الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مخمرية

3 نوفمبر 2010 21:22
وتشتاقني ذكرياتها، وكأنها ليست سنيناً التي مرت، وكأنه ليس الموت الذي فرقنا... منذ زمن وكأنه من لحظة مضت كنت بطول قامة ابني ذو السبع سنوات، وكان شعري مجدولاً في ضفيرتين خجولتين.. أركض في كل البيت إلا عند باب غرفتها، جميعنا نلتزم الصمت. بأدبٍ جم أفتح باب الغرفة وأنظر أولا في عينيها لأعرف إن كنت أستطيع الدخول. بنظرةٍ حنونة ردت حتى من وراء برقعها الكبير أستطيع أن أفهمها. رحت أخطو بخفة نحو سريرها الضخم كان ذلك السرير وقتها كأنه سفينة وتلك الغرفة هي العالم. كعادتها تفترش الأرض المفروشة بسجادة ٍخضراء على ذوقها ونافذتها الواسعة مفتوحة لتحتضن الشمس أرجاء الغرفة. دائماً مشغولة بشيء لا أفقهه، ذلك اليوم كان الهاون النحاسي أمامها ويد الهاون في يدها تدق بعزمٍ وبقوة وكأنها ابنة العشرين. تدق ويتردد صدى الهاون في أرجاء المكان. لم أستطع إزعاجها بأسئلتي كما هي العادة، بصمت أجول بعيني على الجدران الصفراء الشاحبة. وأستمتع برائحة المسك الذي ينتشر عبقه في المكان كلما ضربت حجر المسك بيد الهاون ليتحول إلى ترابٍ ناعم. بعد قليل أمرتني بإخراج طاسة كانت تخبئها تحت السرير، أحضرتها وتذكرت أنها دائماً تستخدم تلك الطاسة وتغلفها بقطعةْ شيلة رقيقة لتنخل الحناء وبسرعة فتحت أحد الجوارير وأحضرت تلك الشيلة. ولكنها هذه المرة ابتسمت وأخرجت شيلة جديدة نظرت إليّ وهي تشير بيديها: هذه الشيلة للحنا وهذه للمسك. غطت الطاسة بها ثم قلبتها وأحكمت ربط القماش الرقيق في القاعدة. وتحولت الطاسة بين يديها إلى منخل، وضعت المسك على القماش الذي يغطي فوهة الطاسة وبحذر أخذت تحرك أصابعها بشكلٍ دائري وأخذت كومة المسك بالتناقص. لم يتبق من المسك سوى القليل... القليل من المسك الخشن وبحذر فكت القماش لتكشف عن مسكٍ ناعم متجمع أسفل الطاسة وكأنه كثيبٌ رملي يغري باللمس لشدة نعومته. ثم أضافت له بودرة حمراء اللون تفوح منها رائحة الزعفران. أخذت تضيف للمسك والزعفران عطوراً قوية الرائحة. كانت حريصة على ألا تضيع أي قطرة سدى. وهي تحرك المزيج بالمرود (عصا معدنية ذهبية اللون أطول من القلم بقليل تستعمل للعطور)، شيئاً فشيئاً تحول المسك والزعفران إلى سائلٍ غليظٍ أحمر. استمرت تخلط وبين دقيقة وأخرى تشم رائحة المزيج المعطر وتضيف المزيد من هذا العطر أو ذاك. أخذت تخلط مزيج العطور بحرص ثم صبته في أوان صغيرة بيضاوية بحجم الكف، مصنوعة من الخزف الصيني ولها غطاءٌ معدني ليحكم إغلاقها. ثم فتحت خزائنها المرتفعة التي لا تطالها أيدينا وخبأتها بداخلها وأغلقت الخزانة بالمفتاح. عندها فقط التفتت إلي وابتسمت. جلست بجانبي على السرير. بصوتها الحنون سألتني إن كنت أعرف ما هذا؟ هززت رأسي بلا. أجابتني إنها (مخمرية) وسميت بذلك لأنها خلطة من العطور تترك مدةً من الزمن لتخمر وتتمازج، فكلما تركت لأطول فترة كلما امتص الزعفران والمسك العطر، وكلما أيضاً تعطر العطر برائحة الزعفران. نهضت وتوجهت لمرآتها حيث تحتفظ ببعض المخمرية العتيقة، غمست المرود في المخمرية ثم أخرجتها ليتجمع السائل العطري حول العصا ويتساقط على أصابعها. دست العطر بين ثنايا شعري. قالت بصوتٍ رخيم: قديماً لم تكن المخمرية تصنع إلا للعروس لغلائها... وكأني أراها اليوم ومفرق شعرها الأشيب يزينه لون المخمرية ورائحة عطرها لا تفارقني. كلما شممت رائحة المخمرية... أتذكرها. كلما رأيت ذلك المروّد بين يدي النساء يدللن أنفسهن بالعطر... أتذكرها. كلما ذكر الطيب والحب والحنان والكرم والحشمة... أتذكرها. كلما تحدث أحدهم عن ذلك الزمان الجميل... أتذكرها. كلما رأيت لون المخمرية يزين شعر إحداهن... أتذكرها. وإلى هذا اليوم لا أمل من ذكراها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©