الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عزلة المكان ووحشة الزمان

عزلة المكان ووحشة الزمان
27 أغسطس 2014 22:55
تصدر مجموعة عمر شبانة الشعرية «الطفل إذ يمضي» عتبة ذات بعد دلالي مهم في الكشف عن رؤية الشاعر في تلقي نصه الشعري. لكن أول ما يلحظ على هذه العتبة أن الشاعر تعمد فيها إرباك القارئ ومعه الناقد، إذ جعلها (العتبة) تتأرجح بين انتمائها لعالم العتبة وانتمائها لمتن النسيج النصي للمجموعة. فمن حيث الشكل حملت العتبة عنوان (المقدمة)، لكن الشاعر لم يشأ لها ـ خلافاً لما هو معهود ـ أن تمتلك استقلالية عن نصوص المجموعة، كأن تستبق نصوص المتن الشعري لتتميز منها، بل جعلها جزءاً لا يتجزأ من قصيدته الشعرية الأولى أو استهلالاً لها، تلك التي حملت عنوان (الشاعر). وبهذا فإن قصيدة (الشاعر) هي أول ما يواجه متصفح المجموعة. لكن هذا القارئ ما إن يقلب صفحة عنوان هذه القصيدة (الشاعر)، للتهيؤ للدخول إليها، حتى يجد ثمة مفارقة تنتظره، فبدلاً من الدخول إلى النص سيواجه بعنوان آخر يحمل اسم (مقدمة) مستقل عن سياق القصيدة التي ستتلوها حاملة الاسم نفسه، ما لا يمكن تصنيفها، من حيث الغاية والبنية والدلالة، إلا على أساس انتمائها إلى عالم العتبة النصية، برغم اتخاذها شكل النص الشعري. يقدم الشاعر عتبته إذاً في هيئة نص شعري، له وظيفة تتصل بأنماط مقاربة النصوص كما قلنا. أما حمولة النص الدلالية فتتكشف عن موقف نقدي، يقف فيه الشاعر من الإشكالية المتحكمة في المشهد الشعري اليوم ومن موقف الخطاب النقدي منه، إذ يفصح فيها عن فوضى التلقي في المشهد الشعري العربي وافتقاره إلى المقاييس الواضحة للتعاطي مع النص الشعري. فالشاعر هنا يستبق قراءة النقاد لنصه بالإعلان عن توقعه لأنماط من القراءة؛ ما بين احتمال وصفه بالغنائية لدى طائفة منهم، وبالرثائية لدى طائفة أخرى من نقاد الحداثة، أو وصفه بالنص الحديث الذي لا يخلو من المباشرة من قبل نقاد آخرين أكثر حداثة، أو برؤية رهط آخر من النقاد الذين يمكن أن يروا في هذه النصوص ضرباً من ضروب السيرة الذاتية. ولاستكمال دور العتبة في الكشف عن ملامح هذه الإشكالية، فإن الشاعر لا يغفل عن الوقوف على مظهر آخر من مظاهر الفوضى، يتمثل في إدلاء بعض الشعراء أو المتشاعرين على حد تعبير الشاعر، بآرائهم في النصوص الشعرية، وقد لا يتورعون عن الشطب على هذه النصوص بوصفها ضرباً من ضروب الشعر العمودي حيناً أو وصفها بالتفاهة حيناً آخر. ولا يخفى أن وراء عتبة الشاعر دوراً خفيّاً، يمكن للقارئ الوصول إليه، هو دور الموجّه النصي. فالشاعر هنا يهدف من وراء هذه الآلية إلى توجيه وعي القارئ نحو التبصر بالنص قبل إصدار أي حكم اعتباطي تجاهه، وصولاً إلى امتلاك مقاييس واضحة، والصدور عن معايير أكثر دقة وموضوعية: « يقول عليه نقاد: قصيدته غنائية ونقاد حداثيون: رثائية ونقاد أشد حداثة سيؤكدون: حديثة لكن. . مباشرة ونقاد: معلقة تصور ذاته وتقول سيرته وفي المقهى يقول شويعر هذي القصيدة جد تافهة: عمودية». إن للعتبة كما يتضح وظيفة استباقية، تتلبس دور الناقد وأدواته، وتسعى إلى إجهاض ما يمكن أن يصدر من أحكام يراها الشاعر غير جديرة بنتاجه، وصولاً إلى تلق أكثر موضوعية. وبهذا فإن هذه العتبة ـ إذا ما أحسنا الظن ـ تتيح للشاعر فرصة مشاركة الناقد دوره، شريكاً فاعلاً ومكملاً لآليات إعادة الإنتاج. والعتبة في النهاية تدخل في علاقة تناص مع نص شعري للشاعر الراحل محمود درويش لا يخرج في موقفه ورؤيته عن الدلالة التي أراد عمر شبانة الوصول إليها. ولا ريب في أن نصوص مجموعة «الطفل إذ يمضي» التي تختزن رؤى وتجارب وعوالم متنوعة، تبدو وكأنها المنشور الضوئي الذي يعكس ألواناً مختلفة وأساليب متعددة، إذ يمنح قربها من ذاتية الشاعر وما يسرده من عوالم الإحساس بالبعد الغنائي، وبالتعبير عن سيرة الشاعر الذاتية، مثلما تعكس الفجائع الممثلة في الفقد والوحشة والكهولة والعزلة إحساساً بنغمة رثائية. لكن هذه الألوان لا تعدو كونها الغلالات التي تحيط بقشرة النص الخارجية التي ينبغي على المتلقي تجاوزها إلى الدلالات التعبيرية المترشحة عنها؛ وهو ما دفع الشاعر إلى تنبيه المتلقي عليه. البنية الأسلوبية يمكن القول إن الغالب على البنية الاستهلالية للنصوص العشرة هو الابتداء بأسلوب شبه الجملة، سواء أكانت دالة على الجار والمجرور أو على ظرف المكان، إذ يتمثل هذا الملمح الاستهلالي في خمسة نصوص هي: (الشاعر، من أول الدنيا، أنا وهي، قصائد، رؤية) إذا ما استبعدنا العتبة النصية ولم نعاملها على أنها استهلال للقصيدة الأولى. في حين مثّل البدء بالفعل الملمح الاستهلالي الثاني في مجموعة الشاعر، إذ مثلته النصوص: (الصعود إلى الشاعر، الكهل وحيداً، شمس في أقصى عتمتها)، وما تبقى من ملامح استهلالية توزعت ما بين جملة الحال والتمني، بمعدل ملمح واحد لكل منهما. إلى جانب هذا فإن نصوص المجموعة تفصح عن قدر من التنويع الأسلوبي في التعبير عن تجربتها الفنية، ولا سيما على مستوى استخدام الضمائر الذي شهد مزاوجة في ما بينها، انسجاماً مع الحاجة إلى التعبير عن الأصوات المختلفة وتماشياً مع تبدل صيغ التعبير ما بين وصف وسرد وحوار، وبخاصة أن السمة السردية هي ما بدت مهيمنة على نصوص الشاعر. ومع ذلك فإن من الممكن ملاحظة هيمنة استخدام ضمير المتكلم على ما عداه، إذ بلغت هيمنته في سبعة نصوص، في مقابل هيمنة ضمير الغائب في النصوص الثلاثة الأخرى التي يتحول بعضها إلى ضمير المتكلم ثانية. وفي ظننا أن السبب وراء هيمنة استخدام ضمير المتكلم على ما عداه، يرجع إلى تمحور معظم عوالم نصوص المجموعة حول الشخصية المحورية المعطوبة التي اتخذت أزمتها مظاهر مختلفة، وصلت إلى ملامح تراجيدية وإشكالات وجودية وفكرية واجتماعية ووطنية. وهو الأمر الذي حدا بالشاعر إلى إسقاط الحاجز الفني الفاصل في ما بينها وبين الصوت المعبر عنها، في محاولة للإيهام بحالة التماهي التي يخلقها توحّد صوت الشخصية بصوت الشاعر. وباستثناء نصوص شعرية أربعة لا تحتمل التقطيع، رأينا سائر نصوص المجموعة الأخرى وقد خضعت لتقنية التقطيع إلى مقاطع حملت أرقاماً. ملامح الشخصية المحورية تبدو الشخصية المحورية في نصوص الشاعر شخصية معطوبة كما أسلفنا، ويعود سبب عطبها إلى جملة عوامل، منها حمل هذه الشخصية جرثومة القرية التي وجدت نفسها عقب مغادرة عالمها الأول مكرهة وجهاً لوجه أمام المدينة التي بادلتها نفوراً وضيقاً وكراهية. ومن هذه الأسباب أيضاً حمل هذه الشخصية جرثومة فقد الوطن وتحوله عقب النزوح من وطن واقعي إلى هم سياسي (وطني) وحلم مغروس في النفس لسنين طويلة، وهو ما يعني فقداً للوطن الأكبر والوطن الأصغر (القرية) ولذكريات الطفولة والصبا وأحلامهما. ويتصل بهذه البواعث أيضاً ما تعرض له المشروع التحرري من عوائق ومصاعب وهزائم وغدر زاد من وطأة الإحساس بهذا الفقد. فإذا أضفنا إلى هذه البواعث والأسباب الباعث المعرفي المتمثل في البحث عن الحقيقة وتوظيف العقل المتشكك والاستمرار في طرح السؤال، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بجرثومة الهم المعرفي، فضلاً عن حالة الفقد العاطفي المترسب من جراء فقد المرأة- الحبيبة الذي تشي به النصوص الشعرية للشاعر: «يذهب للمطبخ يتشمم رائحة يديها وأصابعها فوق كؤوس الفودكا وفناجين القهوة . . . فنجانكِ هذا. . يبقى مقلوباً طقساً للعشق الباقي لن تشرب منه سواكِ». من هنا تبدو أزمة الشخصية المحورية أزمة إشكالية مركبة وذات مصادر متنوعة، وهو ما جعل هذا التأزم يأخذ أشكالاً من الغربة والوحشة والعزلة والتوحد: «ليس سوى جرس المصعد يوقظه من وحدته أو أصوات العمال على سطح البرج الصاعد كالقبر هنا. . في صمت الحي»/ «صمت وفراغ والذئب المهزوم وحيد في عزلته». ثمة إحساس دائم بالغربة في المدينة الخليجية التي تبدو أشبه بالكابوس أو الوحش، حيث الشقق القابعة في أبراج المدينة العصرية المتطاولة تبدو معادلاً للقبور وسط حالة الصمت. ولعل هذا ما جعل نصوص الشاعر تحيل على نص السياب الشعري، في جزئه الذي يحكي غربته وإحساسه بالفقد والوحدة وهو يقف على عالم الخليج الهادر: «هنا السياب يحكي قصة عن مومس عمياء يعرفها ويبكي غربة فوق الخليج». حضور المكان لقد ظلت هذه المصادر تتفاعل في داخل الشخصية حتى انتهت بها إلى الإحساس بالعبث وبانقلاب مستقرها الذي تقيم فيه إلى ما يشبه السجن تارة والحفرة أخرى: «حتى ضاقت الدنيا بقامته وصار فضاؤه. . حفرة». وهو إحساس حاد بالمكان يبدو، وكأنه المظهر الأبرز لمظاهر تأزم الشخصية، فلقد اكتسب المكان في نصوص المجموعة دلالات الضيق والسجن والانحصار والعزلة، وتحوّل إلى لازمة لفظية تكررت في شكل موتيف في عدد من نصوص المجموعة، لتوكيد (الهنا) الكالح الموحش، بوصفه حالة تقف في شكل تضاد مع (الهناك) المبهج الدفيء. ففي النص الأول المعنون بـ(الشاعر) تتكرر الإشارة إلى المكان (هنا) ستاً وثلاثين مرة، للدلالة على موضع إقامة الشخصية في الطابق العاشر، فضلاً عن اللجوء إلى افتتاح كل مقطع من مقاطع القصيدة بهذه المفردة المكانية. إن انكماش فضاء الشقة الذي تقيم فيه الشخصية إلى الحدود المعبر عنها في نصوص المجموعة إنما يتماشى مع ضيق عالمها وانسداد أفقها الذي لم يعد مفتوحاً إلا للهجوم الوحشي لذكريات الماضي ورائحة المكان الأول الذي يكتسب بعداً مثالياً أو مدينة فاضلة صعبة المنال: «يغني حالماً بمدينة الأحلام يقرأ ذكريات تشرد ويطير مختنقاً بوهم الموت. . . . . كهل يحاول أن يعيد طفولة ويعيد أشجاراً وحقلاً كان يلسعه بشمس الغور» والحق أن استخدام الشاعر مفردة (هنا) المكانية يتجاوز البعد المباشر للمكان إلى الدلالة الرمزية التي تتيح للشخصية أن تطل على الخليقة؛ من مبتدئها إلى منتهاها، في الوقت نفسه الذي تطل فيه على خرائب العمر وأسرار الصندوق الأسود وزمن الذئب المكتهل المنفي: «هنا الشاعر يطل من الخليج على نهايات الخليقة أو يطل على خرائب عمره وعلى جبال النحل في أغواره. . »/ «هنا في الطابق العاشر تجيء الذكريات كما يجيء الوحش في الغربة». وإذا كان نص (الشاعر) الأول قد اتخذ من ضمير الغائب وسيلة تعبيرية عما يريد نصه الإفصاح عنه، فإن هذا النص يتخلى عن استخدام هذا الضمير، مطوحاً به بعد أن بلغ احتدام المشاعر الوجدانية مداه، ليكشف عن قناعهِ متوحّداً بضمير المتكلم الذي يبدو أقرب إلى واقع الشخصية. لكن هذا الانتقال لا يخلو من مظاهر تمزق وتشظ وفصام. لكن هبوط الشخصيتين يتسبب في ضياع أحدهما عن الآخر، ليتوحدا من ثم في صوت واحد، وذلك حين يعبر كل منهما عن كونهما يكملان بعضهما: «أصرخ: أنت ميلادي فيصرخ: أنت موتي ثم نصرخ: أنت ميلادي وموتي يا أخي في الطابق العاشر». حضور الزمن يقابل هذا الإحساس الفجائعي بالمكان إحساس لا يقل فجائعية وحدّة بالزمن. يبدو هذا جلياً في اختيار زمن الكهولة المتصل بالشخصية المحورية وتغليفه أجواء نصوص الشاعر، مثلما يتضح في حضور الليل والظلمة التي تبدو الرئة التي تتنفس منها الشخصية، فضلاً عن ارتداد وعي الكهل في النصوص إلى زمن الماضي المرتبط بالطفولة والصبا وذكرياتهما المفعمة بالمسرّة والجرأة والحب المتكامل بين الرجل والمرأة. بل إن هذا المظهر ليبدو منذ العنوان الذي يواجهنا على غلاف المجموعة، كاشفاً عن حدّة الإحساس بالزمن المتسرب ومرارته. لقد بدت الشخصية المحورية وهي تجاهد من أجل دفع غائلة الاختناق عنها والاستعادة العبثية للزمن المنتهك، ما أكسبها بعداً تراجيدياً: «كهل يستعيد بيادر انتهكت على إيقاع بحر ميت». ويعمد الشاعر إلى استكمال ملامح الصورة التعبيرية بضربات لونية تضارع حركات فرشاة التشكيلي، حين يجسد لنا المشهد البصري ممثلاً في الصمت والفراغ الذي بدا يلف رجل الكرسي، حيث لا أحد يأتي ولا هاتف يرن ولا صوت يسمع، معيداً إلى أذهاننا بقوة الثيمة العبثية إلى جانب ظهور صور الموت والمقابر والغبار المعمق من الإحساس بالعبث: «ما من صوت في الهاتف ما من أحد دق الجرسَ الصامتَ. . منذ قرون»/ « ينهض نحو الباب وينظر من عين الباب. . وما من أحد . . . ينظر في الهاتف علّ مكالمة لم يسمعها»/ «صمت وفراغ صمت يصرخ بالرجل الجالس في الكرسي العزلة والعزلة تصرخ أي فراغ». وقد يقود الإحساس بالفقد والوحشة والضياع الشاعر إلى استحضار نص السياب في تجربته مع الخليج: «مسائي الخليجُ. . خريفٌ يصيح به الشاعر الهامشي يصيح به يا خليج الردى كيف تسرق أجملنا وهو يكتب أنشودة للمطر». كما تقود حالة العزلة والوحشة والصمت الشاعر إلى التلميح إلى جانب من تجربة بيكيت العبثية، ممثلة في الإشارة إلى عصافير جودو وأشجاره الخريفية، على سبيل الكناية أو عودة ابن حزم وحمامته على سبيل الترميز: «وستأتي عصافير غودو وأشجاره في خريف الشتاء. . سيأتي ابن حزم حمامته دون طوق. . حمامته سوف تأتي بلا أي ريش». لقد قادت حالة الوحشة والعزلة التي تعيشها الشخصية إلى أن تضعف العلاقة في ما بين الشخصية وعالم البشر، ليستعاض عنها بالعلاقة في ما بين الشخصية وعالم الجماد والكائنات الحية، من طبيعة وطير وأسماك وأفلاك، إذ تشعر أنها أقرب إلى سلالتها وعالمها منها إلى عالم البشر الخاوي. بنية الاتصال والانفصال على الرغم من أن النصوص العشرة للمجموعة الشعرية تقدم في هيئة نصوص مستقلة، فإنه يمكن للقراءة المتمعنة أن تكشف عن لجوء الشاعر إلى اعتماد تقنية تبدو فيه جل هذه النصوص، إن لم تكن جميعها، وهي تمارس لعبة الاتصال والانفصال في آن معاً، إذ أن هذه النصوص تكمل بعضها بعضا. ففي نص الشاعر الثاني(الصعود إلى الشاعر) تسعى الشخصية إلى الصعود إلى الطابق العاشر، حيث الشاعر الكهل الذي كان محور النص الأول، لتبدأ حوارها معه: «صعدت إليه كان هناك يكتب لم يعر بالا فقلت: أعود في ما بعد. . عدت وكان يكتب ما يزال فقلت: هل نحكي؟ فلم يعط انتباها. . ». لكن الشاعر الكهل في القصيدة يبدو يائساً من اللقاء بضيفه، إذ سرعان ما يغيب عنه، ليترك له غباره ونصه الذي يحاول الزائر الدخول إلى عالمه، متأملاً ومتسائلاً عن حضارات الدنيا ومدنها وتخلّق القصيدة وعذابات ولادتها وخيانة أبنائها لها، يحدوه الأمل في كتابة نص يؤرخ لمسيرة الدنيا من الميلاد حتى الموت، كل ذلك من خلال قفصه المعزول فيه، في غرفة في الطابق العاشر من عمارة موحشة. واستمراراً مع تقنية الاتصال نفسها، تتابع الشخصية ذاتها الشاعر الكهل في عزلته، في النص الثالث المعنون (الكهل وحيداً)، متأملة عينيه الذابلتين، مطلعة على حكمة الهند ومتصوفة الصين وحضارات مصر وأساطير العراق الأولى وما خلفه التتر من جرائم بتراثه، مما يعد تعرية للذات الإنسانية، ليراكم الشاعر من خلال هذه التقنية نصوصه على تخوم ثيمة نصه الأول محققاً حالة من التنامي والتكامل النصي، بنية ومضموناً. مع وضوح انحياز النصوص إلى الإنسان، وتحديداً إلى فئة المهمشين المقهورين الذين كتب عليهم أن يمارسوا بصبر أدوار حرّاس المال، متوحّداً معهم: «يسمع أغنية الكهل عن الهندي القادم من أم الدنيا ومعابدها، من أشعار الخالد طاغور، ومن حكمة غاندي. . ودراويش السيخ، ليحرس أموال الأرباب، يربيها في صمت حكيم هندي». كما نلحظ في النص المعنون (من أول الدنيا) السعي إلى الكشف عن عري الروح وسط زمن الصحراء الخالي من البشر، مع نزوع واضح لتوكيد الانتساب إلى الأرض والبشر والكائنات والأديان السماوية جميعاً، دونما تمييز. يؤسس نص عمر شبانة الشعري علاقته الحوارية بين المقدس المتعالي والعبد، من خلل عقل متسائل حائر، لا يغادر منطقة الإيمان المضيء واستحضار النص الديني، بل يهيئ النفس والقارئ للوصول إلى حالة الرضا والاقتناع، وإن تعرض نصه إلى قصر نظر وسوء فهم متعجل، كما هي العادة في ما يجري هذه الأيام في ثقافتنا: «من أول الدنيا سألت الرب كيف يرى ضحايا الحرب، من شجر ومن بشر، ويبقى صامتاً، وهناك جلادون . . ينتصرون في كل الحروب؟ فقال: يا ابن الأرض، تلك حروبكم وحياتكم أو موتكم، لا شغل لي في أرضكم، وأنا هنا بيتي السماء، هنا أنا فوق الجميع، أراكم، لأعيدكم يوماً إلى بيتي وأنت. . وأنت ـ يا ابن الأرض ـ تعرف ما بعثت إليك من كتب السماء». الاحتفاء بالمرأة تحتل المرأة حيزاً واضحاً في نصوص الشاعر، أماً وحبيبة ومصدراً للبهجة والمتعة والتوازن، فضلاً عن النظر إليها بوصفها مخلوقاً أبدياً ورمزاً للقدم. ففي نص (أنا وهي) الذي يدور حول العلاقة بالمرأة الحبيبة التي نأت عن حبيبها ولم يعد قادراً على اللقاء بها، يختلط بعد المرأة الواقعي بالبعد الرمزي للوطن المفتقد، من دون التضحية بأي منهما: «في ليل عمّان نهراً بأجنحة ونوارس من وهمنا لم يكن ليل عمان نهراً وما كان في مائها شجر أو نوارس عمان قاحلة وبلادي تبتعدُ وأنا قمر أفسدته الكحول». كما تبدو المرأة وسيلة الإنقاذ الوحيدة المتبقية لإنقاذ روح الشاعر الذي تحولت حياته إلى صحراء قاحلة وجحيم: «لا تغيبي كما غبتُ لا تتركيني لموتي وحيدا مياهي مهددة بالصحاري وعمري قصير. . قصير وقصير. . قصير إليّ طريق الجحيم». البنية الدائرية وإذا كان الشاعر قد ضم إلى مجموعته بعض النصوص التي بدت صلتها بعالم الكهل المعزول ضعيفة، فإن الشاعر يعود في النصين الأخيرين من مجموعته الشعرية لمتابعة ما كان قد بدأه من رحلة الشاعر الكهل المعزول في شقته المنفتحة على ذكريات طفولته وشبابه ومعرفته بالعالم وحضاراته. وهي عودة تستند إلى تقنية البنية الدائرية. فكما بدأت أول النصوص بالعبارة الاستهلالية: (هنا في الطابق العاشر) يعود النص ما قبل الأخير إلى العبارة نفسها، مستأنفاً قصة الشاعر الكهل، والكشف عن صفحات أخرى من معاناته التي تتزايد فيها الظلال ومظاهر الموت التي يكللها النص الأخير(رؤية) باكتمال النصوص واكتمال رحلة العمر، لتأتي رؤية الشاعر الأخيرة متمثلة في سقوطه من نافذة شقته المعزولة نحو الأرض. لقد قاد التقاء الإحساس الفجائعي بالمكان وبالزمن الشخصية إلى النفي والعزلة في شقة معلقة، هي أقرب إلى السجن أو الحفرة منها إلى المستقر الآمن، وسط بيئة من الاستيحاش وتصحر في العلاقات الإنسانية، إذ ليس لهذه الشقة من فضيلة سوى تمكين قاطنها من الإطلالة على عالم الشرور وتأمل شريط الذكريات، حيث البهجة مقرونة بالنضال والتضحية وسِيَر الشهداء المضيئة. إن حالة التضاد التي تعبر عنها النصوص الشعرية بين عهدين؛ ماض وحاضر، وفضاءين؛ ضيق ورحب، هي التي تورث الشخصية الإحساس بكهولة ذئب الأمس: «هنا في ليله في الطابق العاشر ينام الذئب مكتهلاً ينام الكهل ذئبياً ينادم ليل غربته ويشرب كأس منفاه». لكن ثمة ما ينقذ حدث سقوط الشخصية، في النص الأخير، من شقة نافذتها من الوقوع في الدلالة السلبية والفعل العابث، بعد أن لجأ الشاعر إلى إكساب النهاية طقساً موحياً بانفتاحها على احتمالات عدة ودلالات رمزية وحلمية أكثر منها واقعاً عيانياً، تحضر فيها المرأة - الأمل أخيرا، لتمثل وسيلة إنقاذه، كما حلم بها من قبل: «رأيتني أهوي من الشباك من طابقي العاشر أهوي وأهبط نحو أرض اللانهايات البعيدة أهوي إلى قصر الحنين تقودني امرأة إلى بيت البدايات السعيدة». وعلى الرغم من حالة التأزم التي تعيشها الشخصية والاستلاب السياسي والإحساس بالنفي الذي تحياه، فإن الانفتاح على الآخر الثقافي والآخر الإبداعي لتوكيد المشترك الإنساني واستحضار الرموز الإبداعية العالمية والمعطيات الدينية والثقافية للشعوب والأمم هو ما بدا حاضراً بوضوح في نصوص مجموعة الشاعر. وفي هذا موقف معرفي وثقافي واع، يميز ما في الآخر من مستويات سياسية كريهة، وثقافية إبداعية نتواصل معها. إن مجموعة «الطفل إذ يمضي» بنصوصها العشرة التي اتخذت من قصيدة التفعيلة أساساً لها، تطرح نفسها بوصفها واحدة من التجارب الشعرية الحرية بالقراءة والتأمل، لما تنطوي عليه من هموم إنسانية شفيفة وأبعاد وجودية وثقافية وأسطورية ودينية، فضلاً عن امتلاكها تقنيات حداثية وطرائق تعبير مختلفة موحية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©