السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رحلات البر·· عودة إلى الرحم الأول

رحلات البر·· عودة إلى الرحم الأول
25 فبراير 2009 00:40
البر جزء أصيل من الطبيعة في الإمارات، يهرع إليه الناس للاستمتاع والترويح عن النفس، يخرجون إلى الهواء النقي، لاكتشاف الغنى الكامن في تنوع النباتات والأزهار المعطرة، ويسبحون في أشعة الشمس الربيعية الدافئة، بعد أن انهمر المطر، وجرت الوديان، وصارت الصحراء أشبه بسجادة خضراء، في هذا الجو النظيف الرائع البديع الذي يفوق الخيال يستسلم الناس لجمال الطبيعة وهدوئها وبساطتها، ويمتعون النظر في خضرتها الساحرة، وتهيم أرواحهم في الأفق الأزرق الواسع، حيث يستنشقون رحيق الأمل والتجدد وحب الحياة· البر في الإمارات أكثر ألفة ورحمة هذا العام، بعد أن قامت الأرض بتجديد ثوبها القديم، والناس الذين يلازمهم الحنين إلى مرابع الطفولة ومنازل الآباء والأجداد يعيشون الآن أجمل اللحظات تحت الأشجار وفوق الأعشاب الخضراء، لا شعور بالإرهاق والتعب، ذلك أن الخروج إلى البر يوفر السكينة والهدوء، ومتعة الاسترخاء في المكان الذي يحتضن الذكريات، حيث يداعب النسيم الرائق الوجوه، ويعيد إليها نضارتها، ويمنح الأجسام طاقة جديدة مملوءة بالحيوية والنشاط، أما الأطفال فإنهم لا يغمضون عيونهم حتى يصحون من جديد لممارسة ألعابهم المفضلة في مطاردة العصافير، والفراشات الملونة التي يمسكون بأهدابها، وتتعالى أصواتهم بالضحك، إنهم يمتلكون في هذه البقاع المعشبة حريتهم الكاملة· في الرحلات البرية ينصب الناس الخيام، ويطيب لهم المقام، يعيشون أجمل أيام الأنس والبساطة، يبحثون عن الأعشاب اللذيذة الطعم التي يأكلونها خضراء يانعة، أيام من عمر الزمن تذكرهم بالماضي بكل ما فيه من بساطة وطرق عيش، يسهرون معاً حتى ساعات الفجر الأولى في الأجواء البديعة التي تنبعث منها رائحة الأرض الطيبة، فتحمل الراحة إلى القلوب، والدفء الحميم للعلاقات البشرية الظمأى إلى الحب والتلاقي· إن هذا المشهد الإماراتي السنوي يختزل الانتماء للمكان، ويعبر عن التقاليد والعادات البدوية المستمدة من جذور الماضي العريق، ومن موروث الآباء والأجداد الذي يأبى أن يتلاشى رغم سرعة الحياة العصرية، مشهد من الحياة البدوية الذي تهدأ فيه محركات السيارات خلال الليل كي يتسامر الساهرون ويجلسون قرب النار التي أشعلوها لإضاءة العتمة التي بدت تسدل أستارها، ويحتسون القهوة العربية الأصيلة من الدلال الموضوعة فوق المواقد· إن هذا الجو البيئي الخالص الذي اتشحت فيه البراري بالربيع الأخضر، واكتست فيه بعض قمم الجبال هذه السنة بالأبيض الناصع، كما في بعض مناطق رأس الخيمة والفجيرة، يلهم الإنسان أن يكون صديقاً للبيئة، يحافظ على أشجارها ونباتاتها الخضراء، وتدفعه لمحاكاة الطبيعة في الرقي والجمال والإبداع· إن العودة إلى الطبيعة كمن يعود إلى حضن أمه، حيث الهواء الطلق يلفح الوجوه، والسماء المفتوحة، والبادية والجبال تجعل الإنسان طفلاً بكامل عفويته وطفولته، وبكامل صحته وعافيته، يلتقط من الأعشاب والنباتات الصحراوية والجبلية المتوفرة في البيئة الإماراتية ما يفيد جسمه، وهناك بعض الأعشاب التي تستخدم في العلاج وتخفيف الآلام وتساعد على تحسن الحالة النفسية وإعادة النشاط، بل إن العديد من الأدوية مستخلصة من هذه النباتات البرية الصحراوية والجبلية· في منطقة القرن القديمة التي أحياها طريق الإمارات من جديد، وازداد تدفق الزوار عليها، ما زال فيها بعض العزب الخاصة، حيث كانت هذه المنطقة في الماضي تحتوي على عزب لشيوخ أم القيوين تربى فيها الجمال، وفيها مسجد يصلي فيه الناس، وكانت ممراً يصل إلى فلج المعلا ورأس الخيمة ومناطق عمان قبل إنشاء الطرق الحديثة· ويحدثنا علي أبوسنيدة الذي رافقناه في هذه الرحلة البرية الممتعة أن سيارة الشيخ حين كانت تغوص في الرمال، يهب الأهالي من أم القيوين لمساعدة الحاكم وانتشال السيارة من وسط الرمال· وقريباً من القرن تقع البطحة، وهي عبارة عن مجرى ماء ينطلق من جبال الفجيرة، مروراً بفلج المعلا، ليصب في خليج رأس الخيمة، وفي هذه المنطقة التي انقطع ماؤها نتيجة لقيام السدود في الجبال، يأتي الناس من جميع مناطق الدولة ينصبون الخيام، ويقيمون أياماً وشهوراً خاصة في موسم الإجازات والعطلات الرسمية· وذكرت لنا بعض العائلات الموجودة في المكان إنها جاءت من أبوظبي منذ شهر للاستمتاع بهذا الجو الطبيعي الجميل، وقد رحبوا بالتقاط الصور التذكارية لهم، طالبين منا شرب القهوة العربية الأصيلة· ويقول أبوسيف إنه يأتي إلى البطحة مع الوالدة والأهل للاستمتاع بجمالية المنظر، خاصة في فصل الربيع، واضاف لقد ولدتني أمي في العرائش، وأنا أستمتع بجاذبية الصحراء أكثر، خاصة بعد سقوط الأمطار، واخضرار الأرض· وفي الطريق يوجد آثار لسكان أم القيوين قديماً، قبل الانتقال إلى الموقع الحالي الذي توجد فيه الإمارة، حيث هجر السكان المكان بسبب انحسار البحر· وفي منطقة أم الثعوب كما يقول أبوسنيدة كانت تكثر الثعالب، لكنها اليوم ملأى بالسياح والزوار الذين يفضلون قضاء الإجازة في مثل هذه الأجواء الهادئة· وبسؤاله عن ألوان الرمل في الصحراء قال: هناك اللون الأصفر، والأحمر المخصص للزراعة، مشيراً أن بعض الرمال جافة ولا تنبت فيها الأعشاب، وهناك نوع عادي يصلح للدفان· وعن أشهر النباتات الصحراوية التي كان يأكلها الناس في الماضي، وما زال البعض يبحث عنها ويأكلها في الوقت الحاضر قال: في فصل الربيع تكثر بعض الخضراوات الطبيعية التي تنبت بعد نزول المطر، ويعتمد عليها الناس في الغذاء، مثل الحماض، والبصيلات التي تخزن ماء المطر في الجذور، والقلمان، وكذلك الفقع الذي يكثر بعد الوسمي ووجود الرعد والبرق، أما شجر الغاف المنتشر في المنطقة فإن القدماء كانوا يأكلونه نتيجة لعدم توفر الخضرة· وذكر أن ارتباطه مع الصحراء بدأ من أيام المقيظ، حيث أغلب الناس كانوا يصيفون في رأس الخيمة، أو عمان، أو في منطقة الفلج· ووسط هذه الأجواء التي يكاد فيها أبوسيف قد عاد إلى رحمه الأول، وإلى المكان الأول وبدأ يردد مع الشاعر العربي القديم ''لك يا منازل في القلوب منازل'' حيث قال عن الأشياء التي يفتقدها في الماضي: نفتقد حرية الحركة، واللعب، والترابط الأسري الذي كان عميقاً ومتجذراً· وعن الألعاب التي كانوا يمارسونها في الماضي ذكر أنها كانت كثيرة وتعاونية مع أولاد الفريج، ومنها العنبر، عظيم السرا، هوسة، قلينة وناطوع، المصطاع، وهي قريبة من الكريكيت مشيراً أن أغلب هذه الألعاب اندثرت وما عاد لها وجود في ظل التقدم التكنولوجي· وعلى أبواب رأس الخيمة وصلت بنا السيارة إلى منطقة مزرع، التي اندمجت فيها رومانسية الماضي تحت ظلال الأشجار، والخيام المضروبة في الهواء الطلق مع حرية الأفراد في اللهو والتعبير عن رياضة التزلج فوق الرمال، حيث تصعد السيارات، والدراجات وتعود بسرعة صاروخية، مثيرة خلفها الغبار، ومنها من لا يستطيع الصعود إلى قمة التل فيكرر المحاولة مرات ومرات، وهي رياضة كما قال أحدهم هواية، وشكل من أشكال التحدي للنفس، تابع إنه يأتي إلى هذا المكان مرة كل أسبوع أو عشرة أيام لممارسة هذه الهواية المحببة، وعن طبيعة عمله قال كنت أعمل في التلفزيون ثم تفرغت لأعمالي الخاصة· وقال شخص آخر عن سيارته الجديدة التي يمارس بها التزلج فوق الرمال إن ثمن السيارة لا يقارن بذلك الإحساس العارم بالقوة حين الوصول إلى رأس التل، حيث تجري المسابقات والمراهنات بين الأصدقاء· وفي طريق العودة كشف علي بوسنيدة عن بعض مواهبه حين بدأ ينشد: خذلك مثل من لولين اهل العبر ناس كرام بعزهم متحشمين أهل الكرام أجواد دنيا ومعشر الخير فيهم والكرم يا مسلمين وعن اللغة العربية أنشد شعراً فصيحاً حيث قال: بدمي أكتب شعراً عن أميرة لغتي كانت على مر العصور صديقة ولساني في هواها قائل عربية تحيا وتبقى لي طريقة وذكر بوسنيدة أنه تأثر بشقيقه أحمد، وشعراء المعلقات والمتنبي والشعراء العرب الكبار، وبدأ يكتب الشعر· وداخل أم القيوين حيث علي بوسنيدة يعمل مساعداً لمدير مدرسة الضياء الأساسية استوقفتنا بعض المشاريع الموجودة في المدرسة ومنها تربية الحمام والدواجن والبط والديك الرومي والأغنام والأسماك وسألناه عن ارتباط هذه المشاريع بالبعد البدوي في شخصيته، وأهميتها، وما إذا كانت ربحية تجارية فقال: بدأت هذه المشاريع فكرة بسيطة في محاولة لخدمة البيئة المدرسية، وتغطية المساحات الموجودة فيها واستغلالها في أمور نافعة، ثم انطلقت إلى الأفضل والأكبر بمساعدة الأستاذ مدير المدرسة يوسف فارس والإخوة المدرسين والطلاب وأولياء الأمور، حيث قمنا ببناء مسجد، وإنشاء مسبح، إضافة إلى مشاريع تربية الدواجن والأغنام والحمام وهي مشاريع غير تجارية، ندعمها من جيوبنا الخاصة، حيث كل مدرس أو إداري مسؤول عن الشيء الذي يربيه، ويعود المنتوج للمدرسين والطلاب وأولياء الأمور· وذكر أن هذه المشاريع كانت أحد الأسباب التي أدت إلى حصول المدرسة على جائزة سمو الشيخ حمدان بن راشد للتعليم المتميز، وجائزة الشارقة للتميز التربوي· وبمناسبة المدارس ذكر أن أول مدرسة في إمارة أم القيوين كانت في أحد البيوت، تلتها مدرسة الأمير للطلاب الذي درس فيها بوسنيدة الصف الأول الابتدائي، انتقل بعدها إلى مدرسة عثمان بن عفان، ثم افتتحت مدرسة المعلا الخاصة بالطالبات· وعن المدرسين الأوائل ذكر منهم كامل الجرجاوي، سعدي حسين، سميح الباشا، وشحدة عقيلان وهو أقدم مدير، ويقول بوسنيدة إن والدته كانت تحضر احتفالات المدرسة التي يديرها شحدة عقيلان عند قصر الشيخ في الحصن حيث ينشد الطلاب الأناشيد الدينية بمناسبة قدوم رمضان والمولد النبوي والاحتفالات العربية قبل قيام الاتحاد وما زالت الوالدة تحفظها وترددها على مسامعنا إلى الآن· علي بوسنيدة بدوي يعيش في المدينة، وهو يربي أبناءه على العادات البدوية الأصيلة، حيث كان ابنه يوسف الطالب في الصف الثامن المتوسط موجوداً في هذه الرحلة الجميلة، وكان يبحث عن الفقع في كل مكان تشققت فيه الأرض، ويؤكد علي بوسنيدة أن الارتباط بين البدو والحضر في الإمارات كان موجوداً دائماً، حيث يحضر البدوي من باديته الحطب والعشب وبعض الخضراوات على ظهر الجمال التي تحط عند الحصن يوم الجمعة، ويقوم الناس بالشراء، واستضافة البدو في بيوتهم، يقدمون لهم الأسماك التي اشتهرت بها أم القيوين، ويعود بها البدو مع بعض الأغراض إلى أهلهم، وقد استذكر بوسنيدة كيف كان سمك البياح يطير فوق رؤوسهم من كثرته في خور أم القيوين وحين تم ردم جزء من الخور هرب السمك·
المصدر: أم القيوين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©