الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الاختلاف.. حق

الاختلاف.. حق
15 نوفمبر 2018 00:43

تولّد مفهوم التوليرانس خلال حركة الإصلاح الديني الأوروبية، ليعبّر عن تغيّر في الذهنية نتج عن علاقة الاعتراف المتبادل بين القوى التي استمرت تتصارع طوال القرن السادس عشر داخل الدين الواحد.
وظل هذا المفهوم حاملاً رواسب الإشكالية الدينية التي نشأ في حضنها، والتي جعلت منه قبل كل شيء، نداء «للمحبة والرحمة والإحسان للناس بعامة». فرغم التوسع الذي عرفته دلالاته، ورغم محاولات سعيه كي يرتقي إلى مستوى المفهوم الفلسفي، إلا أنه ظل متسماً بهذا الطابع الديني، مرتبطاً بمفاهيم المحبة والإحسان. الأمر الذي حال دون فعاليته حتى عند من يعتبرون أنفسهم ناحتيه ومولّديه. ويكفي، دليلاً على ذلك، أن ننتبه إلى ما يعرفه الغرب المعاصر، سواء في علاقته بمستعمراته السابقة، أم بالأقليات المتعايشة معه من مظاهر اللاتسامح، كي لا نقول التعصب والعنصرية، حيث يشكل عدم الاعتراف بالآخر، وبالخصوصيات الثقافية صفات ملازمة لكثير من المواقف، حتى تلك التي تدّعي اليسارية.

انتقل مفهوم التوليرانس إلى فكرنا العربي المعاصر فحاول دعاة الإصلاح أن يوظفوه. بعضهم ذهب إلى الإشادة به واعتباره مفتاح التحديث الفكري والسياسي (فرح أنطون)، وبعضهم الآخر دعا إلى القيام ضده واعتباره مدعاة إلى زرع الشتات و«النيل من وحدة الأمة» (ج. الأفغاني).

من الديني إلى الفلسفي
لكي يرتفع التسامح إلى مستوى المفهوم الفلسفي، ولكي ينتقل من مجرد الدلالة على التحمّل والتقبل لواقع مفروض، إلى مستوى الحق والمشروعية لزم من أجل ذلك، نحت مفهوم يقوم على أسس عقلانية تسمح بحد أدنى من الإجماع.
***
ليس التسامح عدم اكتراث بالآخر و«لامبالاة» به، لكنه ليس أيضاً، وكما يقال، تقبلاً لكيفيات مغايرة في التفكير والسلوك مع غض الطرف عمّا يجعلها تخالفنا بحيث نبدي نوعاً من «التساهل» (هذا هو اللفظ الذي عبّر به منذ بداية القرن الماضي فرح أنطون عن المفهوم) و«التنازل»، كي لا نقول «التغاضي»، إزاء الآخر، متحمّلين (كما يقول الاشتقاق اللاتيني للكلمة تحمّل: supporter«tolerare:) اختلافاته وفروقه.
***
لم يلبث مفهوم التسامح أن شُحن بحمولات تجاوزت الحقل الديني لتطال المجال السياسي والاجتماعي والثقافي، فانتهى إلى التسليم بـ«الحق في الاختلاف» في الاعتقاد والرأي، والاعتراف للفرد- المواطن بالحق في التعبير، داخل الفضاء المدني، عن الآراء الدينية والسياسية والفلسفية التي يختارها، وليغدو دعامة من دعائم الحداثة السياسية والفكرية. الأمر الذي دعا إلى ضرورة إرساء المفهوم على أسس فلسفية حتى لا يظل فحسب مجرد وفاء لواجب ديني، أو مجرد امتثال لإلزام أخلاقي، أو مجرد حاجة تفرضها الضرورات السياسية والقانونية، كي ينتقل من معنى التكرم والسخاء إلى قبول الاختلاف والاعتراف به.

التسامح والاختلاف
إذا كان الكل يجمع اليوم على أن التسامح هو قبول الاختلاف، إلا أن الخلاف يبدأ عند تحديد مفهوم الاختلاف ذاته. ذلك أننا نستطيع أن نميز بين مفهومين عن الاختلاف يقابلان مفهومين عن التسامح:
- هناك التسامح الذي يتقبل الآخر لأنه لا يبالي به In-différent، ويقبل الاختلاف بعدم أخذه بعين الاعتبار.
- وهناك التسامح كانفتاح على الآخر في اختلافه، واقتراب منه في ابتعاده.
***
لا تسامح إلا إذا سلمنا بأن الاختلاف، قبل أن يعني الآخر، فهو يعني الذات، قبل أن يكون حركة توجهنا نحو الآخر، فهو حركة تبعدنا عن ذواتنا، فتحول بينها وبين التعصب لرأي، والتشبث بمنظور، والتعلق بنموذج، وتمنعها من أن تضع نفسها جهة الحقيقة والخير والجمال، وتضع الآخر حيث تراه هي في الضفة المعاكسة. على هذا النحو يغدو التسامح تسامحاً مع الذات قبل أن يكون تسامحاً مع الآخر، وسيتنافى من ثمة مع كل وثوقية وتعصّب و«انشغال» بالذات.
***
لا ينبغي أن يفهم من هذا الردّ لمسألة التسامح إلى الذات وإحالتها عليها، دعوة إلى إحياء الحمولة اللاهوتية والأخلاقية التي تولَّد في حضنها المفهوم. فالأمر لا يتعلق بدعوة أخلاقية إلى نكران الذات وإلغائها، ولا بموقف أنطولوجي ينفي الهوية. فلسنا هنا أمام دعوة أخلاقية ترفع فضيلة الإيثار شعاراً لها، كما أننا لا نرمي بلوغ حدّ لا نقول عنده أنا أو نحن. فليست الغاية أن يدفعنا قبول الاختلاف إلى محو الهوية، ليس الهدف نفي الوعي بالذات والشعور بالتمايز، وإنما الوصول إلى حيث لا تبقى قيمة كبرى للجهر بالأنا وإشهار الهوية وإبرازها في مقابل التنوع الذي نكون عليه.

التسامح و«الحق في الخطأ»
كارل بوبر: «تَعلَّمنا من درس ولتير أننا قابلون للوقوع في الخطأ...استنتجنا من ذلك أن أيّ موقف هو أفضل من أي موقف آخر، خاصة أفضل من مواقفنا، وأنه، لكي نكون عقلانيين، ليس علينا فقط أن نكون متسامحين، وغير دوغمائيين، بل أيضاً نكون حياديين كلياً، وأن نعترف بأن كل الآراء قابلة للدفاع عنها...إن علينا، بشكل دائم، أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا...وعلينا أن نحاول الإصغاء إلى الآخرين، والتعلم من الآخرين وخاصة خصومنا... وإنه لمن الجودة بمكان أن يقول المرء:«قد أكون أنا على خطأ، وقد تكون أنت على صواب». فإذا قال الطرفان معاً هذا القول، سيكون هذا على الأرجح، كافياً للوصول إلى تسامح متبادل».
***
هذا التخطئ للذات قبل تخطئ الآخر، وهذا الإحساس بأن «علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لاكتشاف أننا قد أخطأنا»، هو الذي يمكننا من أن نخالف أنفسنا ونكون على استعداد كي نقبل في أنفسنا آخر، كي يغدو الآخر كائناً يسكننا intranger.
***
لا ترتد المسألة إذن إلى الوقوف على بعض الحقائق، وغض الطرف عن زلات الآخرين وأخطائهم، وإنما إلى أن نأخذ أخطاءنا على عاتقنا، ألا نتنكر للخطأ، أن نؤمن بـ«الحق في الخطأ». مقابل الأخلاق التي تجعل المثقف خادم الحقيقة، تقوم أخرى تنظر إليه على أنه يمكن أن يكون سيد الخطأ، وتقر بأن مسؤوليتنا الفكرية ليست هي مسؤولية الدفاع عن الحقيقة ورعايتها، كي لا نقول التشبث بها وتقمّصها، وإنما هي مسؤولية تقصي الأخطاء، مسؤولية الانفصال وأخذ المسافات على حد تعبير نيتشه، وهي مسؤولية مشتركة بين المتسامح والمتسامح معه.
***
التسامح هو ما بفضله نبتعد، أنا والآخر، عن أنفسنا بهدف التقائنا معاً وتقبل كل منا لاختلافاته، ودخولنا في حوار ننفصل بواسطته عن ذواتنا وننفلت من الوثوقية ونتحرر من عبودية الحقيقة.
***

التسامح والوثوقية
ليست الوثوقية مجرد فكر نظري يتقبل الآراء بعيداً عن كل روح انتقادية، وإنما هي موقف أخلاقي- سياسي بالأساس، وهو موقف عنيف، يتجلى عنفه، لا بما يصدر عنه من أقوال، بل بما ينطوي عليه من آلية توحيدية ترفض كل تعدد للآراء واختلاف للمواقف، وكل تردّد بين شك ويقين. الأمر الذي يدفعها إلى أن تدخل كل الأمور في دائرتها فتجبرها على الخضوع لمنطقها، مع ما يقتضيه ذلك من آلية إكراهية. وقد سبق لنيتشه أن بين أنّ كل آلية توحيدية، لا تكون كذلك إلا بما هي تنظيم وإكراه وإقحام، وإلا بما هي مقاومة فوضى الكثرة، وسَنّ منطق الهيمنة والإخضاع والقهر. هذه الآلية التوحيدية هي التي تمنع الوثوقي من أن يقبل بتعدّد الآراء، وبالأحرى اختلافها.
***
قبل أن يرفض الوثوقي الاختلاف مع غيره، يبدأ أولاً بالامتناع عن الاختلاف مع نفسه، أو على الأصح، بالخضوع لاستحالة الاختلاف مع الذات. قبل أن يسدّ الوثوقي الأبواب على الغير، يسدّها على نفسه، وقبل أن يمارس عنفه على الآخرين، يرزح هو نفسه تحت ضغط البداهة وعنفها. فالوثوقي لا يُخضع فكره للمنطق، بل إنه يُخضع كل شيء لمنطقه هو.
***
من هنا ادعاء الوثوقي الإحاطة بكل شاذة وفادة، ومن هنا أيضاً امتناعه عن الاختلاف مع نفسه، اعتقاداً منه أن من شأن ذلك أن يحطّ من مكانته ويضعف سلطته وهيبته. من هنا الطابع الكلياني للوثوقية وتوتاليتاريتها.

التسامح والضيافة
لكن، ما العمل مع تلك الأقليات التي لا تكون مستعدة على الإطلاق أن تخالف نفسها، وبالأحرى أن تتقبل اختلاف غيرها. ما العمل إزاء هذه الأقليات اللامتسامحة؟ ذلك أننا إن لم نتسامح معها سنتنكر لمبادئنا، وإن تسامحنا معها نغدو مسؤولين عن نهاية التسامح.
***
لاحظ جاك دريدا أن التسامح، مهما قلنا ومهما تحفظنا، يجيء دوماً من جانب «الأقوى حجة»، فهو دومًا تأكيد لسيادة. فكأن المتسامح يقول: سأغض الطرف عن كثير من الأمور وسأفسح لك المجال في بيتي، إلا أن عليك أن تتذكر دائماً أنك «في بيتي». بهذا المعنى فالتسامح نقيض الضيافة، أو هو «ما يضع حدّاً لها». فإذا أنا قرنت الضيافة بالتسامح وجعلت هذا شرط تلك، فمعنى ذلك أنني متمسك بالحفاظ على سيادتي ونفوذي وكل ما يتعلق بأرضي وبيتي وديانتي ولغتي وثقافتي.. أنا أهب الضيافة وأفتح بيتي متسامحاً، أي شريطة أن يلتزم الغريب بمعايير حياتي، إن لم يكن بثقافتي ولغتي وتشريعاتي. معنى ذلك أنني لا أتحمل «الضيف»، لا أتحمل الغريب والآخر، إلا في حدود معينة، إلا وفق شروط. فالتسامح ضيافة متخوفة، ضيافة متحفظة، ضيافة سيد لمسود، ضيافة حذرة غيورة على سيادتها، ضيافة مشروطة. فهو إذاً ليس ضيافة.
***
لا تكون الضيافة ضيافة إلا إذا كانت منفتحة على ما لا يمكن توقعه، إلا إذا كانت منفتحة على غرابة الغريب، إلا إذا كانت متقبلة للضيف وما يضيفه. إنها لا تكون ضيافة إلا إذا كانت زيارة، وليس تلبية لدعوة واستجابة لطلب. فإذا كان التسامح ضيافة مقننة، ضابطة لقواعد الاستقبال، معقَّمة ضد فيروسات الآخر، مسلَّحة ضد ما فيه من غرابة، فإن الضيافة «الخالصة» انفتاح على ممكنات، ومخاطرة. إنها متطلعة لما في الغريب من غرابة.
***
لا يمكن لمفهوم الضيافة أن يكون بنداً من بنود القانون، إلا أن هذه الضيافة تظل مع ذلك، ورغم ما يبدو في الأمر من مفارقة، «هي الشرط الأساس لما هو سياسي ولما هو حقوقي» على حد تعبير دريدا. لذا فإن الفيلسوف الفرنسي ذا الأصول الجزائرية يدعونا إلى أن نعيد مساءلة مفهوم التسامح من جديد، لا اعتراضاً عليه بل وفاء له. ذلك أن هذا المفهوم ربما لم يعد كافياً لتسليحنا بما يلزم لمقاومة العنف الهائج الذي يكتسح العالم، والذي يتخذ أشكالاً متعددة ليس أقلها شأناً شكلها الرمزي. فلو نحن أعرنا انتباهاً إلى ما يجري من حولنا لتبين لنا أن زلزالاً عنيفاً قد أخذ يقوض الأوضاع التي اتخذ فيها التسامح شكله الأول منذ عدة قرون. لذا لا مفر لنا ربما أن نفتح مفهوم التسامح هذا على مفهوم يضم معانيه ويتخطاها، هذا المفهوم هو مفهوم الضيافة. فالسياسة والحقوق، بل الأخلاق ذاتها لا يمكن أن تكون بلا ضيافة. والتسامح، أي الضيافة المشروطة، لا بد وأن يقترن اليوم بالضيافة اللامشروطة، ويقبل الضيف وما يضيفه.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©