الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لوران غسبار.. شاعر قدّ وجهه من كلمات

لوران غسبار.. شاعر قدّ وجهه من كلمات
22 نوفمبر 2018 04:53

جان ميشال مولبوا
ترجمة: أحمد حميدة

«بداخلي هناك من لا يتوقّف عن الإنصات إلى النّبض الصّامت للأشياء» (بتموس)

بهدوء أحرق
عشباً في نهار بلون الصدأ
غصناً تهتزّ فيه صيحة
خطّاف يصّاعد في الظلمات-
مشرط الصباح يعرّي العظام
فهي صافية مثل حدقات الرّوح
السماء عارية ورجل يصغي لنبضها-
الحجارة ترتعش
الحجارة تضحك
تلتئم حين تنحسر
تتآكل وتلتئم ثانية

كان من المتوقّع أن يكون هذا الغريب، التّائه على صفحة العالم - وهو المولود في ترانسلفانيا بالمجر - محتشداً بإحساس النّفي والاغتراب. غير أن لوران غسبار لن يكون أبداً كذلك، لأنّه أضحى عاشقاً للصّحارى، للشّمس وللبشر. أضحى كشاعر، يعمل على تجديد الأرواح وتصوير همس الوجوه والظّلال، وكجرّاح، يعمل على إصلاح الأجساد. بعيداً عن مسالك الغبار، مضى يبحث عن الإنسان، لتكون الهشاشة والرّحابة معالم حدوده. من بيت لحم إلى باريس.. إلى تونس، كانت خطواته حيثما حلّ، تنشد الكثافة المضيئة للحياة، ليجعلها أكثر سطوة وأشدّ توهّجاً، فمن على ضفاف بحر إيجه أو من أرض الخليل، من بتموس ببلاد الإغريق، أو سيّدي أبي سعيد بتونس، كان يمضي وهو يرقب مسار النّور.
كان وهو يقيم بيننا، يسعى بحماس متّقد إلى كشف ذلك «الجانب الغامض في كلّ واحد منّا»، دون أن ينسى أيّاً من لحظات صمتنا، إنّه الحاضر بقلبه المشرّع على الجميع، رصين ومهيب، بصوره الإنسانيّة وكلمات «بلا جذور إلى الأبد، وبلا زاد غير الماء، ومأوى القلب المشرع على الشّوق».
لقد جعل من اللّغة الفرنسيّة لغته الأساسيّة في الكتابة، وهو اليوم من كبار الشّعراء النّاطقين بها، وعندما يرتّل كلماته بها، فإنّه يجعلها على قيد الارتجاف والخفقان: «لا شيء لديّ لأقوله عن استخدامي الفرنسيّة كلغة تعبير، سوى ذاك التّفاعل بين القدر وإرادتي، وما أفرزه ذلك التّفاعل من تلاحم بين حياتي وحياة تلك اللّغة، التي بات نَفَسِي مقروناً بسحر كيميائها (...)، وهي بالنّسبة لي أداة تواصل ونبضٌ في قلب السّقوط: السّعادة، الخوف، انتعاش الجلد والصّبر في قساوة المنفى، هكذا تتحدّث الكلمة باختصار، تتنشّق رائحة الولادة في تبرعمها الجوهريّ، وتمتصّ حقول لغتي غبارها الرّائع، الرّعب الذي لا شكل له، وسطوة اللاّمعقول، وفي خميرة تمتزج بالبراعم، أتربّص الجَلد الموقظ للنّشيد..».

الشّاعر المُخلص
تنبعث من هذا الذي ينتمي لأوروبا الوسطى رائحة الياسمين والحبّ، إنّه ليس منفيّاً وإنّما في حالة تضامن وإخلاص وتعاطف مع مجموعتنا من الأحياء: مخلصاً للبشر والدوابّ، مخلصاً للمياه والطّين، للصّخر والغابات وللكواكب السّابحة في السّديم.
ففي هذا الزّمن القاسي، وفي غابات الرّعب التي نعايش، يحاول غسبار أن يجعلنا نعيش بطريقة أفضل رغماً عن كلّ شيء: «ماذا يعني أن نعيش غير أنّنا نفعل في كلّ لحظة ما نريد فعله في ظروف محدّدة، وبما أسعفنا الحظّ العثور عليه». إنّه يدرك أنّ الكتابة لا تشفي.. ولكنّها تساعد: «بضربات معولها على تجديد وإنعاش جذورنا العميقة»، فهو يعتقد في قدسيّة الكلمة وفي ضرورة إعادة تهجّي الكلمات..: «وما كتابة قصيد سوى إعادة تهجّ للكلام». وغسبار إذ يمجّد «التّرحال اللاّمحدود»، فهو يعتقد في إمكانيّة العيش في توافق مع العالم: «إنّ هذا النّور وهذا التّوافق، المتلاشيان في السّعادة التي تومئ إليهما، وفي الغياب حيث يسقطان بثبات: صفحة الصّبح المهيبة عند الضّفاف الحجريّة، حيث يأتينا النّهار من الخزّان الأعمى للعيون، وحيث نمضي ونتنفّس دون عودة إلى الوراء».
ولكن من سيقرأ كتابة في مثل هذه البساطة؟ إنّه يبدو وهو بيننا مثل شجرة وارفة، بهدوئه وصفائه، وبسخاء ظلال كلماته وآمادها.

مقاومة العتمة
إنّه بالكتابة وبالطبّ لا يستقيل أبداً، بل يبحث عن «معبر، عن ومضة، عن حلّ، عن فجوة»، عساه يرى بوضوح أكبر، أن يفهم ويتعلّم كيف ينقل ذلك. كان يجد نفسه دوماً ومن جديد على الطّرقات لمقاومة العتمة، فالشّعر لديه لا تحكمه الرّغبة في الكتابة، وإنّما هو رفيق وصديق يقتفي الأثر. وغالباً ما تتحوّل الكلمات إلى لقاءات، لحظات استراحة ونافورات مسعفة للمترحّل، أمّا كتاباته فهي نابعة من تجارب، من عبور للمعيش، من لقاءات، من إنصات للذّات وللآخرين. يقيناً أنّه من فرط جنوحه إلى ملاطفة الأحجار وذرّ الرّمال الذي بين أصابعه، سيبدو شعر لوران غسبار ناعماً، بل غاية في النّعومة، وبأنّنا قد نرتطم بسطحه وسرعان ما نطير، فنَغْفَلَ بذلك عمّا ينطمر في أعماقه، بل إنّ أسراره الجامحة إلى تجلّيات النّور قد تجعلنا نشعر بالإعياء.
إنّه رجل علم يبحث عمّا يثيره النّور من استفسارات، وسيعبّر عن ذلك بصرخة طائر في مواجهة الصّباحات الرّماديّة، كي يستعيد نفسه، ويستعيد وجه العالم، إنّه يريد «تجاوز الأشياء التي تصرّ على أن تكون ولكن من دوننا نحن»، وهو الحريص على أن نكون حاضرين، أن نعرف وندرك..

أن نفهم حقيقة ماذا يعني أن نكون هنا
غيمة، حمامة، إنسان أم حصاة
هكذا في اللّحظات الأكثر بساطة
يتجذّر الكلام في صميم تربته
عسى مذاق النّهار في الحنجرة
محمولاً بالفجوة المنفتحة
ينبعث في العشب بين الآخرين

فضفاضة هي كتابته، معدنيّة هي عباراته وممشوقة هي صوره، إنّه يحتفي بما هو بسيط، بنبض الأشياء في العالم وبالمشاهد، كمدّ دافق بدمِ العناصر على مرّ الأزمان. متردّد بين الرّوحيّ والماديّ، العلميّ والعصيّ على الإدراك، فإنّه يرى بأنّ الشّعر «تمرين صحيّ»، وسيلة أخرى لفهم العالم، وهو الذي يدرس الآن وبإصرار كبير علم الأعصاب: «عندما نهتدي إلى رؤية ما، إلى طريقة ما في العيش والتّفكير، منفتحة إلى أبعد الحدود، فإنّنا نتعلّم كيف نتنازل عن المراجعة العبثيّة لكشوفاتنا الصّغيرة والكبيرة، المتحلّلة في الانفتاح اللاّنهائي. نعم.. للمراجعة وبقدر ما نستطيع، لحركاتنا اليوميّة التي نعلم بأنّها قابلة للخطأ، بل أحياناً ضارّة ومدمّرة للآخرين، ومدمّرة لنا أيضاً. أن نعرف كيف نبتهج لقدرتنا على فهم تفاصيل الحياة والعالم ولو بصفة جزئيّة، ولو بصفة نسبيّة».. يحمل لوران غسبار بداخله تلك القيمة المفقودة، قيمة التّسامح، إنّه يبحث عن «ذلك الوضوح الذي نضج في رحم ليل الظّلمات الطّويل».
هاجس البحث عن بستان بدائي، عن فردوس مفقود، كان ينتاب هذا المهرّب للثّقافات وللّغات، فالمجريّة، لغته الأمّ، والألمانيّة والرّومانيّة والعبريّة والعربيّة والفرنسيّة واليونانيّة، هي اللّغات التي ترويه، فكان تبعاً لذلك مترجماً فذّاً (ترجم ريلكه وجورج سيفيريس وآخرين). كلّ ذلك يحمله لوران غسبار كخميرة لإعداد خبز البشر، وحضوره هو هذا الإخلاص لحياة مشتركة بين عموم النّاس.

الشّاعر ذو النّظرة المطهّرة
وتبقى قدرته على الدّهشة حيّة.. نابضة، رغم البربريّة التي يمعن فيها البشر، يبقى مترصّداً النّور وتنهّدات العالم وائتلاف المحبّة في وجه «اللاّمحتمل الذي ينبغي تحمّله»، إنّه يعرف كيف يكون ذلك الذي «بنظرته المطهّرة ينظر إلى الأشياء ويعيد النّظر إليها وكأنّه يراها لأوّل مرّة»، إنّه يسائل دون توقّف لغز الأبديّة، وينشد شفافيّة ضفاف صباحات العالم.
كالطّفل لا يزال يمتلك القدرة على الدّهشة أمام البدو، أمام نبض الصّخور وكتائب الحشرات والمدّ المنغّم لماء البحر. كان بالإمكان ألاّ يكون سوى مهجّر منفيّ، فإذا به قد بات ابناً للرّيح، عاشقاً للصّحارى، متوطّناً في الفضاء ومترحّلاً على الدّوام، وكان يحلو له نعت نفسه بـ «المتسكّع في نبض الأبديّة». يقول غسبار: «إنّني أجهل ما هي العلاقات العميقة واللاّواعية التي تنتظم وجهة وتمدّد ما أكتبه من شعر و«النّقلات» الجغرافيّة والثّقافيّة التي فرضتها عليّ الأحداث التّاريخيّة، ثمّ فيما بعد فضولي وأذواقي التي وجدت سبيلها إلى التّعبير، من المؤكد أنّ حياتي هي تموّجات في الزّمان والمكان، ولكن أيضاً في المدى المعرفي والثّقافي».
هكذا يعبر الدّروب نحو الحياة، إلى حيث تكون الحياة قابلة للاستمرار، إلى حيث يكون الانفتاح، إلى حيث لا حدود..
بآلة تصوير في يده، وسبينوزا في الرّأس وكرّاس للكتابة، يمضي مترحّلنا المُدهش عابراً همس الحياة، وهو الذي غالباً ما يشاهد، كطبيب جرّاح، تعانق الحياة للموت، وما يثيره ذلك من تساؤلات.
أمّا شعر لوران غسبار وصوره فينبغي أن نصيخ لهما السّمع طويلاً كما نصيخ السّمع لرقرقة الماء الجاري.
مبيضّ الملامح ومتوهّج، إنّه هنا «حبّ للأجساد في رحى السّنين»، ثمرة ناضجة للإنسانيّة، ومنفتح على مشاعر كلّ البشر. ولنذكر أنّ رولان غسبار نشأ بترغمور بترانسيلفانيا الشّرقيّة في 28 فبراير 1925.
إنّه شاعر الحياة المشرقة وجمال هذه الحياة في عريها، في غناها ووميضها.
هازج بتغريدة العالم، وبإنسانيّة متصالحة، يبقى لوران غسبار الشّاعر المترحّل في وجه الكلمات.. الشّاعر المخلص.

أجسادنا مدن ونحن اللّيل*
النّبض الخفيّ للأشياء
(...)
أنا المشّاء الذي يتنفّس المنفتح
بملء رئتيه، والذي بجسد عاقل
يشكّل صوراً، موسيقات ولغات،
أنا الذي أغنّي وسط النّغم
خارج القياس وخارج الكلمات
صباحات ومساءات كلّ حياة
وليالي الوحدة، العامرة
بخواطر تنفلت محلّقة من الشّبابيك

مخلص لكلّ ما ينبسط، كمياهٍ
تلامسها خفقة جناح في اللّيل
مخلص لذاك الذي يغفو،
وإلى من ينصت إلى القصيد
داخله وخارجاً عنه
(....)

أجسادنا مدن ونحن اللّيل
(...)
يمرح الضّوء في الأجساد الضّئيلة للطّيور
حركات هواء مختصرة حيث تنطوي الأصوات
وتتكشّف بشرة وعيون النّساء.

رجال مثقلون بالموت والنّعاس،
يتحدّب اللّيل في ظهورهم، وينظرون
إلى فتحات الشِّباك تتمزّق بلا شيء
وهناك، لا شكّ، زجاج نوافذ تشتعل

سطوح بيضاء لعصافير متحجّرة
تعدّدت بالمصادفة في ترسّبات النّهار
مياه ترتسم عليها علامات عبورنا
والأعماق تظلّ مرتجفة
أرجحة أجنحة
دوّامات متسارعة تحت الجلد
وننحني عل شواطئ تنفث الدّخان
والوجنات محترقة
أغطية ناعمة من فولاذ رماديّ
وأيادينا التي شذّبتها منحدرات
هذا الضّوء –
(...)

البيت قرب البحر (مقتطف)

قسوة الرّياح في صدأ الزّمن
رائحة نار تتنفّسها الأعشاب
نفسُ السكّين في سواد القلب
تفتحه لما هو عابر ويظلّ بلا اسم

أنصت إلى الرّيح
لخفقان الأجنحة الهائل
لذاك الجسم اللاّمرئيّ
المتشابك بالبحر، بالأشجار والسّطوح

بكلّ ما هو نابض، يشعر ويتنفّس في بلدي
رافعاً للمياه، مقلّباً للأعماق
مرجرجاً أوراق الفكر

كلّ ذلك الماء المتجمّع، المتجعّد، المترسّب
قرقعة أبواب، الشّكوى الممتدّة لصنوبرة
لشجرة صنوبر عتيقة، محنيّة
كان يأتي بقربها في ما مضى
عابرون يعتقد أنّهم حكماء وقدّيسون
شعراء أو مجانين،
للتأمّل في شرفة من غيوم

بينهم وما لا يتخيّل،
بعض نبضات قلبيّة..
(...)
---------------
* شذرات من شعر لوران غسبار

أجسادنا مدن ونحن اللّيل*
النّبض الخفيّ للأشياء
(...)
أنا المشّاء الذي يتنفّس المنفتح
بملء رئتيه، والذي بجسد عاقل
يشكّل صوراً، موسيقات ولغات،
أنا الذي أغنّي وسط النّغم
خارج القياس وخارج الكلمات
صباحات ومساءات كلّ حياة
وليالي الوحدة، العامرة
بخواطر تنفلت محلّقة من الشّبابيك

مخلص لكلّ ما ينبسط، كمياهٍ
تلامسها خفقة جناح في اللّيل
مخلص لذاك الذي يغفو،
وإلى من ينصت إلى القصيد
داخله وخارجاً عنه
(....)

أجسادنا مدن ونحن اللّيل
(...)
يمرح الضّوء في الأجساد الضّئيلة للطّيور
حركات هواء مختصرة حيث تنطوي الأصوات
وتتكشّف بشرة وعيون النّساء.

رجال مثقلون بالموت والنّعاس،
يتحدّب اللّيل في ظهورهم، وينظرون
إلى فتحات الشِّباك تتمزّق بلا شيء
وهناك، لا شكّ، زجاج نوافذ تشتعل

سطوح بيضاء لعصافير متحجّرة
تعدّدت بالمصادفة في ترسّبات النّهار
مياه ترتسم عليها علامات عبورنا
والأعماق تظلّ مرتجفة
أرجحة أجنحة
دوّامات متسارعة تحت الجلد
وننحني عل شواطئ تنفث الدّخان
والوجنات محترقة
أغطية ناعمة من فولاذ رماديّ
وأيادينا التي شذّبتها منحدرات
هذا الضّوء –
(...)

البيت قرب البحر (مقتطف)

قسوة الرّياح في صدأ الزّمن
رائحة نار تتنفّسها الأعشاب
نفسُ السكّين في سواد القلب
تفتحه لما هو عابر ويظلّ بلا اسم

أنصت إلى الرّيح
لخفقان الأجنحة الهائل
لذاك الجسم اللاّمرئيّ
المتشابك بالبحر، بالأشجار والسّطوح

بكلّ ما هو نابض، يشعر ويتنفّس في بلدي
رافعاً للمياه، مقلّباً للأعماق
مرجرجاً أوراق الفكر

كلّ ذلك الماء المتجمّع، المتجعّد، المترسّب
قرقعة أبواب، الشّكوى الممتدّة لصنوبرة
لشجرة صنوبر عتيقة، محنيّة
كان يأتي بقربها في ما مضى
عابرون يعتقد أنّهم حكماء وقدّيسون
شعراء أو مجانين،
للتأمّل في شرفة من غيوم

بينهم وما لا يتخيّل،
بعض نبضات قلبيّة..
(...)
---------------
* شذرات من شعر لوران غسبار

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©