمور بالانحرافات الرملية، مزرعة من الأشجار النخيل المغبرة غير المتناسقة، ووراء النخيل ينتصب (جبل حفيت) المنعزل المتموج السطح على بعد حوالي عشرة أميال وبارتفاع خمسة آلاف قدم، وكنت أستطيع أن أرى من فوق الحصن معالم باهتة لجبال عمان البعيدة”. يصف المؤلف الشيخ زايد بعد أن حظي بلقاء استثنائي معه فيقول عنه في الصفحة 272 من الكتاب: “كان رجلاً قوي البنية جداً، يبلغ من العمر حوالي ثلاثين عاماً، وجهه قوي ينم عن الذكاء، وكانت عيناه خارقتين يقظتين، وكان يعطي الانطباع بأنه شخص هادئ، قادر، ذو عزيمة، وكان لباسه بسيطاً جداً، ويتميز عن رفاقه بعقاله الأسود وطريقة ارتدائه كوفيته التي كانت ملقاة على كتفيه بدلاً من أن تكون ملفوفة حول رأسه وفقاً للعادات المحلية، وكان يتمنطق بخنجر وحزام رصاص، وبندقيته ملقاة على الرمال إلى جانبه. كنت أتطلع على الدوام إلى اللقاء به، فلقد كان يتمتع بشهرة واسعة بين البدو الذين أحبوه بسبب تصرفاته غير الرسمية ومودته، واحترموا قوة شخصيته وفطنته وقوته الجسدية، كانوا يقولون عنه بإعجاب: زايد بدوي، له معرفة بالنياق، يمتطيها كواحد منا، ويجيد إطلاق النار، ويعرف كيف يقاتل”. ينهي مبارك بن لندن رحلته الشائقة التي تجمع بين الحلاوة والمرارة الشيء الكثير، ينهيها من مطار الشارقة بعد أن ودّع أصحابه ورفاقه الذين لازموه في مشواره المحفوف بالمخاطر خاصة كل من “بن كبينة” و”بن غبيشة”، ونقتطف من ختام الرحلة هذا الوصف وتلك المشاعر الجميلة التي سجلها الرجل بعد أن أيقن أن لكل شيء نهاية، فيقول: “في الأمسية الأخيرة، بينما كان (بن كبينة) و(بن غبيشة) يحزمان الأشياء القليلة التي اشترياها، نظر كودري إلى الحزمتين الصغيرتين، وقال: (من المحزن حقاً أن يكون هذا هو كل ما يملكان). فهمت ماذا كان يقصد؛ لأنني أحسست بالشيء نفسه مرات كثيرة، ومع ذلك كنت أعلم أن الخطر بالنسبة لهما لم يكن في مشقة الحياة، وإنما بالضجر والإحباط اللذين سيشعران بهما بعد فراقي، والمؤسف أنه لن يكون لديهما خيار؛ لأن العوامل الاقتصادية الخارجة عن إرادتهما ستدفعهما في نهاية المطاف إلى المدن ليتسكعا في زوايا الشوارع (كعمال مهرة). كنت سعيداً عندما أخذني كودري إلى مطار الشارقة، وعندما ارتفعت الطائرة فوق البلدة وانحرفت فوق البحر، أدركت كيف يكون شعور الإنسان وهو ذاهب إلى المنفى”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©