السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

.. ورحل «سرجون العظيم»

.. ورحل «سرجون العظيم»
14 ديسمبر 2017 04:25
يُغادر روّاد المسرح اللبناني الواحد تلو الآخر، ويخيّم الظلام على الخشبة التي تستسلم للخواء والتعب. يذهبون وتبقى أحلامهم هنا، يبتعدون وتبقى القضايا بإشكالياتها وأزماتها حاضرة. هكذا يفقدُ لبنان رجالات المسرح وأعمدته، رجالاً ناضلوا كي يؤسّسوا لمسرحٍ مثقّف وواعٍ بعيداً عن الابتذال والسهولة. بخبرٍ حزين انطلق موسمُ لبنان المسرحي. الكاتب والمخرج جلال خوري انضمّ إلى لائحة الراحلين الكبار الذين توزّعوا على جيلين، لم يكن آخرهم ريمون جبارة ويعقوب الشدراوي وأسامة العارف وعصام محفوظ، فضلاً عن الأخوين رحباني رواد المسرح الغنائي اللبناني، وقبلهم كان «شوشو» رائد المسرح الشعبي (حسن علاء الدين)، ونبيه أبو الحسن «أخوت شناي»، وفيليب عقيقي، وغيرهم من الممثلَين الموهوبَين بالفطرة، الذين جايلوا الراحل في مسيرته الفنية. رافعة ثقافية لقد كان جلال خوري في طليعة المؤسّسين للمسرح السياسي والنضالي اللبناني، منذ ستينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت الانطلاقة الفعلية للمسرح اللبناني، وإقبالاً جماهيرياً واسعاً واهتماماً بالمنتج المسرحي المحلي. وقد شكّل جلال خوري مع رفاقه من الجيلين، رافعةً ثقافية وحضارية للمسرح في الوطن العربي عموماً، وعكسوا التنوّع الذي نهضت على أسسه ثقافة لبنان وفنونه المسرحية. واستطاعوا المزاوجة بين المسرح السياسي والكوميديا، إذ كانت السياسة حاضرة دائماً على الخشبة، بأسلوب السخرية اللاذعة والسوداء أحياناً، وهم قدّموا قضايا الوطن والقضايا العربية على غيرها من الموضوعات، وأبرزها فلسطين، واحتلال أجزاء من جنوبي لبنان، في أعقاب اجتياحين إسرائيليين لبيروت. وكان لجلال خوري قصب السبق في ما يُسمى المسرح المقاوم والملتزم، إذ كتب بالفرنسية أوّل مسرحية عن القضية الفلسطينية بعنوان «وايزمانو بن غوري» المُقتبسة عن مسرحية برشت «صعود أرتورو أوي»، التي عُرضت على خشبة «مسرح بيروت» سنة 1968، إذ استبدل فيها العدوّ النازي بالعدوّ الصهيوني، باحثاً في نشأة هذا الكيان، انطلاقاً من النصوص الصهيونية الأولى. وقد جاءت المسرحية كرد فعل على هزيمة 1967 التي هزّت وجدان الفنّانين والمثقّفين العرب، وقد ترجمها إلى العربية المؤلّف والمخرج المسرحي المخضرم ريمون جبارة الذي رحل قبل سنتين. ومع اشتداد الصراع العربي الإسرائيلي واحتلال أجزاء من لبنان، ازدهر هذا الفن، وبدأنا نرى مسرحيات معادية للاحتلال على مسرح الحكواتي، الذي اشتهر به المخرجان المسرحيان روجيه عساف ورفيق علي أحمد. جلال خوري المُتعدّد: البرشتي، التراجيدي، الفرنكوفوني، الماركسي، المسيحي، والمسلم أيضاً. انطلق من الفرنسية ثقافةً، إلى الماركسية إيديولوجياً، مروراً بتأييد الثورة الفلسطينية، والانخراط في صفوف اليسار اللبناني، منعطفاً نحو اليمين في خِضم الحرب الأهلية اللبنانية. لقد ابتعد خوري عقب تلك المرحلة عن الأعمال النخبوية، واتّجه نحو الشعبوية والتبسيط، في ميلٍ واضحٍ نحو مخاطبة العامّة. إذ كان يطمح لإثارة وعي المتفرّج وتحفيزه وحضّه على التمرّد. لكن، وعلى الرغم من ذلك، بقيت فلسطين في القلب، وبقيت القضايا العربية همّه الأوّل، ورحل وهو يردّد نشيد الملوك، نشيد «سرجون العظيم»، أو الملك الشرعي باللغة الأكادية. المسرحية الأخيرة الكاتبة والمخرجة المسرحية السيدة نضال الأشقر تحدّثت عن الحسّ الثوري الذي تمتّع به الراحل، والحماسة الدائمة، إذ قدّم للمسرح اللبناني خبراته المهمّة، وخصوصاً في أعماله التي أنجزها قبل الحرب الأهلية، مثل «جحا في القرى الأمامية»، «وايزمانو بن غوري»، «الرفيق سجعان»، وهي كانت مرحلة ذهبية بالنسبة إليه، لكن مسرحياته التي كتبها خلال الحرب وبعدها، لم ترقَ إلى مستوى أعماله السابقة. ومعروف أن جلال خوري هو سليل المدرسة البريشتية، وهو حاول استخدام أدوات المسرح البريشتي في أعماله، ثم انتقل إلى مدرسة «النو» اليابانية، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن أعماله بأهمّية الأعمال الأولى نفسها. وقالت الأشقر: لم يجمعني معه أي عمل مسرحي، لكن جمعتني به اهتمامات واحدة، كالعمل ضد التطبيع ودعم القضية الفلسطينية، وهموم فنّية ووطنية وسياسية، وهي اهتمامات كانت بالنسبة إليه توازي عمله المسرحي، فهو ملتزم وشغوف وله سمعة واسعة، إذ تُرجمت أعماله إلى اللغات الأرمنية والإيرانية والألمانية والإنجليزية والفرنسية، وكان موسوعة للكثير من الأعمال المسرحية، التي غذّت المسرح اللبناني وأنقذته من الإسفاف». وتروي الأشقر أنها كانت وجلال خوري أكثر قرباً في السنوات الأخيرة، «إذ كان يرسل لي عبر الواتساب كل صباح مقالات وفيديوهات لها علاقة بفلسطين وتعذيب الأطفال على أيدي قوات الاحتلال. لقد أخبرني قبل فترة قصيرة أنه يُعدّ لمسرحية جديدة عن «سرجون الأكادي» القائد العظيم، وأنه انتهى من كتابة أول نشيد للمسرحية، كان فرحاً جداً بعمله الجديد، ووعدته أن أرسل له فصولاً ممّا كتبه والدي عن الملك سرجون في كتاب سيصدر قريباً». ضدّ العلبة الناقد والمسرحي عبيدو باشا رأى أن جلال خوري هو «أحد أصفياء المسرح السياسي، وليّ المسرح البرشتي، أو طليعة المسرح الملحمي، طليعة مسرح التغريب. البداية من مدرسة الآداب الفرنسية حيث اجتمع أصدقاء خرجوا إلى حرب المسرح، بعد أن وضعوا قلّادات الفرنكوفونية بأعناقهم. هناك، قدّم خوري بيكت لأول مرة. من مسرح العبث إلى المسرح البريشتي، مسرح ضدّ العلبة الإيطالية والعلاقة الباردة بالجمهور. «بانتظار غودو»، نادمت جمهور المجموعة، بحيث دُهش جميع من شاهد المسرحية بلُغتها ذات الرسالة المختلفة، رسالة تقلبُ صفحة على صفحة أخرى. اللغة ضمير، فاتهم ذلك حتى العام 1967، عام الهزيمة العربية المدوّية. لقد أصبح من الضروري إثرها التضحية بشيء. تمّت التضحية باللغة الفرنسية، بايع الجميع القفز فوق اللغة الفرنسية. بايع الجميع القفز فوق الفصحى إلى العامية اللبنانية، سوى منير أبو دبس، لأنه وجد أن الفصحى تغرّب. وقوف جلال خوري والآخرين على غسق الحروف العربية، تدحرجٌ سياسي، جزء من سؤال الهوية المؤجّل. استقصاء الأحوال الأولى لجلال خوري، يذكّرنا باجتماع الشيوعيين الهاربين من بطش السلطة في مشغل والده للخياطة في منطقة الأشرفية. السياسة مرّة ثانية. تحسّس خوري عقله هناك. وجد الماركسية عند الماركسيين، ببنى تراكيبهم، هم أولاد العائلات الميسورة، الباحثين عن حقوق الفقراء تحت شعاع الصراع الطبقي. انخرط الشاب بالمُمكن الوحيد في حياته، الماركسية. وجد سحر الشعر بالماركسية، سحر المسرح، وجد بصياغاتها اللغوية تركيبات تشير إلى المستقبل. أصبح ماركسياً، ثم انضوى بالنضالات، سواء بالمسرح أو الشارع. كلّ من سمع صوته استفزّه الصوت من وضوح الصوت». المسرح السياسي، مسرح جلال خوري، لا اعتباط في قراءة مسرح الرجل الطويل بالنظّارتين الغامقتين، لا تجديف بالعلاقة بالسياسة. حين تمّ إنشاء المؤسّسة الدولية للمسرح بين خوري وجيرار خاتشاريان وآخرين، تمّ تحقيق حضورها لتسليطها على ملامح المشهد «غير الثوري»، الموالي لإسرائيل بكلّ المنتديات في العالم. بوجودهم وجد العالم المعجم الجديد في المؤسّسة الدولية، إذ تصادم اللبنانيون مع الفكر السائد؛ بثّوا وعيهم الجديد، بعلاماته الجديدة، ضد اعتباط العالم. فلسطين عربية، مقطع تكرّر في اجتماعات المؤسّسة الدولية للمسرح. لا لإسرائيل بالمؤسّسة. تحولات السياسي لقد أطّر الرجل مسرحه بآليات الاشتغال السياسي، فكانت مسرحياته كلّها سياسية. السياسة ملاذ، لا تقلّبات بالسياسة، ما دام الفكر ضدّ اختباءات السياسة وراء ما يقتضي المتلقّي من المسرح. ابتدع مسرحه من مسرح بريشت، بعد أن حصَّل منحة إلى ألمانيا الشرقية في زمن الألمانيتين. تقمّص جلال خوري التغريب أكيد، دار مندهشاً بأروقة وصالات مسرح برشت «البرلينر أنسامبل». تقمّص الراحل بريشت حسب عبارات بريشت الشائعة في «الأورغانون الصغير»، حين قدّم «زلمك يا ريس» (عن آرتورو أوي)، وقعت المسرحية بأصدائها الدلالية الجديدة، بعد أن استكتب جلال خوري (مؤسس ميليشيا القوات اللبنانية) بشير الجميل مقدّمة المسرحية. نشر المقدّمة في مطوية المسرحية، سياسة من أحوال المدينة. احتلّت المليشيات المدينة، احتلّت الضفتين، استكتب جلال خوري من هجت المسرحية أقرانه وأمثاله ونظراءه. من هجته شخصياً، لأنها تهجو هتلر. حنكة بحسب البعض، براغماتية قصوى أو انتهاز بحسب البعض، ربط نزاع بحسب البعض، السياسة تُنقذ المسرحية من مظاهر المأساة المدروزة على جدرانها، من توظيفات الرقابات الحزبية على الأعمال المسرحية والفنية والثقافية. لا مُعطى بلاغي معياري بكلمة بشير الجميل. اختبأ المسرحي خلف السياسي البطّاش، سقطت المسرحية بفمّ الوحش العسكري، بدت ملتبسة الملامح، مُشتتة، لم يستطع جلال خوري التفاعل السليم مع الأوضاع. لم يكرّر جلال خوري ما لم ينسه الناس، حيث راح ينسج أنفاسه في فضاء آخر، كرسي الفودفيل. أجزم بأن «بونسيون الست نعيمة» الأصفى بين أعماله الأخيرة، نصّ ممتاز من أسامة العارف. أقام مصباح البيروتي علاقة بفتاة بولونية خلال سفره إلى أوروبا الشرقية، غادر من دون أن يعرف أن المرأة يهودية وأن المرأة حبلت منه. يسأل الولد عن والده، بعد أن أصبح مجنداً في جيش الدفاع الإسرائيلي، يرفع القومي العربي السكين على ولده اليهودي، في لحظة متوتّرة مفتوحة على كلّ الاحتمالات. أُوقفت المسرحية بعد أن رسمت بعض قيادات الحزب الشيوعي هالاتها الزرقاء تحت عينيها. كرّر جلال خوري تضفير حضوره ببعض الفودفيلات المُتهافتة، النابعة من الحاجة لا الثقة، تكرار اعتباطي. منذ أيام معدودة غاب جلال خوري، لا كنجم نادِم، غاب كرُقعة شمسٍ خجِلة من ظلام البلاد. مضى كحفيف الطيور على الهواء، بعد أن حكم عالماً واسعاً من المسرح. غرقت النحلة في أحلامها الأخيرة. حوارات ذكية الكاتب والمؤلّف المسرحي فارس يواكيم الذي كتب العديد من مسرحيات «شوشو»، وعدداً من الأفلام والكتب، جمعته بجلال خوري صداقة قديمة تعود إلى أواخر الستينيّات، كان محورها الدائم ألمانيا التي يقيم فيها يواكيم منذ زمنٍ بعيد: «لقد كان جلال خوري يحب الدردشة معي عن بريشت والفن الألماني، وقد أطلقت عليه «قنصل بريشت في لبنان»، وتعاونت معه في عمل لم يوقّعه تمّ عرضه على مسرح «شونسونييه» لفرقة سيغال، وهو مسرح تميّز بالحوارات الذكيّة والناقدة الت عندما زارني جلال خوري في منزلي كنت أهمّ بكتابة مسرحية «آخ يا بلدنا» لشوشو المستوحاة من «أوبرا القروش الثلاثة»، فبدا متحمّساً جداً، وكبادرة لطيفة منه، شاركنا بصور الأزياء والديكور من مسرح «برليني أنسامبلي»، أعرق المسارح الألمانية الذي أسّسه بريخت مع زوجته هيلين سنة 1949 في ألمانيا. أعتقد أن أهمية جلال خوري تكمن في الحوارات التي كان يعيد كتابتها ومراجعتها مرتين وثلاثاً، يُتقنها جيداً ويقرأها بصوتٍ عالٍ. كما كان يتميّز بإدارته الذكيّة للمثّل، وتوجيهه الجيد الذي كان يدفع الممثّلين نحو أفضل أداء». روجيه عساف: المثال والقدوة الكاتب والمخرج المسرحي روجيه عساف الذي تعود صداقته بجلال خوري إلى نصف قرن، قال إن أوّل عمل مثّله على خشبة المسرح باللغة العربية بعنوان «صعود هتلر» كان من كتابة جلال خوري، فقد كانت له إسهامات مهمّة في الحركة المسرحية اللبنانية، وأدّت نظرياته إلى تطوير هذا المسرح، وهو أوّل من قدّم نصّاً مسرحياً ضد الحركة الصهيونية على المسرح اللبناني «وايزمانو بن غوري وشركاه». لقد كان جلال خوري بالنسبة لي مثالاً وقدوة، وهو مثّل في مسرحيات من إخراجي كتبتها باللغة الفرنسية. بطاقة مسرحية ولد جلال خوري في بيروت، وهو أول كاتب مسرحي لبناني ينفّذ أعمالاً على المستوى الدولي. ويعرف خوري بأنه المروج السياسي في المسرح في الستينيات من القرن الماضي، وهو أيضاً عالم إيثنوسينولوجيست. وقد شارك في العديد من الندوات في باريس والمكسيك حول إثنوسينولوغي. وبدأ خوري مشواره ممثلاً باللغة الفرنسية في المركز الجامعي للدراسات المسرحية مطلع الستينيات، قبل أن يكتب أولى مسرحياته «ويزمانو، بن غوري وشركاه» العام 1968، ثم تلتها «جحا في القرى الأمامية» العام 1971، وتوالت الأعمال ومنها: «فخامة الرئيس»، و«يا ظريف أنا كيف»، و«هندية، راهبة العشق»، و«الطريق إلى قانا»، و«خذني بحلمك مستر فرويد»، التي استعرض من خلالها جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة عبر محاكمة لإخناتون وفكرة التوحيد. وقدمت مسرحيته «الرفيق سجعان» لموسمين متتاليين في «فولكستيتر روستوك» وهو مسرح الشعب الألماني خلال فترة ألمانيا الشرقية، إذ تأثر الألمان بالمسرحية التي تحمل نمط بريخت. وكان عمله الأخير «شكسبير إن حكى» العام 2016 والذي استحضر فيه تسع شخصيات من مسرح وليام شكسبير لمقاربة محطات أساسية في التاريخ اللبناني. وشغل خوري منصب أستاذ في معهد الدراسات المسرحية، وفي الكلية السمعية المرئية والسينمائية في جامعة القديس يوسف في بيروت، وكذلك رئيس اللجنة الدائمة للعالم الثالث في مؤسسة المسرح التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©