السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصحراء.. غريبة وقريبة و.. حبيبة

الصحراء.. غريبة وقريبة و.. حبيبة
5 أغسطس 2015 21:55
ساسي جبيل من الصحراء مرّ الأنبياء والفاتحون والغزاة والبدو العابرون المغامرون غير آبهين بكل الحواجز، فهي طريق ومرتع ونبع وقصيدة مكتوبة بمداد خاص يأخذ من الرمل شكله المتعدد الألوان والتضاريس، الصحراء ليست هذا الفراغ الممتد في الأفق البعيد فقط، بل هي كذلك هذه الروح التي لا تتوقف عن أن تهبنا الحياة والانطلاق والحرية بلا حدود. مع الصحراء وفيها ارتبط تاريخ حضارتنا التي انطلقت على خطو الجمال وبين النخيل الوارف الظل المولود من رحم الريح المنثور في المدى الممتد بلا توقف. رمل منزاح من الوهاد المبللة بالندى وهو يسدل لحافه على خيوط الذرى، من التراب الناصع سطوراً تتشكل خيوط الضوء الواضح الشفيف الذي لا حدود له كفسيفساء متشاكلة الألوان قدّت من ذرات التراب وحباته الفيروزية، طرق ومسارب عالية منسابة كأودية من التراب تتماوج وتتمازج باحثة عن سبيل يفتح مجالاً رحباً، أثر أقدام لا يطول بقاؤه على البسيطة، إبل تتسلطن على الرمل مجالها الأثير، عمائم بيض لبدو يعرفون إلى أين تقودهم دوابهم في الطريق على ما في الشعاب من غبار وما في إطار المشهد من سراب، ركام يتكوّر هنا وهناك يراه الطائر أعشاشاً ويجد فيها العابر سبيلاً يهديه إلى الهدف المنشود في البعيد، زمن ناصع ورمل كاسح وتفاصيل صغيرة تسفر بلونها وبهجتها عن لوحة لم يرتكبها فنان مهما تيسر له من ألوان...الصحراء لوحة بلا إطار، وقصيدة حرة منبعثة في المدى، فمن التراب يبدأ الوجود وتتشكل الألوان جميعها معلنة بداية التكوين ومحيلة إلى ماهية الفرد الفاعل الذي لا يرد له قرار، ولا ينسحب أمام هذا الغبار الغامر والعامر بالصمت المبين، الإنسان ذلك المريد الذي لا يوقفه ماء ولا ريح ولا رمل، ولا تدمى أقدامه أحجار المسارب الرملية، الإنسان ذلك الراقص والعازف والمجنّح في البراري الممتدة بين اليابسة والأفق بلا حدود ولا قيود غير ما يربط به الحوافر التي سخرت لتكون مطيعة له وسنداً في الأيام المكفهرة وغذاء أيام الجوع الكافر، قدر الرمل أن يكون بساطا قدّ من هواء وريح أتت على الرمل في البراري لتجمعه في فضاء يليق به. هي الصحراء أرض الكادحين والمتجلدين بصبر أيوب والعارفين بدروبها وفصولها واتجاهاتها وصورها البديعة وخرائطها التي ترشد التائهين إلى ما لانهاية. والصحراء مثلت دائماً ملهماً للمبدعين في كل زمان ومكان، فقد غنوا لها أجمل النصوص وكتبوا بمدادها أروع الملاحم، وتاريخنا المرتبط رأساً بهذه المفردة، نشأ من رحم هذا التراب الممتد في من شبه الجزيرة العربية شرقا إلى طنجة بعيداً... فالصحراء زمن بكر وبهجة منثورة بين حبات عقد لم ولن ينفرط، توقظ في الذاكرة وميضاً وفي الروح رحيقاً وفي القلب رحابة لا تحد، فتبوح الذاكرة بالخصب وينتشر الظل في الريح معلنا غدق العطاء، ونقاوة الصفاء الذي ربما ورثه أهل الصحراء من حليب النوق منذ أن بدأوا رضاعة الحروف، ومنذ أن رسموا على الرمل أولى ألعابهم التي تحسسوا بها ما للتراب من بركة عميمة وما تحت هذا اليباب من كنوز تدر ذهبا أسود لا يشق له غبار. الصحراء تجلت بأشكال مختلفة في أعمال فنية وإبداعية كثيرة، وها نحن نتقصى تأثيرها في رؤى مختلفة لكتاب وشعراء وإعلاميين وفنانين إماراتيين، فقرأها كل من زاوية النظر المختلفة عن الآخر. هويّتنا.. وبئرُ أخلاقنا الجميلة شغلتني الصحراء كل هذا العمر وما تزال، فهي عندي ليست مجرد تضاريس وبيئة أنتمي لها، إنها أكثر وأعمق من ذلك، فهي عالم بأكمله مهما حاولت أن تسبره وتلم به يظل واسعاً فيه متاهات، وخيالات وصور ومعانٍ عديدة لها سحرها وغموضها. لهذا كانت الصحراء هي أطول رواية وأضخم ديوان شعر كتبه البدو والمستشرقين، أولئك الذين جاؤوا من أصقاع الدنيا وفي عصور وأزمنة مختلفة سحرهم الشرق وجذبهم، فنزلوا وتسابقوا يبحثون عن الصحراء، وتستغرب أن أشهر هؤلاء الرحالة والعلماء تركوا نعيم أوروبا، في أزمنة الجوع والفقر والأمية التي كانت تعيشها الجزيرة العربية والشرق عموماً، واختاروا أن يكونوا فيها ويعيشوا مثل أهلها حياة الرحّل والسكن في عالم الرمال المتحركة، وعندما عادوا إلى أوطانهم - وهنا المفارقة - ظل الحنين يشاغلهم ويمنيهم، فماتوا وهم يتغنون بهذه الرمال التي ينتظرون العودة لها يوماً. غريبة هي هذه الصحراء، وكل من كتب حولها أو من وحيها من الروائيين أو الشعراء العرب ظل أسيراً لعالمها أو اشتهر بها، ويحضرني هنا الروائي إبراهيم الكوني، فشهرته وأعماله جاءت من كتابات الصحراء وغموض عالمها، ماذا لو اختار هو المقيم في جنة سويسرا هوية أدبية غير قصص الصحراء، هل سيكون هو الكوني كما هو في عالم القراءة والكتابة وفي شهرته، وهل كان سيجد نفسه، وسيبدع كما هو معها؟ وحدها الصحراء التي كتب عنها تملك الإجابة عن ذلك. تعني لي الصحراء الهوية، فهي التي يمكن أن تميزني في هذا العالم، ويمكنني من خلالها أن أمارس تفردي في فضاء الثقافة والكتابة، وفي صناعة الجذب والسياحة. فشعوب العالم بأجيالها الجديدة تجذبها لفظة الصحراء، وتتمنى أن تصل إلى هنا لتزور عالم الرمال، أو تقرأ عن الصحراء وأهلها وطقوسها وأسرارها، فذلك البدوي الأخير الذي سكنها وذلك المستشرق الرحالة الذي جاء لها أو مرّ بها، تركوا الصورة وأبقوا الكلمة محفوظة في ذاكرة الزمن والورق الأصفر القديم، لكن ماذا أضفنا نحن؟ لهذا أعتقد أننا لم نقدم الصحراء بعد كل هذا العمر وهذه التجارب، نقدمها كما ينبغي كجزء منا، أو الأصح نحن كجزء منها. ذلك فيما يخص الجانب المادي والثقافي واستثمار سمعة الصحراء وكيانها، لكنّ هناك جانباً مهما إذا لم تحمله في دواخلك وتجربه في تعاملاتك مع ذاتك أولاً ومع الآخر وتوسم به من عالم الصحراء فإنك بالتأكيد لا تنتمي لها، وإنك مجرد مختلق لهويتها وإن حاولت التمسح والادعاء. إن ذلك الجانب هو أخلاقيات الصحراء، فهذه بعضها جينات تورّث والآخر مكتسب من وحيها وعاداتها، تتعلم منها كيف تكون نبيلاً وصابراً، وفي حالات حاسماً، صافي الذهن، كريماً مع الذين يعزون عليك ومع الغرباء . تزرع فيك الصحراء، محبة الآخر الذي قد لا تعرف من يكون سوى أنه «خويّك» في رحلة العيش على الرمال، وهو و«نيسك» في ليلها، ورفيقك مع ضواريها وتقلباتها. لا تنسى أن العرب يخرجون منها وأنها مهد الإسلام وسكنتها مختلف الديانات والمذاهب، وعرفت الكتابة قبل غيرها، وازدهرت على رمالها حضارات عظيمة سادت في أزمنة ما، وتقهقرت في عصور ظلامية تالية. الدول العظيمة التي لها إرث حضاري وتعتز بثقافتها، تحرص على أن تقدم للعالم أيقونة تمثل شخصيتها وتعبر عن حضارتها وتترك أثراً يميزها كما هي اليابان مثلاً في «ثقافة الشاي» أو السويد وارتباطها بصورة «نوبل للسلام» أو«كنغر» أستراليا أو«بيج بن» لندن أو هولندا وزهرة الزنبق. فلماذا لا تكون لنا الصحراء الآمنة بأخلاقيتها وهيبتها وحضارتها وثقافتها هوية لنا وصورة تميزنا في عالم العولمة، ومن ضجيج التلوث والخوف والذهاب إلى المجهول الذي يتم أخذنا له والصراع على الموت والحرق وخلق الكراهية والأحفاد، وما يراد لنا في تحطيم الأجمل وإعادة صناعة الجهل والخراب والتخلف،وهذه الثقافة السوداء المسمومة والدفينة التي تحاول أن تفرض علينا لتصبح واقعاً وخياراً للحياة. عالم الصحراء أجمل وأرحب، يسعنا جميعاً، وينتظرنا في كل حالاتنا، ويمكن لرماله أن تصحح ما حل فينا من انكسارات وتشوهات، تداوي نفوسنا المضطربة، المشحونة بالقلق، تهدي من هذا الشجن الذي يحاصرنا ونجهل سره، تمنحنا الأمل والصمت والسكينة. أحبّ البرّ والمزيون «الصحراء» تعني الأرض وهي تعني الانتماء... «الصحراء» تعني اللون الأصفر وهو لون التميز... «الصحراء» تعني الوطن وهو الحضن الكبير.... «الصحراء» هي عالم آخر يحوي حيوانات ونباتات خاصة به.... «الصحراء» هي المعجزة التي حولها «زايد» لجمال أخضر... و«الصحراء» تعني أيضاً الجنون والانتقام عندما يثور الرمل وينتفض..... وصحراء بلادي جميلة جداً.. في الحقيقة أدركت هذا الجمال والإبداع الرباني عند سفري بالسيارة من رأس الخيمة إلى دبي أو أبوظبي وعند استخدامي الطريق السريع «شارع محمد بن زايد»، خاصة في الشتاء حين تنكسر الشمس لتبرز تدرّج ألوان الأرض مع السماء من جهة، ومن جهة أخرى انسحاب تلك التموجات الرهيبة التي شكلتها نفخات الرياح وكأنها تنحت وتداعب حبيْبات الرمل. عادة أضع بجواري في كرسي السيارة عدسات الكاميرا، ولا أملّ من التقاط الصور. ومن آخر الصور التي التقطتها مجموعة جمال كانت تجوب تلك الصحراء وكانت تأكل من شجر الغاف المتناثر. لم أمثل الصحراء بكتاباتي إلا بالوطن والانتماء، ففي كتابي (أوراق الزيزفون) كتبت: إخوة التراب، أحبك قبل أن أراك، أوصيك يا ولدي، وكلها تتحدث عن أهمية الوطن في حياة الإنسان والوطن يعني الأرض، والأرض تعني الصحراء والجبال بالنسبة لنا. ولا ننسى أن الصحراء ترمز للبداوة والعراقة والأصالة وعادات البدو والعرب جميعاً تشكلت في مجالها، وباتت اليوم مرجعاً لنا. انظر إلى لون القهوة العربية المميزة، فهي من لون الصحراء وهي تصب في الفنجان، ولو رجعت بخيالك إلى جلسات الخيم ومواقد الحطب لاستطعَمْت جماليات تلك العادات العريقة، وما زالت بعض رحلاتنا الشتوية نحو «البر» أي الصحراء، خاصة في فصل الشتاء، نسترجع بها تلك العادات الجميلة وخاصة العائلية. في أعمالي اللونية، أحب استخدام اللونين الأصفر والبرتقالي؛ فهما لون النار، بجانب اللون الأزرق. ومعظم أعمالي تجريدية وقد تمثل المساحة الواسعة بتلك الألوان شيئاً من الفضاء الذي يتميز به اتساع الصحراء. ومن مسميات الصحراء في الإمارات «البرّ» أو «الفلا»، واستخدمها بعض الشعراء النبطيون في قصائدهم فتميزوا بها. ولا ننسى قصيدة البرّ والمزيون للشاعر خليفة بن محمد بن مترف الجابري التي غناها المطرب ميحد حمد، التي تعتبر من أشهر ما غنى في ذلك الوقت وما زالت تتردد على الألسنة: أحبّ البر والمزيون وأحبّ البدو والأوطان وأحبك قبل لا يدرون هَلي واهْلك ولا الجيران. أنا الصحراء فاطمة عبدالله لوتاه الصحراء هي كلّي مرسوم في اللون ومنشطر في الشرايين، وهي الهواء الذي أتنفس والنبضات التي تنبض من القلب، دقات قلبي صورة من صورها ومشهد من مشاهدها الحية التي تنبض بالحياة، وتؤمن بالحرية التي لا حدود لها... نبض الروح.. لونا وعطرا وجمالا، وكل ما بينهما من مذاق عذب يثلج الصدر ويبعث البهجة في النفس، فيرديها أسيرة الصفاء والسكينة والطمأنينة النفسية، ويقذف في الروح بوحاً مختلفاً.. هي شراع القلب، ومملكة الصمت الأبدية التي لا يأتي ناحيتها هرج أو مرج.... الصحراء لون لوحاتي جميعاً ونورها الممتد في كل الأطراف... إنها ذلك الامتداد الذي لا ينضب، وذلك الضوء الذي لا يغيب في الفيافي الممتدة من القلب إلى القلب.. وهي صمتي أمامهم وتأملي للتفاصيل كافة.. هي عمق الفكرة في العطاء، وهي الامتداد بلا حدود في اللون، وهي محرك الروح في الخلق بحكمه الآباء والأجداد.. هي أنا كما (والشكر لله) أراده قدري... نسمه منها ترحل في الكون لتزرع ذلك الجمال الأخاذ المسكون برائحة الموج... هي قوه تلال يحملها القلب لحنا بدقاته، كلحن الناي يعزفه بدوي لحبيبته تحت نور قمر.. هي الأب.. وهي الأم.. وهي الولد، هي في كلمة: كل لوحاتي.. أقول في صفحة من صفحات كتاب حياتي: «عنيدة أنا.. كعناد النخيل.. تترقب حب المطر حياه.. ونور الشمس لون.. يعانق الفجر.. صبورة كالجمل.. يرحل بين تلال الحياه سنين... برفقه العطش.. حاملاً في قلبه تراب أرض ليتكحل به.. بين حين.. وحين.. عاشقة أنا.. كعشق الصوفي لربه». لا يعرفها إلا الراسخون فيها هوية المكان.. وحقيقته للصحراء في وجدان أهل هذه الأرض الطيبة مكانة لا يدرك مداها، ولا يسبر أغوارها إلا الراسخون في الوعي، المتأصلون في الإدراك المتعلق بعلاقة الإنسان بالمكان. هذه المكانة الخاصة جاءت نتيجة ارتباط عضوي رسم معالم الألفة بين ابن الإمارات وأرضه، والبيئة الصحراوية التي فرضت واقعها على المكان وتأقلم الإنسان مع طبيعته. الصحراء في خيال الكثير ترتبط بالقسوة والجفاف والحرارة الشديدة، بل إن أوصافاً مقترنة بكلمة الصحراء، مثل «القاحلة» أو الجرداء تكاد تلتصق بها في مخيلة كثير ممن لم يعايشها ويعيش في كنفها. هذه الصفات الصعبة يطلقها من نظر إليها عن بعد ولم يكلف نفسه عناء النظر إليها من زاويتها الأخرى الأكثر رحابة. الصحراء هي حقيقة هذا المكان وهويته وامتداده. رغم قساوتها الظاهرة، كانت مساحة رحبة للروح وتأمل وامتداد شاسع يفتح الأفق ويوسع معه قدرات النظر والتمعن والتفكرِ. هذا الامتداد في المساحات خلق لابن هذه الأرض فرص ملامسة مساحات الحكمة من خلال التفكر في المجهول وزرع في أهل هذه الأرض شجاعة وإقداماً لا يتسنى غالباً لأهل المدن المغلقة المنغلقة. توقع كل شيء.. خير كان أم غيره، يضيف إلى صلابة الإنسان الكثير ويقوي من عوده. كذلك عدم الاستقرار الذي يبدو في الظاهر وكأنه معضلة، إلا أن التأقلم النفسي معه والاستعداد الدائم له يروج لعقل منطلق منفتح متأهب للجديد، ولاستكشاف الآخر وتقبله ولعل هذا ظهر لاحقاً بشكل واضح في انفتاح مجتمع الإمارات وقبوله السريع للآخر والتعايش معه بصورة إنسانية متحضّرة بالنسبة للمبدعين من الأدباء والشعراء وأهل الفن والثقافة، وكاتب هذه السطور منهم، مثلت الصحراء مصدر إلهام لمخيلتهم الابداعية، وشكلت رحابتها ومداها واتساعها وجلساتها الحميمة معينا لم ينضب ونتج عنه كثيراً من الإبداعات التي شكلت مرتكزاً مهماً في هوية المكان والزمان والإنسان على حد سواء. الصحراء، هوية المكان وانتماء الإنسان وإلهام الإبداع ومساحة الراحة والإبداع والإمتاع لمن عرف كيف يتواصل معها، ويستخرج ملامح يستنبط منها الحسن حسنه. إذا أردت أن تتعرف من جديد إلى الصحراء، ففرغ من وقتك ما يسمح لك بأن تقف على كثبان الصحراء الذهبية وشاهد كيف أن السماء الزرقاء الصافية تظلل تلك الرمال والشمس تغزل خيوط الذهب المرتسمة على وجه الصحراء، ثم أطلق العنان لمخيلتك، ووودع همومك، واتركها في الصحراء لتستشعر جانب إحساس باذخ لا يشابه غيره. الغموض في كامل اشتعالاته كنتُ أتأمل خطوط الأمواج الرملية في الصحراء على أنها من فعل ريشة البحر الذي ملأ العالم ذات زمن بعيد، لكني حين أدركتُ أن امتلاء العالم بالماء كان مجرد أسطورة مضافة إلى تاريخنا الخاص وأن الرياح هي من تخطط دائماً في مساراتها ومداعباتها ذلك الخط المتعرج الميّاس على الرمال، حزنت، حزنت جداً، فلقد كان الخيال الواسع بنوافذه وبواباته المشرّعة، أجمل بكثير من معرفة الحقيقة التي تضع لنا الحدود والأسوار العالية وتجبرنا على الانخفاض ضمن أطر روتينية مملة. الصحراء عالم ميثولوجي بامتياز، مركز التواصل الداخلي ورؤية الروح، الحيز العظيم الانتشار لمواجهة الذات دون أن يكون هناك مجال للتهرب، في الصحراء يكمن المطلق، التأمل المطلق وفق عزلة مطلقة، جرّبت كثيراً تلك العزلة الآسرة دون أي اهتمام بما يفرضه المجتمع الآخر المتمدن من أماكن حضارية وترفيهية، تناسيتُ كوني أنثى، وانتحلتُ شخصيات صحراوية لأعبر الصحراء وأجالسها في جوها المطلق المنسي، أعترف بأني واجهتُ صعوبات الطقس، وأرهقتني ظروف كثيرة إلا أن اهتمامي كان منصباً على ضرورة أن أمنح نفسي ذلك الهروب الآسر ولو لساعات معدودة، إنه احتيال بريء يحتاج إليه الكاتب ليكبر روحياً في الصحراء، الصحراء فرصة عظيمة في اختصار الزمن كي تكبر وتصل إلى مرتبة الحكمة أو منزلة القديس. المخطئ من يظن بأن الصحراء ليست مورداً عذباً في الصيف، إن كانت تستهويك المعرفة فابحث عنها في الصحراء صيفاً، حيث يكون الغموض في كامل اشتعالاته، وأجمل ما في المعرفة تلك التي يكتنف طريقها الغموض، الصحراء صيفاً تبدو أكثر جاذبية في الغموض؛ لأنها في أوج العطش، العطش أحياناً يحرّك المكان بحيلة العبث، وحدهم الشعراء بإمكانهم أن يقلبوا الصحراء ماءً، فبداخل رؤوسهم غيوم مملوءة بالعطش، ما إن تنسكب غيمة حتى يولد عطش آخر، تمنيتُ في الصحراء أن أكون شاعرة، أو بصحبة شاعر. في الصحراء إن كنت عاشقاً لعزلتك ومتحداً فيها، فإنك ستنزعج بمجرد العثور على آثار خطوات بشرية لغيرك، وقد تنبت فيك النرجسية وتتضخم الأنا، فتود أن تكون أنت فقط من يطبع الأثر ويمشي في الصحراء وحيداً. جربتُ تلك الأنا الغريبة التي ولدت معي ذات أصيل، وعرفتُ أن صوت الغروب والشروق في الصحراء واحد، كلاهما ينظر إليك بشفقة، ويسألك (ألا زلت هنا؟) وأنت خائف من تآكلك في الرمال، الصحراء هي الخوف المطلق أيضاً، والاطمئنان المطلق، هي المشكلة، وهي من تقترح الحل، الصحراء هي الحل والحيلة، تجمع كل متناقضات الوجود من حياة وولادة، بداية ونهاية، مسافة وقطيعة. في الصحراء تنبت دائماً أسئلتي البرية، وينبت المكر فيها إلى حد الإلحاح المتعب في الأجوبة التي تشبه السراب في الصحراء، لك أن تسأل كثيراً في الصحراء، لكن يُفضل ألا تعثر على الأجوبة، فكل جواب صحراوي يحملنا نحو سؤال أكبر، حزن أعمق، رغبة جامحة في معرفة كل شيء في زمن واحد لا تملك أن تعدده، السكينة في الصحراء تقود دائماً نحو سكينة أعمق وأكثر حذراً، قدر رمال الصحراء هو الصمت، وقدر الصحراء هو العطش، وقدر العطش هو الصبر والتعايش.. الصحراء تعني تلك البريّة التي يتعايش فيها الإنسان والحيوان والحشرات والطيور والنبات وكل طبيعة حية وصامتة في فضاء روحي ممتد بلا بداية ونهاية، وجود عميق يملأه الله. لا تبحث كثيراً... لكن ركز أكثر، لا يوجد في الصحراء أي شيء، وفي الوقت نفسه يوجد كل شيء. لعل الصحراء كانت لها الوفرة في قصصي وعلى نحو أرحب في روايتي القصيرة (خرجنا من ضلع جبل)، حيث ألم البحث عن ثنائية الموت والحياة، وتداخل الوقائع بالأسطورة، على أن الصحراء بكائناتها ترمز دائماً برموز أسطورية، ولم يكن الزمن في الرواية محدداً ذلك لأن الزمن الصحراوي ممتد ومتصل إلى الأبد، لا تشعر وأنت في معمعة الصحراء بالماضي أو أنك في الحاضر أو لعلك داخل في الأسطورة باتجاه الأبد، الصحراوي لا يهتم بالوقت ولا يسأل عن المكان، ما يهمه هو كيفية الاحتيال على واقع الصحراء والتعايش معها ليبقى حياً، كل ما يهم الصحراوي هو البقاء على قيد الحياة؛ لذا تركت نهاية روايتي مفتوحة على الأسئلة، فوحدها الأسئلة تكفل الاستمرارية ورفع أشرعة جديدة بيضاء تبحر باتجاه المجهول، تحمل الماء نحو عطش بلا رواء أبدي، عطش مستمر على قيد الحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©