الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صلاح ستيتية.. نحّاتالمعنى

صلاح ستيتية.. نحّاتالمعنى
21 يناير 2015 21:44
قراءتي لبعض أعمال صلاح ستيتية، أتاحتْ لي أن أتعرَّف على الشَّاعر في شعره، وأن أكتشف العمق المعرفي الذي كان يصدر عنه في رؤيته للشِّعر، وفي كتابته، والتنظير له، أيضاً. فما كتَبه من مقدماتٍ لدواوين، وأعمال فنية، تُتِيح لقارئه أن يضع يَدَه على معنى الشِّعر عند هذا الشَّاعِر، وما كان يَسْتَثْمِرُه من خبراتٍ ومعارف في كتابته. ولعلَّ في ثقافته التشكيلية، واشتغاله مع عدد كبير من الفنانين، بينهم الفنان التشكيلي المغربي فريد بلكاهية، في أكثر من عمل، ما أتاح له أن ينقل معطيات هذه التجربة، من العمل الفني الصِّرف، إلى الكتابة. عدد من نصوص الشَّاعر، هي اشتغال على أعمال فنية، أو توسيع للغة الشِّعر، بـ «لغة» التشكيل والرسم. فالفضاء، هو جزء من اشتغال ستيتية، وجزء من وَعْيِه الكتابيّ، الذي فيه يُهَيْمِن المكتوب على الشَّفاهيّ، أو يُقَلِّص من سلطته على النص. زواج أبدي أعماله الشعرية «الكاملة» التي صدرت في جزء واحد سنة 2009 بعنوان دالّ وعميق (Un lieu de brulur) هي تعبير عن هذا الزَّواج الأبدي، في تجربة ستيتية، بين لغة الكتابة ولغة الألوان والمساحات والأحجام، أو التعبيرات الهندسية، التي تحضُر بشكل لافِتٍ في شعره. فهو لم يَكْتَف بالاشتغال على اللغة، بما قد تُتيحُه من مجازاتٍ، أو ما يمكن أن تتوسَّعَ فيه من تخْييلات، بل إنَّ تجربته اللغوية، انْفَتَحَتْ على البُعد الرمزي، الذي يسمح للدَّوالّ أن تتناسخ وتتناسل في الصفحة، بما في ذلك، ما كان يقترحُه عليه بعض الفنانيين من رسومات، وأشكال هندسية، أو أحافير، لتكون جزءاً من بنية النص، أو إحدى دَوالِّه التي بها كان يَبْتَنِي هذا المعنى الكثير والمُتَعدِّد، أو المفتوح على ما يتجاوز حدود المعنى نفسه، إلى رحابة وانْشِراح الدَّلالة. صوفيةرغم أنَّ صلاح ستيتية، يكتب بالفرنسية، ورغم إقامته بفرنسا لأكثر من أربعين سنة، وعلاقته بشعراء فرنسيين من الذين كان لهم حضور قوي في المشهد الشِّعري الكوني، وما شهده من أحداث كبرى، كان لها تأثير في مجريات المعرفة والإبداع الفرنسيين، فهو لم يتنكَّر لثقافته العربية، ولم يُدِر ظهره لِلُّغَة العربية، التي ظلَّ يُقَدِّرُها، ويتكلَّم بها، لإنَّه هو من اخْتار العودة إليها، باعتبارها مصدراً من مصادر تكوينه الأوَّلي، الذي يعود به لوالده، ولِما تلقَّاه من تكوين في مراحل التَّعَلُّم الأولى. كان للعربية في هذه المرحلة من حياة الشَّاعر، حضور لافِت، رغم ما يُكِنُّه صلاح للفرنسية من شَغَفٍ، وحُبٍّ كبيريْن. فهو لم يخرج من معرفته الشِّعرية بالثقافة العربية الإسلامية، ومعرفته بتاريخ هذه الثقافة، وما راكَمَتْه من معارف وإبداعات. فحضور التراث الصُّوفي في شعره واضح، ولا يمكن لِمَن يعرف هذا الموروث، ويعرف بعض شعرائه الأساسيين أن يُخْطِئَ حضور هؤلاء في أعمال الشَّاعر، ليس من باب الاستشهاد، أو التوظيف التَّزْيينى الذي يكتفي بظاهر النص، أو بما فيه من إحالة، بل إنَّ ستيتية، كما حَرِص على تذويب ثقافته ومعرفته الفرنسيتين في رؤيته، وفي ما له من خبرة في الكتابة، وفي علاقته باللون، وبالأشكال والأحجام الهندسية التي لها علاقة بفضاء اللوحة، أو العمل الفني، فهو ذَوَّب الموروث الصوفي في تجربته، بنوع من التركيب الخيميائي، الذي هو عنده ابْتِداع برؤية حداثية، وليس تقليداً، أو اتِّباعاً، لأنَّه، في طبيعة تكوينه، كان يرفض أن يكون ما يكتبُه، سطحاً، أو قِشْرَةً، أو بالأحرى، تنويعاً على نموذج سابقٍ، أو صَدًى لصوتٍ، أيّاً كانت قيمة هذا الصَّوْت. ذوبان فلسفينصوصه لا تنجو من الفكر، ولا تنجو من البُعد الفلسفي العميق. فنيتشه، وهايدغر، بشكل خاص، حاضرَان في هذا البُعد، ولَهُما في رؤيته الفكرية مكانهما، بما يعنيه ذلك من امتلاك لزمام فكرهما، وتشغيل له، وفق مقتضيات الحال، كما يقول القدماء. فهو مُقٍلٌّ، «مُتَقَشِّفٌ»، لكنه، كان، دائماً، شديد الحرص على القيمة الشِّعرية، لا على الوفرة والكَمّ. وليس سهلاً على قارئ صلاح ستيتية أن يخترق تجربته بِيُسْر، أو أن يقرأها باسترخاء. تجربة كهذه، بما تحمله في طيَّاتِها من اشتغال شعري مدروس، وبما في ثناياها من مراجع، لا تكتفي بالتراث أو بالمعرفة النصية، تفرض وُجودَ قارئ مُثابر وصَبُور، يقرأ ويُعيد القراءة، ولا يُغْلِق على نفسه في شعر الشَّاعر، فقط، بل يخرج إلى عوالمه الأخرى، التي هي حاضرة في شعره، بنوع من التَّذْوِيب الإبداعي، الذي تبدو فيه رؤية الشَّاعر حاضرةً، بما فيها من عمق وخصوصية شعريين. أو كما يقول عنه أحد الكُتَّاب فـ «شعر صلاح ستيتية شعر هندسي بنسب دقيقة، مبني بناءً عجيباً، قريباً من التجريد، وهو نحت في الضوء، أو نحت في المعنى الذي هو بدوره يدور في ذاته أي في معنى المعنى»، وغالباً ما هو استطراد «ولكنه استطراد لمعنى قديم مبهم كأنَّه الأبدية» «أي في بعده المعرفي» في ما يمكنه أن يُلامِسَ إشارات الصوفية، شيء يمحو شيئاً من حيث يشبهه أو يلغيه. الإلغاء?،? هنا، هو ذلك المحو الذي ظل صلاح ستيتيه يمارسُه دون كَلَلٍ، دَرْءاً لحضور «الشبيه»، أو انْسِرابه في طيَّات النص. وهو، تعبير عن التَّصَدّعات التي لا ينجو منها النص، مهما كان وعي الشَّاعِر بانشقاقاته. فنصوصه، دائماً، غير منتهية، وغير مكتملة، وهي «شيء يمحو شيئاً»، مثلما يحدث بين الليل والنَّهار. ?انصهار مرجعياللاَّمُدْرَك، واللامرئي، في تجربة صلاح ستيتية، هو بالذَّات، هذا الانصهار المرجعي في تجربة الشَّاعر، الذي هو انْفِلاتُ التجربة من التكرار والاستعادة، وانفرادها بذاتها، باعتبارها قيمة مُضافَةً، وطريقاً آخر، بين عدد من طُرُق الشِّعر، التي يستشعرها قارئ الشِّعر النَّبِيه والحصيف، بمجرد أن يفتح النص على مجهولاته، أعني، على ما يُتيحُه من آفاق للتَّخْييل، ولوضع اللغة في أفق اشتعالها. في هذا اللامدرك واللامرئي، تبدو تلك الشقوق والتَّصَدُّعات، التي تشي بالمحو، وبالنُّقصان. اللغة التي لا تُفْضِي بقارئها لهذا النُّقْصان، أو باسْتِشْعار هذا النقصان، تبقى لغة قاصرةً، أو هي لغة ما تزال في طور التكوين، لأنَّ ثمَّة ما يجعل جمرَها، يبقى كامناً في رماده. وصلاح ستيتية، هو واحد من الشُّعراء الذين وضعوا الشِّعر في أوْج اشتعاله، أو بلغوا به شِدَّة هذا الاشتعال. نار وماءفي لقائي بصلاح ستيتية، بفرنسا، وفي ما جرى بيْننا من حوارات ونقاشات، برفقة أصدقاء آخرين من الشُّعراء، والحوار الطويل الذي أجريناه معه، على مدار أكثر من ثلاث ساعات، أدْرَكْتُ هذا المعنى العميق أو البعيد الذي يحمله الشَّاعر في نفسه، ويحيا به، كما يحيا بالماء والهواء. وسواء أكان هذا المعنى عنده «ناراً» أعني اشتعالاً، أو «ماءً» بتعبيره «أن تدفن النَّار هو أن تحلم بالماء»، فهو يبقى حضوراً دائماً، واقتفاءً لـ «ليل المعنى»، لهذا المُظْلِم، المُعْتِم، في كل كتابة عميقة، وبعيدة، ولِما يغمره من عمق وكثافة. وربما هذا ما حَدا بصلاح أن ينظر للشِّعر باعتباره «غير المدرك» حين يصير، في شفافته وانْفِراطه، ربما، «غير مرئي»، لكنه يَلْفَحُ الرُّوحَ، ويُضفي عليها بعض انشراحه. ترجمةفي ترجمة شعر صلاح ستيتيه إلى العربية، ما قد يسمح باستعادتِه لِلُغَتِه الأم التي بقي مُقيماً فيها، رغم تعذُّر الكتابة بها، بنفس مستوى الفرنسية، ولم يتنازل عن الكلام والحوار بها، بما سيؤكِّد فكرة ستيتية، حول انتمائه لِضِفَّتَيْ البحر الأبيض المتوسط، هذا البحر الذي هو بحر الشِّعر والأنبياء، وهو بامتياز بحر المعرفة والإبداع الإنسانِيَيْن. والعربية باستعادتها لستيتية، من خلال ترجمته، قد تكون جَسَّرَتْ العلاقة بين الضِّفَتَيْن، وفتحت ماءَ، أو ملحَ المتوسط، على دَفْقِه الدَّائم والأبدي. في المعرفة، وفي الشِّعر، تحديداً، لا مسافةً بين ماء وماء، لأنَّ لغة الخيال، ولغة الإبداع، هي لغة الكائن، وهو ينحت مجراه في أفق الشِّعر، وفي أفق المعرفة التي هي إضافة واختلاق، مهما كانت اللغة التي يكتب بها الشَّاعر. وهذا ربما ما جعل أدونيس، في ما كتبه عن صلاح ستيتية، يقول عنه، إنَّه شاعر عربي يكتب بالفرنسية. سيرة ولد الشاعر والناقد الفني والأدبي صلاح ستيتية عام (1929) في بيروت، وتلقى تعليمه فيها حتى الثانوية، ثم سافر إلى فرنسا ليكمل دراساته الجامعية فيها. ارتبط بصداقة مع كبار الشعراء الفرنسيين، مثل بيار جان جوف، اندريه بيار دومانديارغ، إيف بونفوا، اندريه دو بوشيه، رينيه شار وغيرهم. أسس في خمسينيات القرن العشرين ملحقاً أدبياً أسبوعياً باللغة الفرنسية لعب دوراً كبيراً كوسيط بين الإبداعات الجديدة في الغرب عموماً وفرنسا خصوصاً، وبين انبثاق أنماط كتابة وتفكير جديدة في لبنان والعالم العربي والشرق. وفي فرنسا، ساهم كتابةً وتنظيماً في كبريات مجلات الإبداع الأدبي والشعري، مثل لي ليتر نوفيل، لانوفال ريفوفرنسيز، ديوجين وغيرهم. مارس العمل الدبلوماسي طويلاً في باريس، وكان مندوب لبنان الدائم لدى الأونيسكو، ثم سفيراً في المغرب، وأميناً عاماً لوزارة الخارجية ثم سفيراً في لاهاي. حاز جوائز أدبية كثيرة في مقدمتها جائزة الفرنكوفونية الكبرى العام 1995، إضافة إلى جائزة الصداقة العربية الفرنسية عن كتابه حملة النار، وجائزة ماكس جاكوب عن تعاكس الشجرة والصمت وجائزة المفتاح الذهبي لمدينة ميديريفو في صربيا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©