الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من الموت إلى الحياة

من الموت إلى الحياة
7 أغسطس 2013 23:24
الأيام الأخيرة التي يعيشها المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا على فراش المرض والغياب، تضيف إليه قيمة جديدة في عيون طلاّب الحرية والمتشوقين إلى العدالة والمساواة حول العالم، أولئك الذين رافقوا مسيرته المزروعة بالأشواك في طرق النضال المستحيلة وفي غياهب السجون المقيتة. هنا استعادة للكتاب الذي أصدره مانديلا قبل سنوات بعنوان “رحلتي الطويلة من أجل الحرية”، بمثابة تحية لاسمه ولعطائه. يروي مانديلا في كتابه سيرته الذاتية، وسيرة كفاح شعبه، التي أدت دفعت به إلى سجون العنصرية البيضاء لمدة 28 عاماً. الكتاب الذي يقع في 594 صفحة، يعتبر من أهم المراجع التي يمكن من خلالها التعرف إلى ملامح تجربة مانديلا النضالية الفذة التي أسفرت بعد أكثر من نصف قرن عن انتصار إرادة الجماهير المضطهدة وعودة السلطة إلى الأغلبية الأفريقية. يستعرض مانديلا في هذا الكتاب بأسلوب تحليلي شائق المراحل النضالية التي خاضها شعبه ضد سياسة التمييز العنصري القائمة على هيمنة البيض، فنراه طفلاً صغيراً ترعرع في قرية في أعماق الريف، ثم شاباً يافعاً يطلب العلم في الجامعة، ثم موظفاً بسيطاً يكافح لسد رمقه. ويواكب الكتاب مسيرة مانديلا، وقد تفتحت مداركه للعمل السياسي، فينخرط بكل مشاعره ووجدانه في حركة النضال الشعبية المناهضة للنظام العنصري. فنراه عضواً فعالاً في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ثم ركناً من أركانه، ثم مؤسساً وقائداً لجهازه العسكري. ونعيش معه وهو يقارع الظلم جهاراً من داخل صفوف الحزب ومن خلال مهنته كمحام، وخفية من خلال العمل السري، وهو طريد تلاحقه سلطات القمع والاستبداد. ونعيش معه سجيناً في جزيرة روبن سبعة وعشرين عاماً، ثم مفاوضاً صلباً من أجل مستقبل أمته، فرئيساً لأول حكومة شرعية ديمقراطية تحل محل حكم البيض العنصري الذي دام ثلاثة قرون. صدق وصلابة إن أهم ما ميز شخصية نيلسون مانديلا وجعل منه رمزاً لنضال سكان جنوب أفريقيا على اختلاف أعراقهم، ومحلاً لإجماعهم، هو صدق إيمانه بحقوق أمته، وصلابته في التمسك بتلك الحقوق طول مسيرته النضالية بلا هوادة أو مساومة، كما تميز بتسامحه مع أعداء الأمس بعد أن انهارت دعائم النظام العنصري البغيض، وأذعن البيض إلى القبول بالعيش كغيرهم مواطنين في ظل دولة المساواة والديمقراطية. صدرت أول طبعة للكتاب باللغة الإنجليزية عام 1994، وترجم إلى ثلاث وعشرين لغة في مختلف أنحاء العالم. في الليالي الحالكة التي قضاها نيلسون مانديلا في سجنه في جزيرة روبن، بدأ بكتابة مذكراته. وبعد أن أنجز جزءاً كبيراً منها قسّمها إلى ثلاثة أجزاء وأخفاها على شكل لفافات في باحة السجن، تمهيدا لتهريبها للخارج، إلا أن إدارة السجن كشفت الجزء الأهم والأكبر من تلك المذكرات وصادرتها، فيما نجت اللفافات الأخرى وشقّت طريقها للخارج. وبعد خروجه من السجن أكمل كتابتها مستعينا برفاقه الذين عاشوا معه تلك السنين الطويلة بحلوها ومرها. يتحدث مانديلا في كتابه عن انتمائه العائلي وطفولته فيقول: ولدت في الثامن عشر من يوليو عام 1918 في قرية صغيرة تسمى مفيتزو على ضفة نهر أمباشي بمقاطعة أومتاتا عاصمة إقليم ترانسكاي وكانت تلك السنة نهاية الحرب العالمية الأولى. وأنتمي لعشائر الكوسا.. والكوسا شعب يقوم على الوراثة أباً عن جد.. فخور بنفسه ويتكلّم لغة بليغة التعبير، لكلماتها رنين جميل، ويؤمن إيماناً راسخاً بأهمية القانون والتعليم وحسن الأدب، ويتميز نظام الكوسا الاجتماعي بالاعتدال والانسجام وهو نظام يعْرِف فيه كل فرد رجلا كان أو امرأة مكانه اللائق به. ما كدت أبلغ الخامسة من العمر حتى أصبحت راعياً للغنم والثيران في الحقول فتعرّفت من كثب على العلاقة الروحية ـ إن جاز التعبير ـ التي تربط أهل الكوسا بالماشية.. لا لكونها مصدر طعامهم وثروتهم وحسب، بل بصفتها نعمة من نعم الله ومصدراً للسعادة. كان والدي سيداً بحكم السلالة والعُرْف معاً وقد نصّب زعيماً لقرية مفيتزو على يد ملك التيمبو.. كان والدي رجلاً صارماً لا يتردّد في استعمال العصا لتأديب أبنائه وكان عنيدا للغاية.. وهذه صفة أخشى أن يكون الابن قد ورثها عن أبيه. كان يشار إلى والدي أحياناً برئيس وزراء بلاد التيمبو.. ولكن تلك التسمية لم تكن دقيقة، إذ لم يكن لذلك المنصب وجود إبان حكم دالينديبو.. غير أن الدور الذي كان يؤديه لا يختلف كثيراً عن مهام ذلك المنصب.. وكان الملكان يضعانه موضع التقدير والاحترام باعتباره مستشاراً. كان والدي وغيره من أعيان القبيلة الأميين يحترمون التعليم احتراماً جمّاً.. وهو شأن كثير ممن حرموا التعليم في المدارس. وكان والدي يجنح إلى التمرّد والاعتزاز بالنفس، وكان متشدّداً في فهمه للعدل والظلم.. وهو ما ألمسه أنا في شخصيتي. رغم أن أمّي كانت هي كل شيء في حياتي كنت أرى أنّ شخصيتي تتحدد من خلال شخصية أبي.. ولذا فإن رحيله غيّر كل حياتي بطريقة لم تخطر على بالي آنذاك. إنّ الأطفال هم غالباً أقل المخلوقات انفعالاً وعاطفة وخاصة عندما تستحوذ على مشاعرهم ضروب جديدة من المتعة والملذات. الدراسة والجدارة تلك الظروف المعيشية دفعت الطفل مانديلا لكي يعتمد على نفسه، وعن ذلك يقول: لم يكن تفوقي في الدراسة نتيجة لنبوغي، بل لإصراري وتصميمي على النجاح. فطنت بسرعة إلى ضرورة أن أشق طريقي بناءً على ما أملك من قدرات وليس بحكم نسبي أو عرقي خاصة أنّ أغلب زملائي كانوا قادرين على التفوق عليّ في حلبة السباق وفي مجالات العلم والمعرفة وكان عليّ قطع مسافات طويلة حتى ألحق بهم. الشهادة لا تعني شيئاً ما لم يثبت المرء جدارته وقدرته بين الناس وفي وسط المجتمع. ويضيف: أنا أؤمن بأن العامل الأساسي في صياغة شخصية الإنسان هو تنشئته وليس طبيعته التي ورثها. كنت من القلائل في قسمنا الذين حافظوا على ممارسة التنس وكنت أفضّل اللعب في أقصى الحلبة.. ولا أقترب من الشبكة إلا لتسديد ضربة عنيفة مضمونة النتيجة. ويتحدث مانديلا عن الفقر، فيقول: للفقر فضائل، ولكنها قليلة فهو غالباً ما يكون محضناً لأكثر العلاقات البشرية والصداقات وداً وإخلاصاً، فعندما يكون المرء ثرياً يُقبل كثيرون على صداقته ولكن قليل هم الذين يُقبلون على صداقتك إن كنت فقيراً مدقعاً، فإذا كانت الثروة مغناطيساً يجذب الآخرين فالفقر يبعدهم عنك، وعلى ذلك فإن الفقر غالباً ما يُظهر أكثر ما في الآخرين من صفات الكرم. واشتهر مانديلا منذ يفاعته بميله إلى الرياضة، وكان هذا النشاط الإنساني الراقي سبيله إلى تحقيق المصالحة في بلاده بعد انتخابه رئيسا، وعن ذلك يقول: ركزت اهتمامي على التدريب لأنني وجدت في التدريبات العنيفة وسيلة ممتازة للراحة والتنفيس من الإرهاق وتوتر الأعصاب.. وكنت أشعر بخفة وانتعاش ـ بدنيا وذهنياً ـ بعد كل حصة من التدريب الشاق. أؤمن بأن الممارسة المستمرة للرياضة بمختلف أنواعها هي مفتاح سلامة الجسم والعقل معاً.. فالتمرينات الرياضية تمتص الغضب والتوتر وهما العدوان اللدودان لصفاء الذهن وسكون النفس. فكلما كانت حالتي الصحية والبدينة جيدة كلما وجدت نفسي مهيأة للعمل والتفكير بطريقة أفضل، ولذا أصبحت التمرينات الرياضية المنتظمة جزءا أساسيا من حياتي. الطريق والغاية أما موضوع الديمقراطية، وهو محط الاهتمام الأول في سيرة مانديلا ونضاله، فيقول عنه: كم كانت تدهشني في الأيام الأولى (حين عاش مع السلطان في مكيكزويني) الشدة والصراحة التي يصل إليها الحاضرون (عند انعقاد الاجتماع) في انتقادهم للسلطان، فلم يكن السلطان قط فوق النقد بل إنه غالبا ما يكون الهدف الرئيسي له.. ومهما بلغت خطورة التهم الموجهة إليه كان ينصت لما يقال دون أن يهبّ للدفاع عن نفسه أو تظهر على وجهه ملامح الانفعال أو التأثر.. كانت الديمقراطية تقضي أن يستمع الجميع لكل الآراء وأن تتخذ القرارات بصورة جماعية وليس بالأغلبية التي كانت تعتبر مفهوماً غريباً؛ لأنه لا يجوز أن تسحق الأقلية أمام الأغلبية. لقد التزمت طوال حياتي بتلك المبادئ التي كان السلطان يتبعها في المجالس.. فأحرص دائماً على الاستماع إلى ما يقوله كل من يشارك في نقاش أو اجتماع قبل أن أجازف بالتعبير عن رأيي الخاص الذي لا يعدو في الغالب أن يكون تلخيصا لرأي مشترك من بين ما سمعته من آراء وأفكار.. ولا زلت أذكر الحكمة التي كان يرددها السلطان من أن القائد كالراعي يسير وراء القطيع فيدع أكثرها رشاقة يتقدّم وبقية القطيع تتبع دون أن تدرك أنها توجه من الخلف. لم أكن أدرك آنذاك أنّ الانتخابات الطلابية وما سيكتنفها من أمور وأحداث سوف تخلق لي من الصعوبات ما يغير مجرى حياتي بالكامل. وغن فلسفة نضاله يقول مانديلا: أنا أولاً وقبل كل شيء قومي أفريقي أناضل من أجل تحرير شعبنا من حكم الأقلية وحقّه في تقرير مصيره، ولكن جنوب أفريقيا والقارة الأفريقية جزء من عالم أكبر، ورغم أنّ مشاكلنا متميزة وذات مواصفات خاصة فهي ليست فريدة من نوعها، وكل فلسفة تضع تلك المشاكل والقضايا في إطار عالمي وتاريخي يتصل بالعالم الأكبر وبمسيرة التاريخ البشري هي فلسفة قيّمة. ويتوقف مانديلا في كتابه مليا عند التفرقة العنصرية التي قارعها طيلة حياته، وعنها يقول: التفرقة العنصرية سم ينفث الانحلال الأخلاقي في جميع المجالات. ورغم أنني أؤمن أنّ بعض الناس لهم قابليات شخصية للجريمة موروثة أو مكتسبة، فأنا مقتنع كذلك بأن سياسة التفرقة العنصرية مسؤولة عن الدفع بكثير من المواطنين الأسوياء الصالحين إلى عالم الجريمة.. فالمنطق يقول إنّ أيّ نظام قضائي لا يقوم على العدل والأخلاق لا يمكن إلا أن يولد الاحتقار والازدراء لكل ما ينبثق عنه من قوانين وأنظمة. لا أستطيع أن أحدد بدقة اللحظة التي تحولت فيها إلى السياسة وأيقنت بأنني سأكرّس بقيّة حياتي للنضال من أجل التحرير.. فأن يكون المرء أفريقياً في جنوب أفريقيا يعني أنه يُولد مسيّساً أقرّ بذلك أم لم يقر، فالأفريقي يولد في مستشفى خاص بالأفريقيين فقط وتقلّه إلى البيت حافلة مخصصة للأفريقيين فقط ويسكن في حي للأفريقيين فقط ويتلقى التعليم ـ إن تلقاه ـ في مدارس للأفريقيين وحدهم.. ويكبر الأفريقي ويترعرع لكي يشغر وظيفة خاصة للأفريقيين فقط.. ويستأجر بيتا في ضاحية للأفريقيين فقط ويركب وسائل مواصلات مخصصة للأفريقيين فقط.. وهو معرض للتوقيف والمساءلة في أيّ ساعة من ليل أو نهار ليسأل عن بطاقة الهوية، وإن لم يبرزها يعتقل ويزجّ به في الحبس.. إنّ حياة الأفريقي كلها مكبّلة بالقوانين والأنظمة العنصرية التي تعوق نموه وتبدد إمكانياته وتشلّ حياته.. هذه هي حقيقة الأوضاع آنذاك في جنوب أفريقيا وكانت أمام المرء طرق متعددة للتعامل معها. لم تظهر أمامي علامة في السماء ولم أتلقّ وحْياً ولم أُلهم الحقيقة في لحظة معينة، ولكنها آلاف الاستخفافات وآلاف اللحظات المنسية تجمّعت لتثير في نفسي ذلك الغضب وروح التمرد والرغبة في مناهضة النظام الذي عزل قومي واستعبدهم.. لم أقل لنفسي في يوم من الأيام إنني من الآن فصاعداً سأنذرك أيتها النفس لتحرير أبناء شعبي ولكنني على العكس من ذلك وجدت نفسي منخرطا بكل عفوية ويُسْر في تيار لم أجد بداً من الانطلاق فيه. لقد آمنت دائماً بأن النضال من أجل الحرية يفرض على الإنسان أن يكبت مشاعره الشخصية التي تميزه عن الآخرين وتحول دون أن يصبح جزءا من حركة جماهيرية.. وقائع من حياة مانديلا تم الحكم على نيلسون مانديلا بالسجن مدى الحياة في 12 يونيو ، بسبب أنّه عضو في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي ونضاله وإنشائه لحركة “أومكا” المسلحة التي تهدف إلى مناهضة ضد العدو لتحرير جنوب أفريقيا من حكم الاستعمار. وأفرج عنه في الحادي عشر من فبراير عام 1990. وفي العاشر من مايو عام 1994 تم تنصيبه رئيساً للبلاد. وهو يلخص حياته المديدة والحافلة بالقول: لقد جردت نفسي طول حياتي للنضال من أجل الشعب الأفريقي. لقد كافحت ضد هيمنة البيض، كما كافحت ضد هيمنة السود. لقد عشت تواقاً إلى مجتمع ديمقراطي حر، يعيش فيه الجميع في وئام ومساواة. إنّه هدف أرجو أن أعيش له وأن أحققه.. وهو الهدف الذي سأموت من أجله إن لم يكن من ذلك بد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©