الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

يتجلى في التحريك الذهني والتواصل التيليباتي والسفر النجمي.. الواقع اللامرئي

يتجلى في التحريك الذهني والتواصل التيليباتي والسفر النجمي.. الواقع اللامرئي
8 نوفمبر 2018 01:14

الفاهم محمد

يعاش الواقع اللامرئي اليوم كحدث ثقافي مثير وهائل، خصوصاً في سياق حضارة أعلنت نفسها منذ المرحلة الأنوارية على أنها حضارة مادية لا تؤمن بوجود الماورائيات. لذلك نحتاج اليوم إلى التفكير في مرحلة جديدة من الوعي يمكن أن ندعوها بما بعد المادية Post matérialisme إلى نوع من يقظة الشعور حتى نستوعب طبيعة هذا اللانتقال من المادي إلى الروحي. إلى أن نمارس الدهشة الجذرية التي تدفعنا إلى التفكير والتساؤل، ومحاولة فهم كل هذه الظواهر التي تتحدى المألوف.

ظواهر خارقة
منذ أن كتب الطبيب رايموند مودي كتابه الشهير: حياة ما بعد الحياة life after life أصبحت ظواهر الموت الوشيك NDE موضوعاً رائجاً تدور حوله العديد من الأبحاث، وتصدر الكثير من المؤلفات سنوياً. العديد من الشهادات التي تؤكد أنها عاشت مثل هذه التجارب، حيث استطاعت أن تقف على الحدود الفاصلة بين الموت والحياة، لتختبر نوعاً من الحب اللانهائي والهدوء المطلق وهي تعبر نفقاً طويلاً من الضوء، أو تلاقي أفراداً من عائلتها سبق لهم أن ماتوا. إن مثل هذه التجارب يصعب استيعابها انطلاقاً من المفهوم المتفق عليه للطب، وذلك ما دام أن كل هذه الشهادات تؤكد أن ثمة شيء موجود، ولكنه ما فوق الجسد المادي.
الظاهرة نفسها تحضر مع السفر النجمي، حينما تغادر الروح الجسد كي تعيش لحظات من الانفصال المؤقت عنه. ظاهرة الخروج من الجسد التي تدعى اختصاراً EHC أصبحت بدورها موضوعاً مطروحاً بقوة في الطب وفي علم النفس. من أبرز من اهتموا بهذا الموضوع نذكر الفرنسي دانييل موروا جيفودان Daniel meurois givaudan أحد كتاب اتجاه العصر الجديد الذي يرى أن الإنسان حالياً عليه أن يعيش داخلياً التجربة الروحية، ويختبرها بنفسه بدل أن يركن فقط للإيمان بالعقائد الثابتة.
في السياق نفسه، يطرح أيضاً موضوع التحريك الذهني والتخاطب عن بعد كأحد المواضيع الأساسية في علم النفس الماورائي، أو ما يسمى أيضاً بالباراسيكولوجي. يتعلق الأمر بشحذ قوة العقل من أجل تحريك أشياء موجودة في الواقع الحسي، أو من أجل نقل معلومات من مكان بعيد أو تمرير رسائل لشخص تفصلنا عنه مسافة بعيدة. ويمكن القول عموماً إن التحريك الذهني والتواصل التيليباتي هما أوضح مجال يتجلى فيه بالملموس حضور الواقع اللامرئي، حيث يمكن معاينة النتائج مباشرة. لذلك استعملت هذه الوسيلة كتقنية من أجل التجسس، سواء من طرف الاتحاد السوفييتي سابقاً أو من طرف المخابرات الأميركية.
نحن إذن أمام ظواهر خارقة تؤكد لنا وجود مستويات من الواقع تفوق الواقع المحسوس. إن هذا هو ما يدفعنا اليوم إلى إعادة النظر في مفهوم الواقع ذاته الذي لم يعد يقتصر فقط على ما هو معطى للحواس. يستنتج عالم الفيزياء النظرية فيليب غيومان PHILIPPE GUILLEMANT الرجل الذي يهتم بفيزياء الغد كما يعلن كشعار في موقعه الرسمي على النت أن الطبيعة لا تتكون فقط من المادة والطاقة، أي العناصر المألوفة التي اعتدنا ملاحظتها وقياسها، بل هناك أيضاً المعلومات وهي المسؤولة عن كل التشكلات التي تحدث في الطبيعة. إن معنى هذا يضيف غيومان أن الواقع ليس كما نتصوره، بل هو شيء من ابتكار الوعي، تماماً كما هو الأمر في الفيزياء الكوانطية، حيث العديد من الجزيئات لا يكون لها وجود محدد إلا عندما نخضعها للملاحظة والقياس.
أبعاد مخفية
تخيل نفسك عبارة عن سمكة تعيش ضمن أبعاد محددة هي تلك التي يمنحها لك واقع الصهريج الصغير الذي تعيش فيه، هذه الأبعاد هي الطول والعرض والارتفاع. هذه السمكة لن تنتبه لوجود مراقب خارجي ينظر إليها من خارج هذا الصهريج، لأن وعيها تشكل انطلاقاً من معتقد جازم أنه لا يوجد خارج لهذا الصهريج. ولنفترض في مثال آخر أن هناك كائناً يعيش ضمن بعدين فقط، هما الطول والعرض، إنه بمثابة رسم فوق ورقة، بمعنى أنه لا يعرف أن هناك بعداً ثالثاً اسمه الارتفاع. لو قدر لنا أن ننزع هذا الكائن المسطح ثنائي البعد، كي نجعله يعيش ضمن البعد الثالث، فستكون تجربة فريدة ومدهشة في حياته، سيتغير فيها وعيه وكيانه بشكل عميق وجذري.
في الحقيقة حياتنا شبيهة بحياة هذه السمكة أو بحياة هذا الكائن المسطح، فنحن أيضاً سجناء للفضاء الجاليلي المحكوم بالأبعاد الثلاثة، وهي الطول والعرض والارتفاع. لقد اعتدنا انطلاقاً من وعينا المحدود الاعتقاد كذلك أنه لا يوجد شيء خارج هذا الفضاء ثلاثي الأبعاد. ولكن ماذا لو كان الوجود الذي نحياه يتضمن أكثر من ثلاثة أبعاد؟ ماذا لو كانت هناك أبعاد أخرى مخفية؟
تؤكد لنا العلوم المعاصرة أن فكرة الفضاء الجاليلي قد باتت شيئاً متجاوزاً، لقد كانت أولى المحاولات الجادة لتجاوز محدودية هذا الفضاء مع أينشتاين، وذلك عندما أدخل عامل الزمان كبعد رابع، ما جعله يقلب رأساً على عقب الميكانيكا النيوتونية، ويعيد تعريف مجمل المفاهيم التي تأسست عليها. أما نظرية الخيوط الوثرية المنحدرة من الفيزياء الكمية، فهي تذهب أبعد بكثير من هذا، إنها تفترض وجود أحد عشر بعداً، أبعاد خفية ومطوية على ذاتها تتجاوز إدراكاتنا الحسية المباشرة.
من المفاهيم الأساسية التي تتناول فكرة الواقع اللامرئي والأبعاد الخفية للطبيعة، ما يصطلح عليه بقطة شروندنغر وهي عبارة عن تجربة ذهنية في ميكانيكا الكم. نحن لا نعرف هل هذه القطة حية أو ميتة إلا بعد أن نفتح الصندوق، أما قبل ذلك، فإن القطة ستكون من الناحية الكمية في حالة تراكب كمومي superposition quantique كما يسميها نيلز بور، أي أنها حية وميتة في الوقت نفسه. إن هذا هو نفسه التصرف الذي تتبعه الجسيمات دون الذرية، فالإليكترون يكون موجوداً في كل الاحتمالات، أي في كل الأماكن، لكن بمجرد ما أن نلاحظه حتى يقرر أن يأخذ مكاناً واحداً بدل أن ينتشر كموجة. هذه الحالة الموجية للجسيمات لها علاقة بموضوع الأبعاد الخفية للطبيعة وتعدد الأكوان، حيث كل الحالات تكون موجودة في الآن ذاته.
الحبة الزرقاء والحبة الحمراء
في الفيلم الشهير الماتريكس، يعرض مورفيوس على نيو الاختيار بين حبة زرقاء وأخرى حمراء. إذا اختار الزرقاء فسينام وبعد استيقاظه ستكون كل الأمور كما هي معتادة ولن يتغير أي شيء. أما إذ اختار الحمراء، فإنه سيتمكن من تجاوز الواقع واكتشاف الحقيقة. طبعاً كما هو معروف سيختار نيو الحبة الحمراء، وهذا هو ما سيمكنه من اختراق الماتريكس كي يكون هو المنقذ. نحتاج إذن إلى هذه الحبة الحمراء كي نحطم قيود الواقع ونتجاوز البداهة، ونحلق فوق الأبعاد الحسية المحدودة.
تمنحنا الفلسفات الشرقية الكثير من الطرق لتحقيق الاستنارة، وذلك عن طريق التأمل العميق بهدف الوصول إلى النيرفانا كما هو الأمر مع البوذية. أو عن طريق الساتوري كما في الزن، أما الصوفية الإسلامية فهي تقترح الانخطاف L’extase والذي نصل إليه عندما نقوم بتصفية الذات من كل ما يربطها بالمتع الحسية. وبالعودة إلى تاريخ الفكر الإنساني، نجد العديد من المفكرين والعلماء من عاشوا مثل هذه التجارب الخاصة التي ساعدتهم على الوصول إلى ما وصلوا إليه. فهذا أرخميدس على ما يحكى نزل عليه الإلهام وهو في مغطسه، فخرج إلى الشارع عارياً، وهو يصيح أوريكا أوريكا. وبليز باسكال الذي أصابته حمى شديدة جعلته يكتشف محدودية الأنا في مقابل لا نهائية المطلق. نحن اليوم نقف موقفاً شبيهاً بذلك الذي عاشه ديكارت خلال القرن 17 حينما لاحظ عجز المنظومة الفكرية الأرسطية عن الإجابة عن الإشكالات التي طرحها العالم الجديد الذي أوجدته النهضة العلمية. إن هذا هو ما دفع أب العقلانية كما هو معروف إلى المطالبة بضرورة مسح الطاولة، أي التخلص من الموروث البائد الذي خلفته الأرسطية من أجل بناء منظومة معرفية جديدة تستطيع أن تستوعب الإشكالات الحديثة.
المسح الجدري للطاولة
إن عدد المجاهيل وحجم الغموض الذي يكتنف الكون يفوق بكثير الحقائق والمسلمات التي نعرفها عنه. نحن بالكاد نفتح صفحة جديدة هي صفحة الواقع اللامرئي، فنكتشف أننا أمام محيط لانهائي من الأسرار والغموض، وما لم نتجاوز التفكير خارج المصفوفة المعتادة للمعارف الأكاديمية، فإننا لن نتمكن بالفعل من تلمس طريقنا بشكل جيد نحو هذه الذخائر الجديدة من الحقائق.
إننا بالمثل مطالبين بمسح الطاولة، ولكن ليس فقط على المستوى المعرفي والعقلي، بل أيضاً على المستوى الحضاري والوجودي بشكل عام. لا يتعلق الأمر هنا بدعوة لإحياء الديكارتية لأن الخطوة التي قام بها ديكارت كانت خطوة عقلية، تتحرك ضمن منهج واثق من بلوغ اليقين، بينما عالمنا هو عالم اللايقين بامتياز، عالم الغرابة المقلقة.
إن الخطوة التي نطالب بها هنا تتجاوز مجرد كونها حركة منهجية للعقل، لأنها تتطلب القيام بتغيرات جذرية وعميقة ستطال مفهوم الحياة والوعي بل ومفهوم الإنسان ذاته. تغيرات لا نملك الخيار في العدول عنها. مسح الطاولة يقتضي من بين ما يقتضيه مناقشة ما لم يخطر بتاتاً على الفلسفة حتى في صيغها الأكثر تمرداً مع نيتشه، أو الأكثر ارتباطاً بفكر الوجود مع هيدغر. إذ ما الذي نعرفه حقاً حول ما نعتقد أننا نعرفه. إن التفكير الحقيقي لا بد أن يكون تفكيراً فيما لم يفكر فيه بعد، فيما هو غير قابل للتفكير بلغة الفلسفة الكلاسيكية، التفكير الألفي هو مواجهة للغرابة الجذرية.

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©