الجمعة 10 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلة في جبال السروات

رحلة في جبال السروات
2 أغسطس 2012
تدور أحداث رواية “يائيل” للروائي اليمني محمد الغربي عمران في أعالي جبال السروات في اليمن وعسير والحجاز، هذا المكان الممتد كشريط من اليمن إلى الحجاز، وتتحدث عن الصراع الديني والمذهبي الذي صنعته ثلاثة مذاهب آنذاك (الاسماعيلي والسني والزيدي)، وأدى إلى صراع دموي قادته مطامع رؤساء وقادة تلك المذاهب للسيطرة على البلدان، مما أدى إلى تدميرها وخرابها وقتل أهلها وسلبهم وشتاتهم في تلك الأمكنة، التي كان أهلها لايؤرقهم غالبا هذا الصراع بل كانوا يتعايشون في سلم ومحبة قبل كل هذا التصارع الذي كان يقتل وينهب باسم الدين ونشر الحق. وقد استمرت الحروب تلك لسنوات طويلة فكلما أعلن إمام مذهب ما أنه الإمام على جنوب شبه الجزيرة سرعان ما يأتي زعيم آخر ويعلن سيادة نظامه، وتدور الحروب مرة أخرى، ويستمر الشتات الذي أدى ببطل الرواية في نهاية الأمر جوذر إلى ارتكاب جريمة قتل. وجوذر هذا هو يهودي تتكاثر حوله الأسئلة منذ صغره، بسبب أمه المتمسكة بالتعاليم اليهودية، وشوذب التي أحبها وكانت ابنة المعلم الباطني الذي عمل لديه منذ صغره ويدعى صعصعة، وهو من علمه النقش بالحروف والرسم بها وتلوين الكلمات.. تزداد أسئلة جوذر الداخلية العميقة حين يقتل المعلم صعصعة بتهمة ترويجه للأفكار الباطنية بعد أن وشى به أعداؤه، وهم لم يكونوا على اتفاق مع الإمام. ثم يودع جوذر في سجن تحت الأرض بلا طعام ولا مجيب وفي ظلمة تزداد كل يوم، مع مجموعة أخرى، ويقضي هناك عدة سنوات تاركا سؤاله عن أمه يائيل وحبيبته شوذب معلقا حتى الفرج: “فضاء بارد الظلمة.. عفن.. أشياء تتلمس جسدي المبلل مصدر طقطقة تزحف فوقي قد تكون زواحف تحت الأرض أو أنها الثعابين القرعاء التي حدثنا عنها فقهاء المساجد.. أم أنني في كابوس ويزول؟”. وبعد خروجه من سجنه بعد أن أصبح هناك إمام جديد يستولي على كل شيء، يجد جوذر إن الحياة قد تغيرت والبيوت قد زالت وما تبقى منها لم يعد لساكنيها، فسنوات من الصراع والموت كانت كفيلة بتغير كل شيء، وموت كل الأشياء التي عرفها، فلا يجد أمه اليهودية ولا حبيبته شوذب بل وبالكاد يتذكره من بقي من الجيران يقول: “فتح الباب على وجه امرأة تتفرس شكلي، لاتشبه أمي، بينما أنا اسأل نفسي هل أنا حقا جوذر؟ وهذه هي صنعاء وان هذا الباب بابنا”. وعلم جوذر فيما بعد، أن حبيبته شوذب خطفت وبيعت كجارية مع نخاس ذاهب إلى مكة ومن هناك تبدأ الرحلة، رحلة البحث عن شوذب، وعن الحقيقة، وعن أمه، وعن الإجابات الضائعة في تلك الجبال، رحلة من التيه ومن الاكتشاف يعضدها قوة الأمل بأن يخرج بشيء ما بعد كل هذا. وفي أكثر من 450 صفحة ذهب بنا محمد الغربي نحو تفاصيل تلك الرحلة، وكيف تعرض جوذر للشتات والضياع والأسر بين أفكار مختلفة على امتداد طريقه إلى مكة من نجران وعسير والباحة والطائف من السهل مرة ومن السراة حينا آخر. مواقف معقدة وحكايات متشابكة تعطي انطباعا وتفاصيل عميقة ومهمة حول تلك الأمكنة، وتستمر فيها الصراعات وكل هذا وجوذر يحاول الوصول بعذر أنه يريد الحج واللحاق بقافلة تاهت عنه، ويجد ذلك مناسبا لما فيه من استمالة عاطفية للناس، ويعود ولكن عبر تهامة هذه المرة في خيبة مريرة، إذ عرف أن شوذب لم تغادر صنعاء.. بعد كل هذه الرحلة التي لقن فيها درس اليقين والشك، والعقل والمنطق يبقي جوذر حرا يغرد ويغني باسم أمنياته التي يريد هو، واشتياقا لأمه وشوذب.. يستخدم الروائي عمران حكاية جانبية في هامش الصفحات، ولنقل تقنية سردية تروي قصة موظف حكومي يجد مخطوطة في دار المخطوطات في صنعاء، ويبدأ في قراءتها في أوقات متفرقة، وطيلة هذه الفترة يتخوف من أن يكتشف أمره قبل أن يتم قراءة المخطوطة التي كتبها جوذر، وقبل أن ينتهي العمل في دار المخطوطات.. كان الأمر بالنسبة إليه ممتعا، وكمن يكتشف شيئا ثمينا ومهما، لذا كان يختفي في وقت الاستراحة وينقل لنا هذا النص، يلاحق الوقت كي نظفر بقراءة النص/ المخطوطة كاملة. أبطال الرواية هم حسب أهميتهم جوذر الذي تحكي الرواية في فصولها قصته من طفولته، وصعصعة الذي يقتل بسبب إتهامه بالترويج للأفكار الباطنية والذي كان معلما لجوذر من صغره وأخذ عنه هذه الحرفة، وأم جوذر يائيل اليهودية التي تزوجت في شبابها وهربت مع شاب مسلم مما أغضب أهلها فتبرأوا منها، بل وتوفي ذلك الشاب تاركا لها جوذر في وقت صارت كل الجهات ترفضها فعاشت منبوذة حياة قاسية ومريرة، ثم شوذب ابنة العلم صعصعة التي أحبها وفي لحظة اتفاقهما على لقاء قبض عليه وألقي في السجن لسنوات ليخرج ويسمع حكاية اختطافها وبيعها كجارية. وهناك شخصيات أخرى مهمة لكن هذه الشخصيات الأربعة تكاد تكون الأهم. تحكي هذه الرواية عن العادات والطقوس الغريبة، المختلفة اختلافا جذريا بين القبائل القريبة من بعضها والمختلفة في عقائدها بين الوثنية والسماوية وتلك التي امتزجت بالسياسة مما أدى إلى حروب لم تتوقف لسنوات طويلة. ويمكن أن نقول إن الرواية تحمل الكثير من الإسقاط على الواقع العربي الراهن، إذ لازالت الهيمنة والفساد والمتاجرة بالدين هي واقع الحال عند الكثيرين، بل والتحكم في الإرادات ووعي العامة..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©