الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«جاذبية».. العزلة الكاملة

«جاذبية».. العزلة الكاملة
21 يناير 2015 21:35
في مكان آخر، في الفضاء الخارجي، ينطلق صاروخ روسي ليرتطم بقمر صناعي فيدمره، مسبباً اندفاع وابل من حطام القمر في شكل شظايا تنطلق في مدارات عشوائية وغير متوقعة، وتندفع بسرعة فائقة نحو مكوك هؤلاء الرواد لترتطم به وتمزقه وتقضي على من فيه، وتخرب كل أجهزة الاتصالات مع الأرض، ولا يبقى غير كوالسكي وريان. بطريقة ما، ينقطع الحبل الذي يربط ريان بالموقع، فتنطلق منجرفة في الفضاء المظلم، حيث الحياة مستحيلة، وتهوي نحو هاوية الفراغ الأسود المرعب، في دوامة من الذعر الذي لا يحتمل، مطلقة صيحات رعب مطبق. لكنها فيما بعد تنجح في الانضمام من جديد إلى كوالسكي. تمديد الزمن اللقطة الطويلة عادةً تستخدم لتمديد الانطباع بمرور الزمن، ولإبطاء الأشياء إلى حدٍ بعيد، ولإتاحة المجال للمتفرج لأن يستوعب المحيط أو الوسط الذي يدور فيه الحدث، ويتأمل ما يحدث أمامه. هنا عبر اللقطة الطويلة تتأسس القصة، ويتعرف المتفرج على الشخصيتين الرئيسيتين، ويتكشف لنا الموقع أو المسرح الذي سوف نوجد فيه طوال مدة عرض الفيلم، متابعين محنة شخوصه ومسار أحداثه. ولأن الشخصيات هنا تتحرك في فضاء مطلق، لا متناهٍ، فإن لقطة الافتتاحية تعزّز الإيحاء باللاتناهي، بالعزلة المطلقة، حيث الكاميرا تنسج مسارات معقدة وآسرة في الفضاء. بعد أن يلحق التدمير بالمكوك من جراء الإنفجار، وتنقطع كل وسائل الاتصال مع الأرض، كوالسكي وريان يجدان نفسيهما طافيين عبر الفراغ الهائل في فضاء شاسع مظلم، بلا هداية ولا دليل، ضائعين فوق مناخ كوكب الأرض، بينما الأكسجين يكاد ينفد، والحياة في الفضاء تغدو مستحيلة. على نحو يائس، يشرعان في إيجاد طريقة تعيدهما إلى الأرض. أخيراً يتمكنان من الوصول إلى أقرب محطة فضائية، لكن كوالسكي يفقد حياته. المرأة تعاني من عزلة رهيبة ومطلقة، تتأرجح بين الأمل والقنوط، ويستبد بها إحساس مرير بالهجر، بأنها أضحت منسية ومتروكة لمصير مأساوي مفجع. أخيراً تتمكن من العودة إلى الأرض.. «إنها هي التي تكمل الرحلة.. رحلة الولادة الجديدة»، كما يقول كوارون. لكن قبيل ذلك ترى في حلمها، أو لحظات هذيانها، عودة كوالسكي الميت الذي يحاول طمأنتها وتشجيعها على الصمود والتفاؤل.. فتتحدث إليه عن ابنتها الميتة. عن هذا المشهد يقول كوارون: «إنه حلم. هو ليس شبحاً يعود لينقذها. كل هذا يدور في اللاوعي. في لاوعيها، ما يظهر في هيئة جورج كلوني، وهو يخبرها عن أشياء تعرفها، هو ما كان مدفوناً في عقلها الباطني، اللا وعي». رغم أهمية الصمت كعنصر في خلق التوترات وإحداث حالة من التشويق، وعلى الرغم من دوران الأحداث في فضاء خالٍ يتعذر فيه الكلام، حيث من المفترض أن أحداً لا يسمع الآخر، فإننا نجد هنا اعتماداً أساسياً على الحوار المتدفق بين الشخصيات، أو مع مركز الاتصال في الأرض، أو في شكل مونولوج، أو حوار متخيل بفعل الهذيان. وحتى بعد انقطاع الاتصال تستمر الشخصيات في الكلام لعل أحداً يسمعها وينقذها. من خلال متابعتنا لمحنة ستون، تتكشف لنا محنة أعمق تتصل بدواخلها، بنفسيتها، بالأزمة الروحية العميقة، التي تعانيها من جراء مأساتها الخاصة: فقدانها لابنتها وهي في الرابعة من عمرها، وشعورها الحاد والمعذّب بالذنب. أسئلةيقول كوارون: «في الفيلم نحن نطرح أسئلة أساسية، جوهرية، عن المحنة وطبيعة الوجود.. الوجود بوصفه ذرّة في الفراغ المليء بالمحن. عندما التقينا، أنا وساندرا، لأول مرّة، لم نتحدث عن الفضاء أو التكنولوجيا أو أي شيء من هذا القبيل. تحدثنا فقط عن المحنة.. ليس ضمن سياق الفيلم بل في محيط حياتنا، وفي إطار تجريدي. لقد تصادف أن كابدنا الكثير من المحن، وحاولنا أن نجعلها تبدو مفهومة. هذا خلق رابطاً بيننا مثيراً للاهتمام، وخلق فهماً مشتركاً لما كنا نبحث عنه». الفيلم يوظف العديد من الإشارات إلى الأمومة كتعبير عن الحياة مقابل موت كامن طوال الوقت.. هناك تماثلات مع الرحم، حبل المشيمة، أشكال الولادة، الأوضاع الجنينية. في النهاية، عندما تهبط على الأرض فإنها تكون أشبه بجنين داخل رحم الأم. تفلت من براثن الموت وتخرج، محرّرة نفسها مجازياً من الإحساس بالذنب، لتنبثق من تحت الماء. ما إن تجد نفسها على الشاطئ، حتى ينتابها التردّد، ثم ببطء وتثاقل ترفع نفسها، بينما الكاميرا تركّز بؤرتها على قدميها فيما تخطو على مهل، بحذر، وبلا ثقة.. كأنها تولد من جديد. يقول كوارون: «هنا، رائدة الفضاء واقعة بين الأرض وفراغ الكون، بينهما هي تطفو فحسب. نحن استخدمنا حطام القمر كمجاز للمحنة. إنها الشخصية التي تعيش في فقاعة خاصة بها، وهي محاصرة داخل بذلتها الفضائية، ضحية قصور ذاتي. إنها الشخصية التي تجد صعوبة في الاتصال بالآخرين، وها هي تعيش واقعياً حالة انعدام الاتصال، منجرفة بين الفراغ وإمكانية الحياة في الجانب الآخر.. أي الأرض. إنها الشخصية التي تحتاج إلى انتزاع جلدها لتتمكن من الانتقال إلى مكان آخر، هي تحتاج إلى الخروج من بذلتها الفضائية لأنها تخنقها. في النهاية، القصة هي عن الولادة من جديد كنتيجة محتملة للمحنة، عن اكتساب معرفة جديدة بالنفس. الفيلم يتعامل مع ذلك الحافز للعيش، للحياة. وهذا الحافز شيء نتقاسمه مع بقية الأجناس على كوكبنا. هذا الشيء هو جزء من ذلك اللغز العظيم. في النهاية، المرأة تجتاز عملية الولادة من جديد، حيث نراها تضع قدماً على الأرض، وتقوم بالخطوة الأولى نحو حياة جديدة. إنها تمشي. اللحظة الأولى في الفيلم التي نراها تمشي. نراها تنتقل من وضعية الجنين إلى انبثاقها من المياه، ثم تزحف وتحبو، بعدها تقف على قدميها وتسير من جديد. الفيلم هو مجاز عن إعادة الخلق، الولادة من جديد. الفيلم أشبه برحلة مجازية، حيث الفضاء الخارجي هو نفسه الفضاء الداخلي. رحلة داخلية تقوم بها امرأة. ذلك كان الإحساس الذي أردنا توصيله، ففي النهاية، كل شيء هو عن الخوف الأوليّ، البدائي، من الضياع في الفراغ. وهو خوف سيكولوجي يتصل برهاب الخلاء». فيلم «جاذبية» إنجاز سينمائي رائع، به أكد المخرج الفونسو كوارون موهبته على المستوى التقني، وأبرز طاقاته الإبداعية في المجال البصري، والتي كشف عنها في أفلامه السابقة. كذلك أبدى المخرج، ومعه مصوره الفذ المكسيكي إيمانويل لوبيزكي، براعة في تحريك الكاميرا، حيث باستخدام اللقطات الطويلة long takes واللقطات ذات الزوايا الواسعة، تمكّن من أسر الفضاء الخارجي الفسيح، متيحاً للمتفرج اختبار الإحساس بالعزلة التي تحيط بالشخصيات، والتفاعل بعمق مع حالات اليأس والعجز والتوترات التي يصعب احتمالها، والتي تعيشها الشخصية الرئيسية. تصوير غني وخلاق بكاميرا تتحرك باستمرار مع الشخصيات فتنزلق معها وتدور وتهوي وتتأرجح. وأحياناً تقترب من الشخصيات ومن المواقع ومن الحدث أو تبتعد بحيث تمدّد المساحة المكانية أو تختزلها. وأحياناً الكاميرا تدخل الحيّز الشخصي وتخرج منه، خالقةً بذلك تغيّرات أو انتقالات في التعبير عن وجهة النظر، وفي تغيير المنظور، حيث نراقب رواد الفضاء في البعيد وهم يتحركون عبر الفراغ، أو نراهم عن قرب وهم في وضع ثابت تقريباً بينما المحيط في حالة حركة. وأنت كمتفرج تشعر منذ اللحظة الأولى، وضمن زمن ومكان في غاية التكثيف، بأنك واقع في أسرها ولا تقدر الإفلات والفكاك منها. إن التصوير هنا من أهم ركائز الفيلم جمالياً. يقول كوارون: «الفكرة أنك تشهد مجرد لحظة معينة، لكنك تشارك في التجربة. بمعنى آخر، المتفرج هو أشبه برائد فضاء ثالث يطفو مع الشخصيتين الرئيسيتين. الكاميرا لا تمتلك تلك السيطرة والتحكم. إنها تطفو، وهي فاقدة المظاهر الفيزيائية كما الشخصيات». عمل رائع حقق نجاحاً على الصعيدين النقدي والجماهيري. جوائز استقبل النقاد الفيلم بحفاوة، وحصل على جوائز عدة منها: جوائز جمعية نقاد السينما في لوس أنجلس كأفضل فيلم وأفضل مخرج. جائزة جولدن جلوب كأفضل مخرج. جوائز أكاديمية السينما البريطانية كأفضل فيلم وإخراج وتصوير وصوت وموسيقى ومؤثرات بصرية. جوائز الأوسكار كأفضل إخراج وتصوير وموسيقى ومؤثرات صوتية إضافة إلى جوائز منتجي هوليوود، ونقابة المخرجين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©