السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السياحة الكينية تحمل طقوس القارة السمراء وتسير بين ممرات الخطر

السياحة الكينية تحمل طقوس القارة السمراء وتسير بين ممرات الخطر
2 نوفمبر 2010 20:19
مهما سمعت عن كينيا لا تتوقع أبداً ما ستراه وتسمعه حين تزور مناطقها التي لا يزال العيش فيها على بدائيته.. وخصوصاً إذا لم يكن مقصدك العاصمة نيروبي أو المدن الأخرى. على الحدود مع تنزانيا أو قريباً من هذه الحدود، محمية ماساي مارا، حيث الحياة البرية والحيوانات التي نسميها بالمتوحشة مثل الأسود والنمور والأفيال وعجول النهر والتماسيح، وتلك التي نتآلف معها مثل الزرافات والغزلان والقرود على أنواعها والطيور بمختلف الأنواع والأحجام. الدخول في محمية ماساي مارا من مطار صغير حطت فيه الطائرة الصغيرة التي تتسع لستين راكباً والآتية بمجموعة من الصحفيين والإعلاميين من مختلف أنحاء العالم بدعوة من “الناشيونال جيوغرافيك” العالمية، ولوج إلى عالم آخر يبعد كل البعد عن الحياة المدنية.. في بعض الأماكن ينقطع إرسال الهواتف الخلوية وربما يشعر المرء أنها نعمة.. ففي أجواء لا يسمع فيها إلا همسات الحياة البرية الهانئة عند حرّ الظهيرة والمتحركة بشيء من الضجيج في الليل، يبدو رنين الهاتف نشازاً غريباً. يبدأ الحوار رقصاً تنتشر إلى جانب بعضها البعض، مخيمات كينية حكومية مخصصة للسياح الهاربين من تلوث المدينة إلى الحياة البرية، يتولى حراس مسلحون حمايتها من طبيعة الحياة البرية هذه في ظل وجود حيوانات مفترسة منتشرة في أراضيها الشاسعة. حين استقبلنا الكينيون الرجال في المطار الصغير، اعتقدنا أنهم يرقصون رقصة استمدوها من فولكلورهم ليعرفونا على طبيعة حياتهم من خلال الموسيقى التي تلعب بها أوتار حناجرهم وقفزاتهم على الأرض في محاولة لإظهار البراعة في هذا القفز.. لكن اتضح لنا فيما بعد، وعند زيارة قريتهم والمدرسة الوحيدة في تلك الأنحاء، أن هذه هي حياتهم التي لا يعرفون، ولا يتكئون فيها، على التعاملات المادية، ولهذا الشأن قصة أخرى تظهر بدايات مثيرة للاهتمام تشي بأن ثمة تحوّلات في دورة تعاملاتهم قد تدخلهم إلى عصور التعامل بالعملات من بابه الواسع. ثمة رقصة تمزج بين رقصة الحرب وإبراز قدرات المحارب - والمحارب هنا يحمل رمحاً كونه محارباً- صياداً أكثر منه جندي يود دخول حرب أو يشارك في حرب، وفي الرقص الترحيبي يُستبدل الرمح بغصن شجرة وبوريقات خضراء يحملها قائد الرقصة. هذه الرقصة تكررت حين زار وفد من الصحفيين المشاركين في الرحلة القرية البدائية التي اعتقدنا بداية أنها مجرد مثال عن الحياة الكينية البرية وضعت من أجل السياح، لنكتشف أنها ليست إلا نموذجاً واقعياً معبّراً عن حياة المناطق النائية البعيدة عن المدينة. رعب يخرج من النهر النصيحة الأولى التي نسمعها من المشرفين الأمنيين على المخيم والذين غير مسموح التحرك من دون مرافقتهم بين أطراف المخيم “لا تقفوا أبداً أبداً أبداً بين فرس النهر والماء”. وهذا التشديد يعني إذا خرج أحد أفراس النهر من الماء وتحرك في ممرات المخيم وبين الأشجار، يجب الابتعاد عن التواجد بين المكان الذي يقف فيه وبين النهر. وعلى عكس هذه الأفراس النهرية الضخمة التي تثير الرعب إذا قررت الخروج من الماء والتنزه في المخيم، فرس نهر وليد بات كأنه أحد عناصر المخيم إلى درجة التعامل معه وكأنه قد دجّن وبات حيواناً أليفاً.. وقد يبقى كذلك حينما يكبر ويصبح أضخم، وقد يعود إلى دوره كحيوان نهري وبرّي على السواء من الضروري الانتباه له وعدم الاقتراب منه أو الوقوف في المنطقة الواقعة بين مكان وجوده والنهر. الحقيقة الجغرافية هي أن الأنهار تتجه من الجنوب إلى الشمال، عدا نهر «العاصي» الذي يتجه من الشمال إلى الجنوب. في هذه المخيمات المتناثرة على أطراف النهر والتي تزورها الأسود في الليل أو الأفيال التي قد تمتد زياراتها من الليل إلى ما بعد الظهر، تحتل عجول النهر المساحة النهرية فيما تسود التماسيح في مناطق نهرية أخرى. لكأن لامتدادات النهر ومساراته تقسيمات متفق عليها ضمنياً بين الحيوانات، وللزائر من قسم إلى آخر قد يقع فريسة سهلة بين فك التمساح المتربص بكل مار جريء. تناقض المشهد المخيم إذاً في داخل خيمه وكذلك في ردهة مطعمه يصنّف بين المخيمات مخيم خمس نجوم، تتوفر فيه خدمة الإيقاظ وطلب الفطور والقهوة صباحاً من دون الحاجة إلى التحرك نحو المطعم، ولكن على الذي يبيت فيه أن يقدم طلباته شفوياً ففي المساء لينالها في الصباح، وذلك أن لا خدمة اتصالات متوفرة بين الخيم وموظفي الاستقبال، ولا صوت إلا صوت أجهزة إرسال الـ”راينجرز” (ووكي توكي) المنتشرة في أطرف وممرات ومفارق المخيم. بين المخيمات هذه والقرية مسافة ساعة في الجيب العسكري الأخضر، وفي القرية تغيب كل مظاهر الترف تماماً وتبدأ مشاهد صارخة في تناقضاتها.. بعد استقبال المسؤول عن المخيم الذي يبدو دليلاً للسياح - تستقبلنا نساء ترتدين الأثواب التي تعج بالألوان الفاقعة المحببة لدى معظم الشعوب الأفريقية بزينتهنّ المصنوعة يدوياً والتي يزداد عددها من حلق وعقود وأساور عند المسنّات- ومعروف أن الكبيرات في السنّ يزداد ولعهنّ بالزينة أكثر من الفتيات الصغيرات.. وتبدأ الأغاني أو الأهازيج وتدرجات بارعة تبرز براعة في التلاعب بالأوتار الصوتية التي تستخدم بديلاً عن الآلات الموسيقية. سور العيدان اليابسة المرأة الأكبر سنّاً تردد عبارات وتحدث أصواتاً وتتبعها وتردد وراءها مستجيبة أصوات النساء الأخريات.. هي تقودهنّ وتحمّس الأجواء وجميعهنّ تقفن صفاً واحدا تؤدين مع الأصوات رقصة خفيفة بانحناءات الأكتاف وضرب القدمين على الأرض في مراوحة في المكان ذاته بحيث لا يتزحزح الصف قيد أنملة عن مكانه. أقدام عارية وأخرى بنعول ملوّنة تشي بدخول السوق الصناعي ودقّه أبواب هذه القرية النائية، من دون أن يكون لدى هذه القرية أية صناعة أو أي انتاج غير الانتاج الزراعي وما تجود به الحيوانات الأليفة من لبن ولحوم.. والرعاة لا يتوغلون كثيراً في محيط القرية كي لا يفقدون أحد الأبقار أو الماعز التي يمتلكون. ثمة توديع من الرجال بعد استقبال النساء والجولة في القرية التي هي عبارة عن دائرة واحدة يتشارك سكن بيوتها المصنوعة من التراب والقش المجبولين بالماء والتي تتألف تقريباً من غرفة واحدة تقسم بجدار لإيواء البقرة التي تمتلكها كل عائلة، وتسوّرها العيدان اليابسة المحكمة في تجميعها لتشكل جداراً يقي سكان القرية والحيوانات الأليفة فيها من هجوم الحيوانات المفترسة إلى حدّ ما. طقوس الوداع الوداع هو مع رقصة المحاربين التي يؤديها الرجال، وبعضهم حفاة وبعضهم مثل بعض النساء ينتعلون صنادل ملوّنة وزاهية، وقد أصرّ أحد هؤلاء الرجال - كونه قد اعتاد دوره السياحي في تأدية الرقصة فباتت شيئاً تافهاً بالنسبة له يؤديه من دون رغبة أو اهتمام به- على التشبّث وهو يرقص بكيس ملوّن قادم إليه من مدينة تعجّ بالمحال التجارية. لم يعذّب نفسه فيضعه جانباً لتأدية رقصة المحارب. وللأطفال حكايتهم مع الأطفال قصة أخرى، الميدان أو الساحة الدائرية هي ملعبهم والسياح يشكلون نوعاً من التسلية لهم، يتدافع بعضهم لينال صورة ويصرّ على رؤيتها في الكاميرات الديجيتال، وباتوا يعرفون أن بوسعهم رؤية الصورة، يركضون في الساحة أو يخرجون منها إلى السوق الذي هو عبارة عن دائرة متصلة بالقرية الصغيرة أو يستريحون في الخارج بالقرب من الكبار الذين يرعون الماعز والأبقار، فتستريح إلى جانب الأطفال كلاب الرعاة باتفاق ضمني على أن حرارة الشمس تدعو إلى هذه الاستراحة عن الحراسة واللعب. الساحة تراب وسماد الماعز والأبقار، لا فرق بينها وأقدام الأطفال العارية تدوسها متنقلة بزغب اللعب والفرح بالتموضع لنيل صورة من العدسات المحملقة بالحياة التي لا تزال على فطريتها وعفويتها. حرارة الشمس الصيفية التي قد تتحوّل إلى موجة برد فجائية بعد أن تهبّ العاصفة وتتساقط الأمطار الاستوائية فجأة وتغيب معالم الطرقات الترابية وتتوحّل ويصبح الموقف صعباً لغير الخبراء، أما السائقون في المخيمات فيبدو أنهم قد حفظوا المسارات وبوسعهم القيادة على هذه الطرقات غير المعبّدة وعيونهم مقفلة. الأطفال يلعبون كرة القدم بكرات مصنوعة يدوياً.. يفرحون بكاميرات التصوير ترصدهم.. والصبايا تساعدن النساء الكبيرات في مجادلات السوق، والسوق يغض بتماثيل خشبية منحوتة يدوياً وبالحلق الخرزية أو العاجية والعقود المتنوعة الألوان والتي تعلن الاحتفالات الكبيرة باحتشادها في القطعة الواحدة. فالعقد الواحد قد يكون مصنوعاً من ستة ألوان أو أكثر، وكذلك الحلق. السوق هذا هو التعامل المادي الوحيد بالعملات في هذه القرية ولكن له قواعده القائمة على أنه ليس هناك قاعدة للبيع والشراء والتسعير وإمكانية الحسومات، إلا إذا عرفت اللعبة ودخلت في المجادلة في السعر. فأي شيء يباع قد ينتقل بسهولة من الألفي شيلينغ كيني إلى مئتي شيلينج.. هذا إذا دخلت اللعبة باحتراف، إذ أن الصبايا في القرية لا يحببن من يقول هذا غالٍ لأن اللعبة تقوم على المجادلة.. والصبية تحبّ الدخول فيها وإلا لن يهمّها البيع أبداً.. وكذلك النساء المسنّات، اللواتي لا يميّزن بين الألفين والمئتين إنما بين الحصول على العملة وتسليمها لمسؤول القرية أو شيخها أو عدم الحصول عليها.. غير أن المسنّات أيضاً تهمهنّ لعبة المجادلة وبدونها لا رغبة لديهنّ بالبيع أساساً، فهنّ دخلن عالم العملات من بابه الصغير هذا ولكن العملة بحدّ ذاتها لا تقدّم ولا تؤخر بالنسبة إليهنّ. العلم ولو كينيا يقول لنا دليلنا السياحي في القرية وهو من أبناءئها، إنهم لا يستخدمون هذا المال إلا لإرسال بعض الأولاد إلى المدرسة الداخلية. وبين القرية والمدرسة مسافة ساعة أخرى، وهي مدرسة حكومية تتلقى المساعدات من المنظمات غير الحكومية العالمية.. يعتبر الولد أو الفتاة فيها شخصا تمت النعمة عليه بقبوله فيها، حيث يتلقى التعليم وينام في سرير صغير قد يشاركه به أحد آخر، وفرشته (المرتبة) اسفنجية خفيفة تعتبر ترفاً بالنسبة للإقامة مع الأهل في القرية في البيت الصغير مع كل الأخوة والأهل بمساحة مترين بمترين للغرفة التي يتكدسون فيها. في المدرسة، لا فرق بين ولد وفتاة، لأن على الجميع قص شعورهم، لكن الفتيات يلجأن للترافق معاً والتجمع معا في حين ينأى عنهم الصبيان في أجوائهم الخاصة بهم. الفتيات يتعلمن اللغة والحساب كما الفتيان، إنما يتعلّمن أيضاً الطهي والخياطة وما إلى ذلك من أمور تعتبر خاصة بالفتيات، فيما يتعلم الفتيان الزراعة وأساليبها وتربية الدواجن والحيوانات الأليفة. فوبيا القادمين مكتبة المدرسة المتواضعة وأبنية المدرسة الهيكلية والتي لا تتوسع أو يتحسن وضعها إلا بناء على المساعدات التي تتلقاها، تفصح بشيء من القلق من الزيارات السياحية المتكررة إليها، فهل السياحة ومشاهدة القرية والمدرسة والأطفال والحياة البرية في كينيا حق للسائح؟ وهل السائح محتلّ عابر يأتي بأشيائه ملوثاً المكان البري البدائي مدخلاً ألواناً لم يعتد عليها حائكو الصوف الطبيعي الميالون إلى اللون الأحمر الذي يميّزهم في البراري ويبعد عنهم أحياناً هجوم الحيوانات المفترسة- كما يقولون هم شارحين للوفود أنه الأنسب لتآلفهم في المكان مع كل ما يحيط بهم في مكا هو اللا مكان مع المدنيات الصناعية والعمرانية الضخمة التي غزت مدنهم وبقيت إلى اليوم نائية عنهم بعض الشيء، مقدمة لهم وجبة مختلفة سريعة لا تعب في تحضيرها، منهكة لأنها لا تعترف بتعاملاتهم في التبادل التجاري لأنها تفترض مطابع خاصة لإصدار أوراق تحترق بسرعة وتذريها الريح إذا ما هبّت، لا يزالون إلى اليوم حين يمسكون بها (أوراق العملات) يقدّرونها كما يجب أن تقدّر، ورقة وألوان وحبر لا أكثر ولا أقل.. ورقة لدخول مدرسة داخلية لعدد محدّد من الأولاد تؤمن فيها الأسرة ووجبات الطعام المطهية في الفلاء.. في حين يبقى الزواج لديهم - وغالبيتهم في القرية مسلمون- مرهون بعدد البقر الذي يمتلكونه، فمن استطاع امتلاك عشر بقرات يحق له الزواج بامرأة... ولا شرع عندهم يفرض عليهم عدم تجاوز عدد الزوجات المسموح به لكل رجل بأربع نساء... فمن يتمكن من جمع مئة بقرة له أن يتزوج عشر نساء إذا أراد، كما يشرح لنا الدليل - وهو من أبناء القرية ولم يجمع هو وأهله عشر بقرات بعد ليتزوج - مؤكداً أنه مسلم ويصلي.. ولكن الحياة في البراري الكينية بين الحيوانات المفترسة- وإن كان ضمن محمية ضخمة اسمها ماساي مارا- له قانونه الاجتماعي الخاص الذي يتداخل مع القانون الديني ويتآلف معه ببساطة وبراءة الخطوات الإنسانية الأولية. «جامبو» هي عبارة تعني السلام عند لقاء الناس بعضهم البعض، لكنها في المخيمات الكينية الحكومية التي تنظم شؤونها الأمنية مجموعات مسلحة تتبع الحكومة ليست بشرطة ولا أمن ويدل على عناصرها بالإنجليزية بالـ”راينجرز” Rangers.. مع هؤلاء وخصوصاً في مداخل المخيمات المنتشرة للسياحة في ماساي مارا، يرافق السلام الاستقبالي تحية عسكرية لكل الوافدين يلقيها حارس المخيم الذي تصبح مشاهدته عند كل فجر تنطلق فيه سيارات الجيب الخضراء أمراً - على تكراره- مثيراً للاهتمام، يتفاعل معه السواح فيؤدون له التحية بدورهم وتتكرر على ألسنتهم عبارة “جامبو”. حياة المخيمات تختلف تماماً عن حياة القرية التي قصدها الوفد الزائر، ففي المخيم خيم بأرقام بالوسع القول في وجودها أنها خيم خمسة نجوم، فلا نوم على الأرض أو ما شابه في المخيمات العادية التي تنظمها النوادي والجمعيات للشبان ليخرجوا من أجواء حياة المدينة إلى أجواء البرية. كل ما في المخيم من طرقات وموقع على النهر الذي تكاثر فيه حيوان عجل البحر الضخم، يشي بالحياة البريـة بامتياز، إلا داخل الخيم. فالخيم لها أرضية مبلّطة وفي كل واحدة منها حمامها الخـاص ووسـائل الإنارة الكهربائيـة بالإضافة إلى بابور الجاز.
المصدر: كينيا
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©