السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مهنة «الكندرجي» تنقذ غير القادرين من «مطبات» اقتصادية

مهنة «الكندرجي» تنقذ غير القادرين من «مطبات» اقتصادية
6 أغسطس 2011 22:18
الأحذية المنهكة و”التعبانة” بحاجة إلى إسكافي شاطر، فالمثل يقول: “لولا الإسكافي ... لمشيت حافي”.. رزق الله على أيام زمان، عندما كانت الأحياء والزواريب تمتلئ ضجة وحيوية، يبحث أصحاب المهن القديمة عن المال الحلال بعد إرضاء الزبائن. ومع ذلك هذه الحرف كانت بسيطة جداً، لا تعقيد فيها بل أدوات شبه دعائية، وأصوات تنادي على المهنة بعفوية ومصداقية. انقسمت الآراء حول “الكندرجي” حيث يرى البعض أن هذه “الصنعة” بدأت تتلاشى وتتقهقر تدريجياً بسبب “الحضارة” التي غزت العالم ومنه لبنان، وطبعاً لأن المستهلك يتجه إلى “الموضة” التي ترفع راية النتاج العصري. أما البعض الآخر فلا يزال يرى في الإسكافي نجاته من المطبات المادية بسبب العجز الاقتصادي وقلة الحيلة والمدخول. إلاّ أن الشيء البارز في هذا الاختصاص، يشير إلى أن الشيخوخة داهمت أصحاب هذه المهن، فأقعدتهم في بيوتهم، وإن كانت بعض المنازل ما زالت تؤمن بطيبة هذه الصنعة التي تراجعت وانزوت لندرة الزبائن، وقسوة الأيام وتأثير سنوات العمر، لتصبح المهن الشعبية في خبر كان، نبحث عنها فنراها مختبئة خارج المحلات الفخمة والمخازن الكبيرة، بعدما غزت المدينة تقاليدنا وعاداتنا. حنين إلى الماضي وفي العاصمة بيروت إذا أردت السؤال عن بعض هذه الحرف، فلا جواب، بل ضحكة سخرية تبلغ حد الاستهزاء من السؤال، وكأنك تعيش خارج العصر والحضارة، فمن تريد الاطمئنان عنهم تحولت أماكنهم إلى زوايا معتمة، ومنازل مظلمة فيها عبق الماضي، والعداء لكل ما هو حديث و”مودرن” على أساس أن الماضي الجميل ولى إلى غير رجعة، وحل مكانه الإهمال والتنكر للأصالة والإتقان. ويقول الإسكافي نعيم بيضون الذي يعمل في هذه المهنة منذ ثلاثين سنة: رزق الله على أيام زمان، يوم كنا نشتغل لو بقرش واحد، فنقول الحمدالله. أما الآن فالغلاء الفاحش يكوي أجساد الفقراء والمحتاجين، قديماً كان كيلو “النعل” بـ 15 ليرة، بينما اليوم فهو بالريح. كل مدخولي اليومي لا يكفي لإطعام ثمانية أولاد في ظل جحيم الجشع والغلاء والاحتكار، والأنكى من ذلك أن الجيل الجديد يشتري الحذاء بأغلى الأسعار مع علمه بعدم جودته ورداءة صناعته. أحن كثيراً إلى الماضي، إلى سوق “الكندرجية” الذي دمرته الحرب، عندما كنت أتواجد في زاوية أحد الشوارع، حاملاً علبة خشبية ومسامير و”شاكوش” وسندان مع كرسيه فقط لا غير.. حرفة الكسالى أبو سليم العتر يمتلك محلاً صغيراً في منطقة المعمورة بالضاحية الجنوبية، لا يتعدى طوله المترين، يجلس وراء مقعده منكباً على تصليح و”هندسة” فردة حذاء أكل الدهر عليها وشرب، إلاّ أن الحاجة أبت إلاّ أن تعيد الحياة لها، في تأهيل قسري لبعض الوقت بانتظار ظروف أفضل لشراء حذاء جديد. يقول أبو سليم: هذه المهنة محببة إلى قلبي، وأعطيتها من عمري الشيء الكثير، وطبعاً لها فضل عليّ، فبواسطتها علمت أولادي وبعضهم تخرج في الجامعات، فلم أبخل عليها ولم تبخل عليّ، وان كان الأولاد اليوم يحرضونني لكي أتركها وأتقاعد وانزوي في البيت، ولكني لا أطيق الابتعاد عنها حتى يحين موعد منيتي. في الماضي كانوا يقولون إن “صنعة الكندرجي” هي حرفة الكسالى لان الفقراء وحدهم كانوا يتعاطونها، وأيضاً الذين ليس لديهم القدرة على العمل، وكان هؤلاء يعيشون ويعتاشون من الربح القليل الذي تدره عليهم هذه المهنة، وبعد أن شهدت وعرفت هذه الحرفة النمو والازدهار إلى حد أن صانع الأحذية في الماضي، كان لا يستطيع أن يأخذ “نفساً”، من ضغط الأعمال والطلبيات، أما اليوم فقد تبدلت الأحوال وتغيرت، وبات “الكندرجي” مضطراً لقضاء الساعات الطوال بانتظار الزبون ليكسب لقمة عيشه. مهنة “الإسكافي” تنقلت في مختلف المناطق اللبنانية، ومتى علمنا أن في مدينة صيدا وحدها، كانت تضم في الخمسينات أكثر من 250 صانع أحذية محترف و”معلم”، وحالياً لا يتعدى عدد هؤلاء أصابع اليدين، لأن المعلمين الأصيلين انقرضوا وكل واحد يموت لا أحد يحل مكانه، هذا فضلاً عن ترك البعض الآخر للمصلحة لأنها غير مربحة هذه الأيام، بل تزيد الإنسان فقراً وعوزاً... فردة حذاء بالية ويشدد الإسكافي أحمد الديراني على أن هذه “الصنعة” لم تعد تلقى الرغبة من أبناء هذا الجيل، فهؤلاء يعتبرونها مصلحة ليست ذات شأن، لذلك لم يشأ أولادي تعلمها لأنها ستؤول نحو الانقراض، بسبب الفقر المدقع الذي يعانيه الناس، فالكثير من هؤلاء يملكون الآلاف القليلة لقاء تصليح أحذيتهم، التي غالباً ما تكون رثة بالية وفي حال يرثى لها.. ويعطي المعلم أحمد الدلائل على صحة ما يقوله، حين يترك الزبون قطعة الحذاء المراد تصليحها في دكانه الصغير، ولا يعود قبل أسابيع بل شهور، لأنه لا يملك ثمن تصليح الحذاء، الذي يتراوح بين ألفي ليرة وعشرة آلاف. الحاجة أم محمد زبونة دائمة لدى الإسكافي، قالت إنها تقصد “الكندرجي” بسبب عدم قدرتها على شراء الأحذية الجديدة، ودائماً ألجأ إلى تصليح كل أحذيتي القديمة، ولولا ذلك لمشيت حافية، أتمنى تحسين الوضع الاقتصادي الذي لم يعد يحتمل بتاتاً. الحاجة سلوم قالت: منذ سنوات عدة وأنا ألجأ إلى الإسكافي لتصليح أحذيتي وأحذية عائلتي ماذا أفعل بالأوضاع الاقتصادية السيئة التي نتخبط بها، فأسعار التصليح تبقى محمولة أكثر من شراء الأحذية الجديدة، وخوفي الكبير إذا ما بقيت الأوضاع المتردية على حالها وازدادت سوءاً، من أن نصبح غير قادرين على تصليح أحذيتنا. القطبة الخفية في سوق “زوق مكايل” القديمة كانت معامل ومحلات الأحذية رائجة، وكانت صناعة الحذاء العربي مرتبطة بهذا السوق الذي اشتهر بأحذية ذات “القطبة المخفية” أو الخفية، وهذه التقنية لا يملكها ولا يتقنها الاّ بعض الحرفيين في الزوق، الذين كانوا يخيطون الحذاء ثم يقلبونه بشكل يخفي “القطبة”. وبقيت الحرفة مزدهرة كما يقول أحد المعمرين في المنطقة حتى جاءت الحرب العالمية الأولى، حيث ضربت المجاعة البلاد وأدت إلى هلاك ووفاة ثلث سكان الساحل اللبناني، فبقي من معلمي الصنعة في الزوق “الختيار” وديع عودة، بعدما كان عددهم يتجاوز الـ 150 إسكافياً. الإسكافي عودة بقي وفياً لمهنة الآباء والأجداد، فهو تعلمها منذ الصغر، فأصر بعد بلوغه السبعين على الاستمرارية فيها، مهما تكن الصعوبات ومهما طرأ على الصنعة من تغيرات، إضافة إلى علامات التعب المرهقة على وجهه، نتيجة الاحتراف لمهنة الفن منذ 58 سنة. “عدة الشغل” يصفها عودة بالأكثرية لأنها تشكل رأس ماله الوحيد في هذه الحياة، وعلى الطاولة الخشبية يعرض بعض أزواج الاحذية، ومقصاً للخيطان وسكيناً لقص الجلد، وكماشة لشده، ومجموعة من الربطات الملونة، وشاكوشاً لدق “النعل” وماكينة لخياطة الأحذية. ويشرح المعلم عودة أسرار المهنة فيقول: يمر الحذاء بعدة مراحل، والعملية تتطلب صبراً، فأحياناً أجلس عدة ساعات من دون أن أتحرك من مكاني، وكأني متجمداً في صقيع “الإسكيمو”. أنفذ عملية الترقيع والتصليح للأحذية المستهلكة، أما الحذاء الجديد فأنفذ تصميمه من الورقة إلى الواقع.. أولاً أضع “النعل” ومن فوقه الضبان قبل ان أخيط الحذاء، في الماضي كنت أخيط الحذاء بيدي اما اليوم فأصبحت أتكل على الماكينة.. أفصل القماش وادرزه على الماكينة ثم أضعه على قالب مصنوع من الخشب، وأضع الصمغ على “النعل” وأتركه ليجف، بعد ذلك أثبت الكعب باستخدامي خشبة متصلة بقطعة حديدية، أضع فيها الحذاء لأدق المسامير، ويبقى “الجلخ” الذي حل مكانه ورقة الزجاج لـ”حف النعل” وفي المرحلة النهائية يأتي الصباغ الذي يطلى به الحذاء حسب رغبة وذوق الزبون. حرف جميلة تنقرض المهن العتيقة لم يعد لها مكان في العاصمة ولا أثر، فهي انقرضت أو بدأت بالانقراض، حيث تغير كل شيء وتبدّل كل شيء، لنرى حرفاً جميلة ضاعت، وذكريات حلوة تلاشت إلى غير رجعة، ولم يبق من أرشيف الحقبة الماضية، سوى أصوات مبحوحة تصرخ: أن المدينة الحديثة و”الحضارة” غزت الأسواق...
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©