السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زهير خويلدي: العرب يحتاجونإلى الفلسفة كحاجتهم للهواء

زهير خويلدي: العرب يحتاجونإلى الفلسفة كحاجتهم للهواء
27 أغسطس 2014 22:54
* الداعية أخذ المكان الذي كان يحتله المفكر وجلب الانتباه إليه الإعلام * الإصلاح الديني تحول إلى مطية من أجل المراوغة وتلهية الناس عن خفايا اللعبة السياسية ليس المهم الألقاب والجوائز والشهرة بل الأهم هو قيمة العمل الفكري المبذول ومدى الاستفادة منه وحسن الانتفاع من زائد القيمة الذي يوجد فيه، والنجاح في الوصول الى عقول ووجدان العقل العربي، والتأثير في موقفه ووجوده وتغيير الرؤية للكون نحو الحكمة والفعل. . من هذا الإيمان والجهد الفكري والفلسفي الدؤوب الذي أفضى بصاحبه الدكتور زهير خويلدي الحاصل على مرتبة الأستاذية في الفلسفة ودرجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة في تونس الى تتويجه بلقب أفضل كاتب باحث 2009 على الساحة الثقافية العربية، وجائزة المثقف العربي 2012 سعى الباحث التونسي عبر الفضاء العمومي الذي ينتمي إليه، إلى بلورة جملة من النصوص الفكرية بهدف الارتقاء بالثقافة العربية والتشجيع على النقد الفلسفي والاجتهاد في التفكير والنقد والتحليل وفق رؤية متفائلة تؤمن أن قيمة الفكر تزداد في زمان الانحطاط أكثر من زمن الازدهار، وغيابه يؤدي إلى تفاقم حالة المرض وحضوره يعجل بالدواء، ويحرك عقارب ساعة الزمن، حتى وإن كان الزمن الذي نعيش فيه لا يعطي قيمة كبيرة للفكر ولا يحظى المشتغلون بالنقد والبحث بالتقدير في المدينة الإنسية بالمقارنة مع نجوم الفن والرياضة والإعلام. فكيف يرى الدكتور زهير خويلدي الفكر الفلسفي الواقع العربي في ظروفه الحالية، وأي دور للفلسفة والتفلسف في زمن الخراب العربي، وأي أدوات عقلانية تملكها الفلسفة اليوم؟ أسئلة كثيرة يجيبنا عنها الدكتور زهير خويلدي أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية وكاتب فلسفي غزير الانتاج والطروحات في هذا حواره. * توجت جهودك الفكرية بعدة إصدارات، ويبدو أن الإصدار الأول منها نال اهتماما إعلاميا مختلفا عن بقية الإصدارات خاصة كتاب "شذرات فلسفية - العولمة - حالة الفكر في حضارة اقرأ" الصادر عام 2007، ما الحصيلة التي توصلت إليها لواقع حضارة اقرأ؟ ** لقد تبين أن واقع حضارة اقرأ اليوم هو في أسوأ الأحوال، والحصيلة هي المزيد من التمزق والتحارب والضعف والتردي، والأدهى أن الجرعات المقدمة للإصلاح والإنقاذ محدودة وفاسدة وتوفرت في الوقت الضائع وتحتاج إلى معجزة من أجل إخراج الشخص المفهومي من حالة الاحتضار وطرد اليأس والإفلاس. على هذا النحو شهدت الشذرات تطعيما بالسرد والتشريح والمقاباسات من أجل انتشال كونية القول الفلسفي من بين صدام الخصوصيات واكتساح ثقافة الحشود النمطية ولهيب العولمة المتوحشة الذي لا يبقي ولا يذر. لقد توصل البحث إلى حد إثارة التقاطع بين الإيتيقي والسردي والتفطن إلى أهمية التشابك بين الحق والقوة والتصالب بين الفعل والنص، وجعل شعرية السرد تتغلب على استعصاءات الزمانية وأنطولوجيا الذات الفاعلة تنقذ الكوجيتو الجريح من ورطته وتعيده إلى العالم منتصرا بعد غرقه في أوحال الغيرية والايديولوجيا والتقنية. المقصد الأسنى لدينا هو مقارعة الجهل وطرد اليأس وبذل الجهد للخروج من الكهوف المظلمة من التاريخ واستقبال الأنوار المرسلة من العقل الاستطلاعي والتخلي عن المقولات المهترئة والاستعارت الميتة ونحت مقولات مضيئة واعتماد استعارات حية وتنشيط الذاكرة السعيدة وإطلاق ملكة الخيال المبدع للتسامي والعلو. طبق العنف المجاني * "حضارة اقرأ" كما سميتها تعيش اليوم مفارقات عجيبة بين تراثها المتخم بفعل الكتابة والقراءة، وحاضرها الذي ابتلعه مد الصحراء وضحالة الفكر الذي أصابها مع استفحال للغة الدم، والتكفير وشهوة السلطة والفقر والجهل، ما يدفعني للتساؤل: ما حاجة العالم العربي اليوم الى الفلسفة والتفلسف، والعنف البشري طبق يومي مجاني على مائدة الأخلاق العربية؟ ** يحتاج العرب إلى الفلسفة واستراتيجياتها المقاومة مثل الكتابة والقراءة والترجمة والاستشكال والتمعين والبراكسيس مثل احتياجهم إلى الهواء النقي والغذاء الصحي والشغل الكريم والمسكن اللائق وجميع حقوق المواطنة والحريات العامة، وذلك لكي تسمح بافتكاك موقع لهم في العالم وثبت هويتهم المركبة وتحقيق الاستفاقة الكبرى واليقظة الحاسمة وتمكنهم من توديع عصور الانحطاط والتعثر دون رجعة. في الواقع تتشكل هذه الفلسفة المنشودة من مقاومة السائد والاعتراض على الابتذال والعار الذي يخلفه الإنسان حينما يعتقد أنه يعرف وأنه على صواب وأن الآخرين هم الجحيم وأن الفردوس هو العزلة. والحق أن الإنسان الذي يوجد في ظروف غير إنسانية يدفع إلى الخروج من طوره الطبيعي وإظهار المكبوت وانفلات التوحش والهمجية والسقوط في دوامة العنف والغطرسة، وبالتالي يصبح طلب التحضر والترقي من المستحيلات لديه. فن الفهم * في تشخيصك العملي القائم على مفهوم الفينومينولوجيا، والهرمينوطيقيا كمنهج لدراسة الظواهر، قلت (أن نتفلسف هو أن نتدرب على المقاومة بل ان نقاوم وآلية المقاومة هي اللغة العربية أو الضاد وتحويلها الى لغة فكر وانتماء حضاري مشارك في بناء الحضارة الانسانية يساعد على تشكيل هوية سردية لحضارة أقرأ تستوعب بكرمها الطائي الغيرية وتحسن ضيافتها) السؤال هو كيف لنا أن نفلت من ميتافيزيقيا القراءة، وكل قراءة تستدعي ترسانة معرفية حرة؟ ** ليست الفنومينولوجيا توجها مدرسيا ولا عقيدة مذهبية تستوجب التطبيق الفوري وإنما هي منهج وجود في العالم وعودة إلى الأشياء ذاتها من أجل وصفها الخبرات الحية والتجارب المعيشة والتعبير عنها من خلال اللغة الخاصة بها دون أحكام مسبقة ودون الوقوع في شراك المثالية العقلانية ومستنقع التشتت التجريبي. كما أن الهرمينوطيقا ليست نظرية التأويل المنحدرة عن التراث الديني القروسطي، ولا علم التأويل الذي وقع تطويره في الدراسات الإنسانية والاجتماعية في الحقبة المعاصرة وإنما هي رؤية فلسفية ترتكز على فن الفهم Art de comprendre وتسعى إلى إعادة تملك للمعنى وتفهم الإنسان وتحقيق المصالحة مع الطبيعة ومع الإنسانية أي مع ذاته والتواصل مع الغير وتمنح المنزلة الراهنة للوضع البشري التشخيص الذي يستحقه. رهان الهرمينوطيقا هو دفع الناس إلى توفير شروط إمكان التفاهم بإزالة سوء التفاهمات التاريخية والسياسية والعقدية وتجذير الانتماء إلى زمانية الوجود وتدبير تاريخية الوضع البشري والتجربة الفعلية للعقل الإنساني. كما تدعونا الهرمينوطيقا إلى الاستمرار في التفكير وتقر بالتناهي الجذري للفهم وتستنطق التجربة اللغوية في العالم وتحاول التأليف بين فلسفة اللغة والوعي بشغل التاريخ وتحدد نفسها بوصفها بحث عن المعنى المفقود. اتجاه فلسفي ثالث * دعوت إلى اتجاه فلسفي ثالث متحرر من الفكر الفلسفي الحديث الموالي للفلسفة الغربية، والفكر الفلسفي التقليدي العاجز عن الابداع. . لو سلمنا جدلا بإمكانية الطرح بوجود فلسفة عربية وسيطة. . كيف نقر بإمكانية إنتاج فكر فلسفي راهن ضمن البنية العربية السوسيوثقافية بعد أن أخفق عصر النهضة العربية الحديث وإلى الآن من تكوين منظومة فلسفية متسقة، عدا شذرات هنا وهناك، والوضع العربي ماض نحو الهاوية؟ ** الاتجاه الثالث في الفلسفة المعاصرة غير تقليدي عند مقارنته بالمعهود ويذهب إلى ما بعد الفلسفة العربية التي ورثناها عن عصور الازدهار التي تحولت إلى تقليد وميراث بالرغم من تضمنها على مخزون رمزي وإشراقات مضيئة ويستشرف بطريقة نقدية ما بعد الفلسفة الغربية التي استهلكت ما تبقى فيها من تنوير وعقلانية وحداثة وتقدم وكشفت عوراتها بنفسها، وصارت ما بعد حداثة وعولمة ما بعد كوليانية ونظرت إلى موت الكائن ونهاية التاريخ وخسوف العقل وامبريالية الحقيقة والإنسان الأخير وتصدع الذات وفقدان السيادة في الدولة الرخوة وانتصار الإمبراطورية. إذا عولنا على ما تبقى من الفلسفة العربية القديمة في وجداننا من كلام وتصوف وعلوم طبيعة ومنطق ونحو وعلوم عمران فإننا لا نبارح حالة التقليد ولا نحقق الوثبة الحيوية المطلوبة والعود على بدء والولادة الثانية. وإذا عولنا على ما يقره العقل الغربي من تقنيات وعلوم ومعارف وثقافة وفنون وتجارب ومناهج وخبرات وثورات، فإن اغترابنا يتضاعف وضياعنا في العالم يتفاقم ونسياننا لأنفسنا يعطي المبرر للجيل الغاضب على التبعية والتغريب والمنادي بفك الارتباط والتعويل على الذات في استنباط وسائل الترقي والتحضر الخاصة بنا. لكن إذا ما أردنا إيقاف النزيف وزرع الأمل وعدم الوقوع في الهاوية التي أعدت لنا فإنه من الضروري الاحتراس المؤسساتي والتنبه الجماعياتي والتسلح بالوعي التاريخي والإعداد الجيد للمستقبل وامتلاك زمام المبادرة وتصويب البوصلة وتحريك العقل العربي نحو التفلسف الأصيل والتوجه بالفكر نحو منابت الإبداع. صناعة دخيلة * في الوقت الذي يشهد الفكر الغربي فيه تطورا في العلوم الطبيعية، تستشري في زماننا العربي المعاصر ظاهرة الاصولية وعودة الديني وسيادة الفكر الغيبي، كيف تفسر انتشار الفكر السلفي واستثماره للتكنولوجيا في خدمة قضاياه اللاهوتية والغيبية والإرهابية، دون اهتمام لامتلاك المنهجية المعرفية والعقلانية التي أنتجت هذه الأدوات التي هي صناعة الغرب الكافر على حد تعبيرهم؟ ** التصورات العقائدية المغلقة هي صناعة دخيلة على حضارة اقرأ وأفرزها مناخ من الظلم السياسي والازدراء الاجتماعي لعدة شرائح وفئات هامة وتم زرعها بطريقة ملتوية وتوظيفها ضد مصالح الأمة ومستقبلها وأفضت إلى تخريب العمران وإهلاك الإنسان. أما الغلو الديني فهو ناتج عن غياب حسن الضيافة بين الأديان وتفشي اللاّتسامح بين المذاهب واحتكار تصريف شأن المقدس من طرف سلطة سياسية وإقصاء بقية المكونات وذلك لغلبة التفسير على التأويل وتحكيم النقل على العقل وإذكاء نار فتن الماضي على حساب الإجماع على أولوية المصلحة الراهنة وحتمية سد أبواب المهالك وطرق الأبواب التي تجلب المنافع. العلاقة المتشنجة بين العرب والعالم سببت العديد من المشاكل والضغائن وأدت الى تنامي الكراهية بين الشعوب وتبني النظرة الاستشراقية والحكم على الشرق بـ"التخلف" من منظور الغرب "المتقدم" وتكريس التبعية والالحاق بالأمم القوية والتفريط في السيادة الوطنية والأمن القومي العربي والمصلحة العليا للأمة. نحن نعاني من سوء فهم لذواتنا ومن رؤية ضبابية لثقافتنا وفقدان التعايش بين معظم مكونات الأمة وعناصرها، وقد ترتب عن ذلك أن معظم مخزوننا المعرفي ملقى به في المتاحف والأراشيف ولم يقع تحقيقه بعد، ولذلك أنتجنا خطابا غوغائيا يتميز بالانفعال والتوتر ويجنح إلى التقليل من القيمة الأنطولوجية للغير. بناء على ذلك نحتاج إلى مكتسبات العلوم الإنسانية من أجل تفكيك هذه الأوهام وإزالة هذه التصورات الخاطئة عن أنفسنا وعن غيرنا وتدريب الخيال على احترام الواقع والاستفادة من النسيان الرحيم والحكمة الحية وذلك للتوجه على التو نحو العناية بالذات وإعادة بناء الحدث العربي وإنقاذ الحياة حيثما هي أسيرة. آفة إعادة الإنتاج * (حرية الاعتقاد الديني) المعضلة الأساسية التي تواجه الفكر العربي المعاصر، والتي بدأت بقطرة الدم مع (أسعد الشدياق) في القرن التاسع عشر، مستمرة ليومنا الحالي، مع تطور الأمور وانتشار لغة السلاح كغطاء تبريري للدفاع الاسلام تحت غطاء منظومة فكرية اسلامية تعددت اجتهاداتها وفتواها المبنية على موروثات فكر قروسطي تسيء للاسلام وتعادي التغيير في الزمان والمكان؟ كيف يمكن تفسير هذا الخراب العربي بأدوات عقلانية؟ ** لعل الاستراتيجية الحضارية التي تفضي إلى عصر ما بعد همجي للإنسانية ترتكز على حرية الضمير بالمعنى الواسع للكلمة وليس على حرية الاعتقاد وتشترط ضمان حق إقامة الشعائر الدينية في كنف التسامح والتعايش والأمن للجميع، وتمنح حقوق المواطنة لكل الأفراد وتركز على الهوية الوطنية بالمعنى السياسي والقانوني والتاريخي، ولا تقتصر على تحديد الهوية الثقافية من خلال العرق أو اللغة أو الدين أو الجهة أو الحزب. من المفروض أن يتم التفريق بين الدين الإسلامي والفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي بالرغم من وجود نقاط التقاء وتماس بين العناصر الثلاثة وهيمنة طرف على آخر واستفادة عنصر من غيره وتغطية مجال لمجال. بدل الانحياز إلى مشروع أسلمة المجتمع المسلم منذ قرابة خمسة عشر قرنا، يمكن تبني خيار تجديد الإسلام وإعادة بناء علومه والاستفادة من ينابيعه الروحانية في تلطيف العلاقات بين الناس وتجميل أروقة الكينونة. أكبر الآفات التي وقع فيها الفكر في ثقافتنا هي إعادة الإنتاج reproduction لما كان موجودا في الماضي وإلباسه ألفاظ مستحدثة ومقولات مصطنعة وتبرير ذلك بالحفاظ على العربية الفصحى وأصالة الإسلام. بينما ما نحتاجه هو الإنتاج وليس إعادة الإنتاج بمعنى الإضافة والاشتغال والإفادة والابتكار والإنشاء والتشييد. لقد أخذ الداعية المكان الذي كان يحتله المفكر وجلب الانتباه إليه الإعلام في ظل عالم السماوات المفتوحة وتكاثر الفضائيات وسهولة الاتصال وسرعة التواصل وراجت بضاعة فقهية ومجموعة من الفتاوى غير محكمة وتأثر الشباب وطائفة من العقول الحائرة والنفوس الحزينة بهذه الآراء واعتقدوا أنها أحكام قطعية وثابتة. هكذا يحتاج الخطاب الديني إلى ترشيد وعقلنة في مستوى الباث والمتلقي والأداة والرسالة والهدف المقصود. كما أن الدفاع على الإسلام وعلى القرآن وعلى النبوة يكون بالحجة المنطقية والعلوم الإنسانية أكثر إقناعا ومتانة من الاعتماد على الترهيب والترغيب وتوظيف التخييل والأسطورة ومن الالتجاء إلى الإكراه والقوة. لا يتحقق تجديد الإسلام إلا بتحديث للمنهجية وتغيير لميكانزيمات العقل والاعتراف بالتعددية وتضافر الكثرة في سبيل بناء الوحدة الديناميكية والتوجه نحو تجميع الكثرة في عملية مركبة ولامتناهية التعقيد وإعداد المتلقي وتحويل النص من مستوى الكتابة إلى مستوى القراءة وفتح حركة التأويل على المراجعات الجذرية للحقيقة. الكتّاب والكتبة * يرى بعض المفكرين ومنهم جورج قرم أن حل المسألة الدينية وإشكالياتها المعاصرة في القرن الحادي والعشرين يكمن في استعادة روح الحضارة العربية الاسلامية التي مارست التعددية الدينية والإثنية ونبذ الصورة التي تقدمها الحركات الأصولية عن الاسلام كدين مغلق وغير متسامح وإنهاء المؤسسات القائمة على توجهات إقليمية أو دينية وصوغ إنسانوية علمانية بديلة لحرب الحضارات، في حين يرى آخرون بأن الافكار السابقة هي نوع من التصور الطوباوي للحل، ما رأيك أنت؟ ما هو الممكن؟ ** لقد حاولت بعض المشاريع الكبرى تثوير التراث وتأصيل الحداثة واتجهت نحو نقد العقل العربي وخلخلة العقل الإسلامي وتاريخية الفكر وتفكيك الأنساق المعرفية وكشفت ذهنية التحريم ونبشت في المسكوت عنه وفتشت في المخيال السياسي واللاشعور الجمعي للعرب والمسلمين، ولكنها تعثرت وانتكست وبقيت أبحاثها على رفوف المكتبات الجامعية يتداولها القلة من المهتمين ولم تتحول إلى ثقافة حية ولم تؤثر في الشأن العام. ما ينقص هذه الاجتهادات هو الجرأة والفرادة والمغامرة والارتحال إلى المجهول والإخلاص إلى الفكرة والالتزام بالمبدأ في كل حالة ومهما كانت الظروف والنزاهة العلمية والحياد الايجابي في علاقة بالسلطة. لقد تحول بعض الكتّاب إلى كتبة وصار أساتذة الجامعات مجرد منفذي برامج وأضحى العلماء مستشارين سياسيين لأنظمة حاكمة مستبدة وبقي التفكير عندهم مجرد تحليل للخطاب السياسي للقادة والزعماء وأداروا ظهورهم لمشاكل الناس وقضايا شعوبهم ومصائر بلدانهم ومستقبل أوطانهم وأهملوا الأزمات والارتدادات. الواجب يقتضي تبديد الصورة الزائفة التي تشكلت عن الإسلام في الإعلام الغربي وتفكيك الحكم المسبق المتحامل على العرب والإسهام في إعادة تشكيل صورة جديدة بالانطلاق من الواقع الراهن، كما هو دون تضخيم للعيوب أو انتقاء للمكاسب ودون الوقوع في جلد الذات وعقد الدونية والشيزوفرانية والتلذذ بتعذيب النفس وتحميلها ما لا تطاق ودون الإصابة بمرض الخطاب المدحي والتصور الافتخاري والوله الذاتي. من الممكن البرهنة للعالم المشاركة في صناعة الكونية عن طريق تشجيع الفكر المنفتح والانشغال بالتفلسف والإبداع الفني وتحريك العقول المستقيلة وإنارة الرأي المشترك المظلم وصناعة ملحمة جماعية خلاقة. نموذج محمد إقبال * في ظل الظروف التي نعيشها حاليا، إلى أي مدى نحن بحاجة للاصلاح الديني الآن، ولماذا تعجز المؤسسات الدينية التقليدية (الأزهر وسواها) عن إنتاج خطاب ديني خال من التلقين والتكرار ويواكب العصر الحالي ويواجه الفتاوى المعادية لحرية الفرد والآخر؟ ** شعار الإصلاح الديني هو مطب لا مخرج منه وفي الغالب تحول إلى مطية من أجل المراوغة وتلهية الناس عن خفايا اللعبة السياسية، وبدل طرح هذه المسألة حري بنا إثارة مشكلة الإصلاح السياسي والإلحاح على الديمقراطية الجذرية والمطالبة بتجديد الفكر الديني على غرار ما فعل محمد إقبال في بداية القرن الماضي. هناك عدة مداخل للاستفادة من عودة الديني في الزمن ما بعد الحديث وربما أولها هو التحلي بالتسامح واعتماد المنهج السلمي في الحياة وتحمل المسؤولية تجاه مستقبل الحياة على الأرض وتلاحم البشرية في مواجهته لمخاطر النزعة الكوارثية التدميرية، وكذلك الإحساس بالغير وبذل الجهد لإنقاذ المقدس من سطوة المدنس. لا يمكن بلورة حوار الأديان والتقريب بين المذاهب وحسن الضيافة بين الطوائف إلا بالتسليم ضمنيا بتاريخية فهم النص المقدس، ولا نهائية التأويل، ومحدودية التفسير، والتركيز على الأبعاد الإيتيقية في القصص الديني. العلمانية المانعة والمانحة * ثمة مشاريع فكرية متعددة يرى فيها أصحابها أنها حلا لمشكلة الطائفية التي تتفشى في عالمنا العربي منها العلمانية، والمجتمع المدني، وتجديد الفكر القومي، فضلا عن دعوات تجديد الفكر الديني برأيك أي هذه المشاريع هي بديل حقيقي للطائفية؟ ** مشكلة التبعية للمشاريع المعولمة وما يتميز به الوضع العربي من تشرذم وتفرقة وفتنة أثر سلبا على مستوى الفكر العربي وعلى درجة تقبله في الأوساط العامة وعطل مطلب فك شفرته وقراءته ومطالعته والاستفادة منه ولذلك استبد القرار السياسي والحل الأمني بالمشهد وتم تغييب دور المفكر والرؤية الاستشرافية لدى العلماء والنقاد ووقع الاستهانة بالآراء النقدية والمشاريع التثويرية، التي تراهن على الإنسان وتجدد الأخلاق. في هذا الصدد يمكن التعويل على علمانية ثالثة بين علمانية الدولة المانعة وعلمانية المجتمع المدني المانحة لكي يتم حلحلة مشكلة الطائفة والارتقاء من دوائر المحلية والجهوية والحزبية إلى دوائر الوطنية والقومية. كما التجديد القومي يتوقف على إعادة النظر في مفهوم العروبة وبناء التصور الوحدوي على رؤى ديمقراطية وتقدمية ونبذ العنف والاستيلاء والغلبة والتوسع والتوقف عن محاكاة النماذج القومية الغربية وإسقاطه على الخصوصية الثقافية للعرب وتحقيق المصالحة بين العروبة والإسلام وبين الإنساني الديني والإنسان الدنيوي. نحتاج نقد الخيال العربي وتفكيك الذهنية القديمة وتشذيب الذاكرة الجمعية من الشوائب للتخلص من صورة المنقذ والمنتظر والمحرر والموعود والإقرار بلاعصمة الإنسان وتناهي الطبيعة البشرية والتركيز على الفعل المشترك والإرادة الجماعية وتحميل الشعوب مسؤوليتها في تقرير مصيرها بنفسها وإحداث منعطف سياسي يتوج بميلاد الفرد الإنسان وظهور المواطن الحر والاعتماد على العقل في تدبير الناس في معاشهم ومعادهم. بين الإيمان والإلحاد * يقول الفيلسوف الفرنسي (أندريه كونت سبونفيل): يوجد صراع في زمننا الحاضر، ولكنه على عكس ما يظن البعض، ليس بين الحضارات، ولا الأديان، ولا حتى بين المتدينين والملحدين، وعليه يتوقف مصير كوكبنا، وهذا الصراع هو ضد الظلامية الدينية من جهة وضد العدمية الإلحادية من جهة أخرى ما رأيك؟ ** مشكلة الإيمان والإلحاد هي من الأمور النسبية وتطرح ضمن دائرة المنظورية وتظل تتبدل من زاوية نظر إلى أخرى وتتغير بتغير الأديان والفرق والمذاهب والثقافات، ولكن إدخال السياسي إلى المجال الديني بغية توظيفه واستثماره وتطويعه لأغراض سلطوية، هو الذي أفسد الأمر وجعل الاعتدال غائبا والرأي السديد مفقودا وعطل المناقشة العلمية الرصينة لبعض الاجتهادات المقصرة في حق العقل والواقع والحقيقة. أظن أن العدمية الإلحادية عند العرب خاصة والمسلمين عامة قد ظهرت كرد فعل على وجود معسكر من الغلو الديني وربما أثرت سلبا على مسار الاجتهاد المعرفي بل لعلها منعت من قيام حركة تجديد ديني أصيل وأجهضت ثورة دينية متزنة. كما أن الموجة الأصلانية من الدين السياسي التي ضرب مشارق الدنيا ومغاربها ونظرت إلى ما تحت الدولة الوطنية وما فوقها قد عطلت كثيرا مسألة التمدين والتحديث وجعلت التأثيرات الايجابية للعولمة ـ إن وجدت ـ محل اعتراض وتشكيك وبالتالي منعت من قيام إنسية عربية جديدة. جدارة المرأة * لا بد لي أن أسأل عن رؤية الفلسفة العربية لواقع المرأة العربية التي هي بين مطرقة الإسلام السياسي المهووس بالمرأة من موقع الدونية والتبعية، وبين سندان عصر الثقافة الابوية حسب (شرابي) وثقافة سي السيد على حد تعبير (محفوظ)؟ ** المرأة بدأت تتحرر من السلسلة المقيدة لها في العديد من البلدان وحققت العديد من المكاسب ومطلب المساواة صار العمل المشترك عند الحركات الحقوقية والحركة النسوية أصبحت واحدة من الأذرع القوية للمجتمع المدني الفاعل، ولكن وضعية المرأة العربية ظلت حبيسة رؤية قروسطية كرسها اللاهوت وحراس التاريخ التذكاري، ورسختها بشكل معاصر ثقافة ذكورية آمرة وتصورات أبوية عفا عليها الزمن وأحالها على الماضي. من المفروض التخلص من معاملة الأنثى بوصفها موضوع رغبة وإيقاف عملية السلعنة وعولمة حقوق المرأة والكف عن العنف المسلط عليها وتقزيم حضورها الاجتماعي في ممارستها لوظيفة دون غيرها. ومن الضروري أيضا أن تدافع المرأة العربية بنفسها عن وجودها وأن تثبت جداراتها في المشاركة الندية وتنتقل الى مرحلة المبادرة والتسيير والقيادة وتعبر للعالم عن المكانة اللائقة التي حظيت بها في حضارة اقرأ. الناطق الرسمي * دعوت الكتّاب والشعراء والنقاد قبل فوات الأوان إلى ترك الجدران السميكة للايديولوجيا ومغادرة الأرض الصلبة للديماجوجيا، والوقوف مع شعوبهم في رغبتها في التغيير والحرية؟ من هو المثقف، وكيف يكون عضويا وفق مبدأ فلسفة البراكسيس؟ ** مسؤولية المثقف في عصر الاضطراب الفكري والحرب الأهلية في الديار العربية كبيرة وضرورية ومطالب بالتصدي إلى الظلم الاجتماعي والاستحمار الداخلي والاستعمار الخارجي والوقوف إلى جانب شعبه والتعبير عن قضايا مجتمعه وأن يكون الناطق الرسمي باسم الحشد المشترك والمساهم في تشكيل رأي عام مضاد والناشط في المجتمع المدني ضد تَغَوّل الدولة واستبداد المجتمع السياسي وتجار الحقائب وصائدي المناصب لكي يحمل لواء القلم ضد لغة السيف وينتصر للمعرفة ضد بشاعة السلطة ويكشف عن الحقيقة في مواجهة ثقافة القتل على الهوية والانتماء إلى الأمة بدل الانتماء إلى الطائفة ويعيد الاعتبار إلى قيم الكرامة والشهامة والمجد والعزة والعدل والحرية ولكي يعيد تشغيل المقاومة الثقافية في عالم متغير تمزقه الحروب والنزاعات. المثقف العضوي هو الذي يكون مع الناس ولا يكون ضدهم ولا يتحالف مع أعدائهم ويتضامن معهم ويشعر بما يشعرون ولكنه لا يبخل عليهم بالنقد والمحاسبة ويدفعهم إلى تغيير أنفسهم والارتقاء بذواتهم إلى الأفضل. بوكس === سيرة فكرية وأكاديمية الدكتور زهير الخويلدي، أستاذ وكاتب فلسفي وباحث في الجامعة التونسية، وهو المدير المسؤول لموقع ومجلة ملتقى ابن خلدون للعلوم والفلسفة والأدب. تحصل عن الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة تحت عنوان "تقاطع السردي والاتيقي من خلال أعمال بول ريكور" بدرجة مشرف جدا من كلية العلوم الانسانية والاجتماعية 9 أفريل بتونس. ينشط في العديد من المؤسسات التابعة للمجتمع المدني ويؤثث دوريا عدة منتديات ثقافية وملتقيات فكرية في عدة جمعيات. أصدر مجموعة من المؤلفات أهمها: لزومية العود على بدء أو استراتيجيات فلسفية 2007 بتونس، معان فلسفية ، دار الفرقد، دمشق 2009 بسوريا، شذرات فلسفية: العولمة وحالة الفكر في حضارة اقرأ، دار أكتب لندن 2010، الهوية السردية والتحدي العولمي، دار أكتب، لندن 2011، الثورة العربية وإرادة الحياة، مقاربة فلسفية، الدار التونسية للكتاب 2011، تشريح العقل الغربي، مقابسات فلسفية في النظر والعمل، دار روافد الثقافية، بيروت ودار ابن النديم الجزائر، 2013، كونية القول الفلسفي عند العرب، تشريح العقل العربي الاسلامي، عن دار نيبور، بغداد 2013 بالعراق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©